مَن حكم ومَن لم يحكمْ بين رؤساء مصر

 

جدّدت وفاة محمد مرسي النقاش حول حكّام مصر في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين. وكان هناك إجماع في التغطية، شرقاً وغرباً، على أن مرسي كان أوّل رئيس منتَخب لمصر في تاريخها. لكن لا يُثري هذا النقاش، ولا يُضفي إضاءات جديدة عليه، أكثر من كتاب حازم قنديل، «جنود وجواسيس وحكّام: طريق مصر إلى الثورة». قد يكون هذا الكتاب (المكتوب بالإنكليزيّة بأسلوب شائق) من أهمّ الدراسات الجديدة عن السياسة المعاصرة في الشرق الأوسط، وترجمته إلى العربيّة ضروريّة لأن فيه الكثير مما سيغيّر من انطباعات العرب عن دور حكّام مصر في القرن العشرين والواحد والعشرين. والكتاب يعتمد على المراجع الإنكليزيّة والعربيّة على حدّ سواء: والكتابة عن مصر إمّا تعتمد حصريّاً على المراجع الإنكليزيّة وإما تعتمد حصريّاً على المراجع العربيّة. والفريد في قنديل (يحمل الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس) أنه يستطيع أن يجد ما فاتَ غيره ممّن قرأوا نفس المذكّرات من المسؤولين المصريّين والأميركيّين.

والكتاب يدحضُ الكثير من النظريّات السائدة عن طبيعة النظام في مصر وفي الدول العربيّة. وهو ينجح في إقناعنا بضرورة التخلّي عن انطباعات سائدة مغلوطة حول دور الجيش. لا يرى قنديل الجيش على أنه بالضرورة أداة طيّعة بيد الحاكم حتى في الدول غير الديموقراطيّة. والذي جرى في السودان والجزائر أخيراً يؤكّد فكرة الكاتب بأن للجيش دوراً وسلطة لا ترتبط كليّاً بالضرورة مع دور وسلطة الحاكم. الجيش في السودان تخلّى في اللحظة التي تهدّدت فيها مصالحه عن السلطان العسكري الذي وصل إلى الحكم عبر الجيش، كما أن الجيش في الجزائر تخلّى عن الحاكم المدني الذي اعتمد على الجيش في وصوله في معادلة مبهمة.

الملك فاروق لم يكن حاكماً طبعاً، إذ هو خضع للمشيئة البريطانيّة، كما أن السياسة الداخليّة شهدت صراعاً بينه وبين «الوفد». لكن رئاسة الجمهوريّة انتقلت إلى محمد نجيب بعد «الثورة». والنظريّة السائدة كان مفادها أن عبد الناصر استأثر بالحكم ولم يتح الفرصة للرئيس نجيب الديموقراطي أن يحكم. لكن الصورة كما ترد في تحليل قنديل أن الوضع في الحكم في مصر، وحتى في داخل القوات المسلّحة في الفترة التي سبقت وتلت استقالة نجيب، ليست كما خُيِّل في الروايات المعادية لعبد الناصر. لم يكن الوضع مستقرّاً في الحكم حتى لعبد الناصر، وشهدت مصر بين ١٩٥٢ و١٩٥٤ حركات تمرّد في سلاح الفرسان وسلاح المدفعيّة. ولم يكن عبد الناصر بالضرورة هو المُصِرّ بين أعضاء مجلس الثورة على رفض الديموقراطيّة. وكان يجب على قنديل التشكيك بصدق شعارات نجيب (خصوصاً بعد إقصائه) عن حبّه للديموقراطيّة لأن المناداة بالديموقراطيّة لمن لا يملك السلطة أسهل على الذي يملكها. لكن قنديل يعترف ليس فقط أن نجيب حاول استمالة الإدارة الأميركيّة عبر حلفائه من الإخوان، بل أن الطبقات الاجتماعيّة البائدة، من «المُلّاك الأرستقراطيّين والبورجوازيّة الثريّة» (ص. ٤٠) كانت داعمة له. وأحمد المصري (الذي كان من قادة الحركة الانقلابيّة في سلاح الفرسان) في رسالة من سجنه، ألقى باللائمة على نخبة الاستخبارات في الحكم وليس على عبد الناصر في قمع الحركة (وهذا يتوافق، يضيف قنديل، ص. ٣٤، مع رواية أنور السادات نفسه في «البحث عن الذات» بأن عبد الناصر أيّد الديموقراطيّة في أول اجتماع لمجلس قيادة الثورة لكن الجهاز الأمني المتعطّش للسلطة عارض ذلك. هذا لا يعفي من الحكم على نظام كان عبد الناصر على رأسه على مدى نحو عقديْن من الزمن).

