نيل جابلر يكتب السيرة الذاتية لهوليوود

 

يشكل هذا الكتاب “هوليوود إمبراطورية اليهود” للناقد والمؤرخ السينمائي نيل جابلر، والذي ترجمه أخيرا مصطفى الطنانى، سيرة ذاتية لعاصمة صناعة السينما العالمية ممثلة في “هوليوود”، وذلك من خلال تقصي سير وحكايات هؤلاء الذين قامت على أكتافهم صناعة السينما الهوليوودية التي امتد تأثيرها ليكون عابرا للقارات، لنتعرف على شخصيات فريدة ومختلفة في تكوينها الاجتماعي والإنساني وطموحاتها وأحلامها وتطلعاتها وأهدافها، ومن ثم كيف بدأت “هوليوود” انطلاقا من إيمان هذه الشخصيات وهي شخصيات يهودية تنتمي أصولها لأوروبا الشرقية بالحلم الأميركي، هذا الحلم الذي رآه الكاتب جيل روبنسون اختراعا يهوديا.

يؤكد جابلر في مقدمته لكتابه الذي أصدرته دار الطناني هذا الأسبوع أن صناعة السينما الأميركية التى يصفها ويل هايز أول رئيس لنقابة منتجي وموزعي الأفلام الأميركية – بأنها “جوهر الروح ألأميركية”، تأسست وعاشت لأكثر من ثلاثين عاما على أكتاف يهود من أوروبا الشرقية هم أبعد من يمكن وصفهم بأنهم يحملون داخلهم جوهر الروح الأميركية، فقد كان اليهود من الجيل الثانى هم من يديرون نظام الأستوديوهات كثيفة الإنتاج التي تعد مصدر فخر المشتغلين بالسينما وهو النظام الذي أنتج كمّا هائلا من الأفلام حين كانت تلك الصناعة في أوج مجدها؛ وكان الكثير منهم يعتبرون أنفسهم مواطنين مهمشين يحاولون بشتى الطرق الطفو على سطح الحياة الأميركية الصاخب.

ويضيف أنه على يدّ أصحاب دور العرض اليهود سرعان ما تحولت – في العقد الثاني من القرن العشرين – ما كانت في العقد الأول منه مجرد نوافذ عرض صغيرة موضوعة على واجهات المتاجر إلى قصور للسينما؛ وعندما استحوذت الأفلام الناطقة على صناعة السينما في هوليوود قامت فيالق من الكتاب اليهود ومعظمهم قادم من أوروبا الشرقية بغزو هوليوود.

ويقول جابلر “كان اليهود يديرون أكثر الوكالات الفنية مهارة ونفوذاً، وتكفل المحامون اليهود بالإدارة القانونية لصناعة السينما، كما قام الأطباء اليهود بعلاج المرضى من العاملين في تلك الصناعة، وفوق هذا كله أنتج اليهود أغلب الأفلام السينمائية حتى بلغ عدد المنتجين اليهود 53 من بين 85 اسماً في عالم الإنتاج كما أشارت دراسة أجريت عام1936، ولم يقتصر تفوقهم على الكم فقط، بل كانوا الأكثر تأثيرا ونفوذا، الأمر الذي دفع ف. سكوت فيتزجيرالد لأن يصف هوليوود بأنها “منتجع لليهود ومأساة لغيرهم”. إلا أن المأساة الحقيقية لم تكن إلا في اليهود أنفسهم، فقد أدت سيطرتهم على هوليوود لأن يصبحوا هدفاً لموجة تلو الأخرى من الهجوم الضاري الذي شنّه المعادون للسامية ـ بدءا من التبشيريين المطالبين بتحرير السينما من أيدي الشيطان وزبانيته “خمسمائة من اليهود أعداء المسيحية” وذلك في العقد الأول وبداية العقد الثاني من القرن العشرين – وانتهاءً بصائدي الشيوعية في الأربعينيات الذين اعتبروا اليهودية ضربا من الشيوعية واعتبروا الأفلام الوسيلة الأهم في الدعاية للفكر الشيوعي. وجاءت محصلة محاكم التفتيش لترسي الاعتقاد بأن اليهود – عمداً أو نتيجة لجهلهم التام – استخدموا السينما لتدمير القيم الأميركية التقليدية.