لكن كتاب قنديل يضيء على جوانب غير معروفة سابقاً. يحاجج المؤلّف أن عبد الناصر لم يكن هو الحاكم الفعلي حتى في سنوات ذروة شعبيّته بين سنوات ١٩٥٦ و١٩٦٧ لأن النظام كان عرضةً لصراع مرير بين جهاز الجيش والمخابرات (عبد الحكيم عامر وشمس بدران وصلاح نصر) مقابل الجناح الذي ضمَّ سامي شرف وشعراوي جمعة. لكن العرض في الكتاب يقنعنا أن عبد الناصر لم يكن الحاكم الفعلي لمصر في كل تلك السنوات، وأن تحالف عامر – بدران – نصر هو الذي صنع القرارات في العديد من المسائل المصيريّة، وأن السياسات التي قادت إلى التهلكة لم تكن من صنع عبد الناصر وإنما من صنع عامر. وهذا التفسير يغالط النظريّة التي درجت في الكتب وعلى الشاشات أن الرابط العاطفي بين عبد الناصر وعامر هو الذي أفسد الحكم وأجبر عبد الناصر على تحمّل فساد وغباء عامر. وأذكر نظريّات علماء السياسة الأميركيّين حول أن الشلليّة هي التي حكمت النظام الناصري. لكن قنديل يعرض عجز جمال عبد الناصر عن اتخاذ قرار ضد عامر لأن الجيش لم يكن موالياً لعبد الناصر، وكانت المخابرات في يد نصر، شريك عامر في مؤامرة الحكم المستتر. يصف قنديل الوضع هكذا: «لم يكن ناصر ينوي إنشاء ديكتاتوريّة عسكريّة بل نظاماً شعبويّاً يعتمد على دعم العسكر كي يحكم باسم الشعب، ولم يكن يتصوّر دور العسكر كشريك مستقبلي، خلافاً لعامر». (ص. ٤١)

من الطبيعي أن يأخذ موضوعَيْ حرب ١٩٦٧ وحرب ١٩٧٣ اهتمام القراء. قد تكون المعلومات في الكتاب معروفة عند بعض المختصّين لكن قنديل نجح في تنسيقها لدعم منهجه التحليلي عن علاقة قطاعات السلطة بعضها ببعض. وانقسام النظام الناصري إلى أجنحة متصارعة أصبح معلناً بعد هزيمة ١٩٦٧ حين صارح عبد الناصر جمهوره بتحوّل الدولة إلى نظام مخابرات. والكلام عن عبد الناصر صعب حتى بعد هذه العقود من وفاته لأن أحداً لم يتعرّض للتهشيم والتشويه والافتراء (على يد أبواق الصهيونيّة في الغرب وأبواق آل سعود ومبارك والسادات في الشرق) مثل عبد الناصر. يتفق الكاتب مع وصف حكم عبد الناصر على أنه كان حكماً ديكتاتوريّاً لكن من دون ديكتاتور لأن الحاكم لم يكن يملك سلطة القرار في مسائل أساسيّة في الحكم (إن في الحرب والسلم أو في الجيش أو المخابرات) (ص. ٤٢). والجدال حول هذا الموضوع مُضحك بعض الشيء لأنه بدأ في ظل ديكتاتوريّة أنور السادات وفي الصحف المموّلة من أنظمة ديكتاتوريّات الخليج. والجدال هذا منقول من دعاية الغرب الذي يضع كل الأنظمة التي لا تخضع له في مجهر معايير الديموقراطيّة، وينجو من المجهر مَن يسير مطيعاً مثل السادات. ويضيف عصمت سيف الدولة في كتابه «هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً» سياقات ضروريّة للموضوع، حول الأخذ في الحسبان طبيعة نظام القهر الطبقي السائد أيّام الملكيّة والنخبويّة الاجتماعيّة الصارمة التي قضت الثورة عليها (لكن ليس تماماً). الديموقراطيّة لا تغيّر بالضرورة من نظام القهر الطبقي لا بل هي تشرعن نمط تمثيله وكسبه للشرعيّة السياسيّة (قارن ذلك بازدهار الفكر وصور الحنين إلى عصر الاستعمار الذي يزرعه الغرب وأنظمة الخليج في الثقافة العربيّة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي).

يمكن معرفة مصيبة مصر الكبرى في تعاطي عامر مع العدوان الثلاثي. أحمد حمروش روى مشهد زيارة عبد الناصر لمقر القيادة العسكريّة في ٣١ أكتوبر ١٩٥٦ وعن انهيار عامر (الذي عاد وانهار يوم الانفصال ثم عاد وانهار مرّة أخرى في هزيمة ١٩٦٧، مما يبدّد الشكوك حول صحة إعلان انتحاره). وقد أمسك عبد الناصر بزمام الأمور بعد أن رفض طلب عامر للاستسلام الكامل، وأمر عبد الناصر بانسحاب منظّم من سيناء وبتنظيم المقاومة التي أصبحت بطوليّة. لو أن عبد الناصر استطاع أن يمسك بزمام الأمور في ١٩٦٧ (قبل الحرب) لكان يمكن تجنّب الهزيمة، ولكان بالتأكيد يمكن التخفيف من عمق الهزيمة ومداها (بعد الحرب).

وهزيمة ١٩٧٦ طبعت جيلاً بكامله وأثّرت سلباً على وعيه. أنا كنتُ في سن السابعة ولم أُشفَ بعد من وقع الهزيمة المدويّة التي أذكر ليلتها يوم خرج الناس في حيّنا بأثواب النوم وهم يهتفون من منطقة النويري إلى كورنيش المزرعة: «عبد الناصر، يا حبيب. بدنا نحرّر، تل أبيب». ولوم عبد الناصر كان في الخطأ في الحساب وفي توكيل قيادة القوّات المسلّحة إلى المهرّج، عبد الحكيم عامر. لكن المراجعة التاريخيّة التي ترد في كتاب قنديل (كما في غيره من الروايات المنصفة) تؤكّد أن عبد الناصر حاول منذ ١٩٥٦ أن يقصي عامر عن القيادة لكنه لم يستطع. وهذا هو الجانب المجهول عن رجلٍ امتلكَ الشارع العربي برمّته ودفع بأمراء من آل سعود للانشقاق والالتحاق بحركته الثوريّة، لكنّه عجز عن امتلاك ناصية حكمه. هذه هي مفارقة حكم جمال عبد الناصر. قنديل يصف الوضع الذي نشأ بعد ١٩٥٦، بأن عامر أنشأ دولة في داخل الدولة لكن طموحه كان أن يحكم بدلاً من عبد الناصر، لكن ذلك استحال. وكانت الترقيات في الجيش المصري على أيّام عامر مثل الترقيات في قوّات «فتح» على أيّام ياسر عرفات: الطاعة والولاء أهم من الكفاءة والجدارة. وكان القطاع العسكري-الاستخباراتي الذي يسيطر عليه عامر يمدّ الرئيس بحكايات عن انقلابات منتظمة كي يبقى عبد الناصر في حالة عدم استقرار تمنعه من إعادة تشكيل الجيش. ولم يُوفَّق عبد الناصر في اختراق الجهاز الاستخباراتي التابع لعامر، لأن صلاح نصر نجح في إفشال تلك المحاولات.