ويلفت إلى أنه “مما يزيد الشفقة تجاه هؤلاء اليهود، أنهم رغم استهدافهم من قبل الجماعات السياسية المتطرفة المعادية للأجانب بدعوى “خطرهم على القيم الأميركية وعلى البنية المجتمعية التي تحميها” فإن أولئك اليهود أنفسهم لم يدخروا جهدا كي يعتنقوا هذه القيم ويكونوا جزءا من هذه البنية المجتمعية، بل كانوا حريصين على أن ينظر إليهم على أنهم أميركيون لا يهود؛ فقد أرادوا إعادة صياغة أنفسهم في هذا المكان الجديد ليكونوا أشخاصاً مختلفين.

ويرى جابلر أن يهود السينما مثالا حياً لمقولة آشعيا برلين في سياق آخر “إعجابهم المبالغ فيه – إلى حد العبادة ـ بالأغلبية”، ذلك الإعجاب الذي كان ينتكس أحيانا ً ليظهر احتقارا دفينا لهذه الأغلبية، وهو ما أسماه برلين ـ متعاطفا مع اليهود – بالتشوه العُصابي للحقائق. لقد كانت هوليوود أداة إنتاج هذه التشوهات وناتجها النهائي في آن واحد، وكانوا – على الأقل الجيل الأول منهم الذى أرسى قواعد صناعة السينما وشكل لب هذا الكتاب – جماعة متجانسة بصورة مذهلة، فقد كان هناك تشابه مدهش لصنوف معاناتهم في طفولتهم”.

الشخصيات التي يسرد جابلر سيرتها ودورها في صناعة عاصمة السينما العالمية “هوليوود“:

ـ كارل لاملي المولود عام 1867 في قرية صغيرة جنوب غرب ألمانيا تدعى لوبهايم، ماتت أمه بعد عيد مولده الثالث عشر بقليل ثم أُرغمت الظروف أباه – الذي كان يعمل في مضاربات الأراضي – على تركه في ألمانيا والرحيل إلى أميركا بحثًا عن فرصته ليؤسس كارل في نهاية المطاف شركة أفلام يونيفرسال.

ـ أدولف زوكور المولود في قرية مجرية صغيرة في إقليم توكاي المعروف بزراعة العنب، توفي والده وهو طفل، ثم توفيت أمه من بعده بعدة أعوام، وأرسل الطفل ليعيش مع عم له، كان هذا العم حبرا دارسًا للاهوت يتسم بالقسوة ويفتقر إلى الرأفة، ولما كان أدولف وحيدًا، عليه تدبير شأنه بنفسه مفتقدا للحب الأسري – تمامًا مثل لاملي ـ فقد تقدم بطلب هجرة إلى أميركا متجها إلى حياة جديدة. وهو الذي أسس فيما بعد شركة أفلام بارامونت.

ـ ويليم فوكس كان مجريًا هو الآخر وأبواه من المهاجرين، وكان أبوه كسولاً قليل الحيلة لا يتحمل مسئولياته حتى إن ويليم بصق على نعشه، أثناء تشييع جنازته. وأجبرت الظروف ويليم على العمل في بيع المياه الغازية والساندويتشات، ليستغل هذه الخبرات فيما بعد بنجاح في شركة فوكس للأفلام السينمائية.

ـ لويس ب. ماير ادعى أنه لا يتذكر مكان وتاريخ مولده في روسيا، وفيما بعد اختار يوم عيد الاستقلال الذي يحل فى 4 يوليو/تموز ليكون يوم ميلاده. وقد قذفت به موجة الهجرة مع والديه إلى سواحل كندا حيث أسس أبوه محلاً لتجارة الخردة ومكتبًا لإنقاذ السفن، وعندما بلغ لويس سن المراهقة بدأ يضيق من سلطة أبيه فتركه إلى بوسطن حيث حاول أن يؤسس لنفسه متجرًا للخردة، وهو بالطبع من سيصير في المستقبل رئيساً لأعظم مؤسسة لأستوديوهات السينما؛ شركة مترو جولدوين ماير.