قد يبدو من المبالغة القول إن كوارث المرحلة الناصريّة — مصريّاً وعربيّاً — كانت من صنع عبد الحكيم عامر، لكن رواية قنديل المفصّلة والدقيقة ترسم مراحلها: من ١٩٥٦ إلى تجربة الوحدة المدمِّرة إلى الحرب في اليمن حتى هزيمة ١٩٦٧. هذه كلّها كانت من صنع دولة عبد الحكيم عامر. وبعد تجربة الانفصال (التي قادها واحد من جماعة عامر) حزم عبد الناصر أمره للتخلّص منه. لكن صعوبة ذلك تتوضّح من خلال الإخراج الذي نسجه عبد الناصر، وكان ذلك بعد تقديم عامر لاستقالته. لكن زكريا محي الدين وسامي شرف كشفا في كانون الثاني١٩٦٢ مؤامرة عسكريّة لتنصيب عامر وإقصاء عبد الناصر. أجّل عبد الناصر عمليّة التخلّص من عامر حتى أيلول ١٩٦٢ (ص. ٥١). وطلب عبد الناصر من عامر تقديم استقالته من قيادة القوّات المسلّحة كي ينضم إلى مجلس رئاسي جديد. لكن عامر غيّرَ رأيه وقرّر البقاء في قيادة الجيش، خلافاً لوعده. وبعد مماطلة قدّم عامر استقالة خطيّة تضمّنت تقريعاً بديكتاتوريّة عبد الناصر وحديثاً مفاجئاً عن حب عبد الحكيم عامر للديموقراطيّة. وبعد مفاوضات شاقّة، لم يعد عامر إلى موقعه لا بل هو عزّز مكانته ونال ألقاباً جديدة جعلت منه شريكاً ومنافساً لعبد الناصر في الحكم. اعترف عبد الناصر لزكريّا محي الدين أن هناك دولتيْن في مصر بعد هذا الانقلاب: دولة رسميّة يرأسها عبد الناصر ودولة ظلّ يرأسها عامر. لكن عبد الناصر أقرّ لأنور السادات بأن عامر هو الحاكم الفعلي.

وكان إنشاء التنظيم الطليعي محاولة من عبد النصار للإمساك بعناصر قوّة جديدة في مواجهة دولة المخابرات والجيش التي كانت في يد عامر. عبد الناصر فشل أيضاً في التنظيم السياسي إذ أن تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي لم تكن إلا تأطيراً للبيروقراطيّين في المدن والمنتفعين في الأرياف. وليس من دليل على فشل التجربة إلا سرعة انهيار الناصريّة، في مصر وفي العالم العربي بعد وفاة جمال عبد الناصر. ولم يكن الصراع الطبقي بعيداً عن المواجهة بين عامر وعبد الناصر، إذ أن طبقة البورجوازيّة كانت على صلة بعامر في حركته الوجيزة من أجل الديموقراطيّة. ويذكّر قنديل أن ثلثيْ الاقتصاد المصري في تلك الفترة كان في يد القطاع الخاص، لا العام.

 

هزيمة 67

أما الفصل المتعلّق بهزيمة ١٩٦٧ فهي تبقى من أفضل ما كُتب من شرح بسيط ومفيد عن تلك المرحلة الهامّة. يشرح قنديل بإقناع أنه خلافاً لما هو شائع فإن عبد الناصر بقي حتى اللحظة الأخيرة يحاول أن يتلافى الكارثة فيما كان سرّ الهزيمة عزم عبد الحكيم عامر على خوض مغامرة عسكريّة لتعزيز موقعه في السلطة. يقول قنديل إن شلّة عامر كانت على قناعة أنه لو لم تقم بـ«شيء باهر قريباً» (ص. ٦٥) فإن عبد الناصر سيستولي على سلطتها. أي أن المعركة لم تكن من أجل تحرير فلسطين أو الدفاع عن سوريا بل هي كانت مغامرة من عامر لفرض نفوذ دولة الظلّ التي يديرها. والخيانة العظمى التي ارتكبها عامر أنه كان على يقين، حسب قنديل، أن جيشه غير معدّ أو مجهّز للحرب، لكنه مضى في المغامرة. وكانت حرب اليمن كافية كي يرى عامر قدر عدم أهليّة الجيش المصري ضد عصابات الملكيّة وأعوانها في اليمن، فما بالك ضدّ أقوى جيش في الشرق الأوسط؟

وقنديل على حق بأن عامر لم يكترث لأداء جيشه البائس في حرب اليمن لأن حساباته كانت سلطويّة. والذي انجرّ إلى الردّ على مزايدات النظام الأردني والسعودي والسوري قبل الحرب، كان عامر قد أرسل برقيّة إلى عبد الناصر من باكستان طالب فيها بنشر قوّات مصريّة في سيناء لدحض فكرة الاختباء وراء قوات الأمم المتحدة — وفكرة الاختباء روّجت أبواق الرجعيّة، مثل وصفي التل في الأردن، لها. وأعلن عامر التعبئة العامّة من دون مشورة عبد الناصر، الذي طالب بالتدقيق في التقارير التي تحدّثت عن حشود إسرائيليّة ضد سوريا. ومبعوث عبد الناصر إلى سوريا نفى في ١٥ أيّار وجود حشود إسرائيليّة. وحذّر عبد الناصر عامر من أي تصعيد في المنطقة. ووردت تقارير إلى مصر أن أميركا وإسرائيل تعدّان لاستدراج مصر إلى حرب مدمِّرة. وخدع عامر عبد الناصر حول نص المذكّرة التي كان سيرسلها إلى الأمم المتحدة، إذ كان عبد الناصر قد طالب بانسحاب جزئي لا كامل في تعديل أدخله على النص الذي حضّره عامر. لكن عامر أرسل نصَّه من دون تعديل متذرعاً بحدوث خطأ تقني. لكن عبد الناصر لم يودّ أن يرضخ لسيناريو الأمر الواقع، فاتصل بالأمم المتحدة في نيويورك لسحب الطلب لكن نائب الأمين العام، الأميركي رالف بونش رفضَ طلب عبد الناصر (دور رالف بونش هذا في خدمة الصهيونيّة يحتاج إلى دراسة مفصّلة وهناك تقدير كبير في إسرائيل وعند صهاينة أميركا له). والذي يشير إلى مسؤوليّة قطاع عامر في الحكم هو اعتراف بدران الذي يستشهد به المؤلف، إذ أن بدران اعترف في شباط ١٩٦٨: «كنّا متأكدين ١٠٠٪ أن إسرائيل لن تجرؤ على الهجوم». هذا الحساب أدّى إلى الهزيمة، التي عمّقها أداء وتعليمات عامر (عدم حماية الطائرات والانسحاب غير المنظم من سيناء وتعطيل الرادارات لحفظ سلامة عامر وشلته في الطائرة). وعندما علم فريق عامر بما صنعته يداه، حاول لوم عبد الناصر واتصل صلاح نصر بالمخابرات الأميركيّة عارضاً اعترافاً بإسرائيل مقابل مساعدة أميركيّة للتخلّص من عبد الناصر (ص. ٨٠).

لم يبدأ عبد الناصر بالحكم في مصر إلا بعد الهزيمة ولمدة ثلاث سنوات فقط. وفي هذه المدة، غيّرَ في هيكليّة الجيش وجعله جيشاً محترفاً يعدّ لمعركة التحرير، وخفّض عدد العسكريّين في الحكومات المصريّة. وترافقت الحرب كما تظهر الوثائق الأميركيّة مع خطة كانت قد وضعتها أميركا للتخلّص من عامر: ويستشهد قنديل بقول شارل ديغول عن تلك الحرب: إنها «تنفيذ إسرائيلي لحرب أميركيّة».