ـ بنيامين وارنر ترك زوجته وابنه وابنته الرضيعة في بولندا ليتبع أفراد عائلته الذين ذهبوا لأميركا بحثًا عن فرصتهم هناك. وبعد عامين من العمل إسكافيا في بالتيمور جمع من المال ما يكفي لتلحق به أسرته التي عمل سريعا على زيادة عددها. وظل يتنقل لسنوات بائعًا متجولاً بين الشاطئ الشرقي وكندا قبل أن يستقر نهائيًا في مدينة يانجزتاون بولاية أوهايو، وهناك قرر أبناؤه هاري وسام والبرت وجاك أن يجمعوا كل مواردهم المالية لشراء آلة عرض سينمائي متهالكة، وكانت النتيجة إنشاء الشركة الشهيرة إخوان وارنرز.

ويشير جابلر إلى أن الأصول الأوروبية الشرقية لم تكن فقط هي أبرز صور التشابه بين يهود هوليوود. بل الأمر الآخر المشترك بينهم أيضاً هو رفضهم المطلق لماضيهم ولذلك صاروا يمثلون كيانًا روحيًا عميقًا، ويبدون إخلاصاً مطلقا لبلدهم الجديد أميركا. فالحقيقة أن رغبة هؤلاء المهاجرين بأن يشعروا بقبولهم في المجتمع ليست رغبة فريدة من نوعها، فقد سعى كل المهاجرين لذلك، وخاصة أنهم كانوا ضحايا فى بلادهم الأصلية، ولكن الغريب حقًا كان هو الدافع وراء تلك الرغبة المحمومة والمرضية لشباب اليهود في هوليوود أن يتوحدوا ويذوبوا في أميركا، وكذا رغبتهم في طي ماضيهم وحياتهم السابقة. وقد كان هناك عامل مشترك بينهم لم ينكره أي منهم، هو ميراث الفشل.

ويؤكد أن يهود هوليوود عملوا بصرامة وجد على محاكاة الحياة الأميركية بكل دقائقها، حتى أنهم صاغوا حياتهم وفقًا للمعايير الأميركية للسلوك والحياة الاجتماعية. فمثّل لهم دخول أميركا وقبولهم فيها بوصفهم أميركيين تحديًا مهولاً في بدايات القرن العشرين، حين كانت السياسة السائدة هي حماية مصالح أهل البلاد وتقديمها على مصالح المهاجرين، وبدا الخوف من الأجانب يتخذ شكلا مَرَضيا، وكان العامل المؤثر في دفع اليهود لتحقيق الاندماج في أميركا هو ذاته ما دفع من نصبوا أنفسهم مدافعين عن أميركا لمنع استيعاب اليهود بالمجتمع، حتى لا يفسدوا البلاد ـ من وجهة نظرهم ـ ويلوثوها.

من خلف الحواجز التي أقامها “حراس القيم الأميركية” شاهد اليهود عوالم النبل والأرستقراطية، والوجاهة الاجتماعية والاحترام، لكنهم منعوا من دخولها، وكما يقول أحد المنتجين اليهود الذي تعرف عن قرب بمن يُطلق عليهم الأقطاب البارزين في عالم السينما والمال “شعر آباء صناعة السينما أنهم بعيدون عن المصادر الحقيقية للقوة والنفوذ في البلاد، فلم يكونوا أعضاء في تجمعات الصفوة، فقد كانوا خارج دوائر النفوذ المالى العريق المتمركز فى نيو انجلاند ووول ستريت ووسط الغرب الأميركي”. وهنا برز الدور الذي ستؤديه الأفلام السينمائية. وقد قدمت صناعة السينما آيات الود