ورث السادات الحكم وأصبح بعد تصفية مراكز القوى حاكماً فعليّاً لمصر. والرجل الذي كان لصيقاً ذيليّاً بعبد الناصر (كما أنه كان على وئام مع عامر وكان مسؤولاً سياسيّاً عن الكارثة في اليمن) تعلّم من تجربة عبد الناصر وأضعف الجيش وأبعده عن العمل السياسي واستبدله لغايات القمع والسيطرة بالشرطة ووزارة الداخليّة. لكن ظروف قضاء السادات على خصومه لم تروَ بعد لأن رواية هيكل عنها ناقصة (يبقى دور هيكل في القضيّة من أسوأ أدواره تاريخيّاً إذ هو لعب دور القابلة الشرعيّة لصعود السادات برداء ناصري. لم يعلم هيكل كيف حصل السادات على التسجيلات وعلى أخبار الانقلاب المُعد. لكن كتاب أوين سيرز الجديد عن تاريخ المخابرات المصريّة كشف الحقيقة عن دور المخابرات الأميركيّة (نقلاً عن عميل لهم في الـ«كي.جي.بي») في إعلام السادات. يتضمّن هذا الكتاب الهام مضبطة اتهام قاطعة ضد أنور السادات كمُرتكب الخيانة العظمى ضد بلده وذلك قبل أن يطأ أرض فلسطين المحتلّة في ١٩٧٧. فقد أدار معركة تشرين وحوّل نصراً أكيداً إلى هزيمة محققة على الجبهة المصرية والسوريّة (لا يعترف النظامان بالهزيمة تلك لأن إعلان النصر كان ضروريّاً لشرعية النظاميْن). تقدّمت القوّات المصريّة والسوريّة في أوّل يوميْ الحرب من دون عائق. لكن بعد يوميْن فقط من التقدّم، أمرَ السادات قوّاته بالوقوف قبل الوصول إلى الممرّات الاستراتيجيّة في سيناء، والتي من دونها تصبح القوّات من دون حماية، وأعلم كيسنجر أن نيته هي فقط حرب محدودة. وهذا التوقّف سمح للعدوّ بتجميع قوّاته لرد القوات السوريّة على جبهة الجولان، قبل أن يتفرّغوا للانقضاض على القوّات المصريّة.

هذا الكتاب هو سرديّة مغايرة ورصينة للتاريخ المصري المعاصر، وفيه تحليل دقيق وشامل لطبيعة نظام الحكم منذ ثورة ٥٢ حتى حكم حسني مبارك، وكيف تابع مبارك نمط حكم السادات إلى أن شعر بخطر من صعود نجم عبد الحليم أبو غزالة فتخلّصَ منه. ويتضمّن الكتاب المفارقة الهائلة عن حكم السادات ومبارك: أنهما— خلافاً لعبد الناصر — حكما من دون منافسة من قطاعات أخرى في الدولة، لكنهما كانا الأكثر ارتهاناً للإرادات الخارجيّة في الحكم (وهذا يتسق مع ما أورده عمرو موسى في مذكّراته عن قلق مبارك المستمر من غضب الكونغرس والبيت الأبيض من مواقف مصر من القضيّة الفلسطينيّة). نجح قنديل في الفصل في تاريخ الحكم في مصر، لكننا نحتاج إلى كتابات تاريخ مغاير للحكم في كل الدول العربيّة. اقرأوا واقرأن هذا الكتاب تعرفون السبب.

 

ملاحظة: أختلف مع المؤلّف في بعض التفسيرات والمواقف لكن لا مجال لذكرها هنا بسبب ضيق المساحة، وقد أرسلتُها له مباشرة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى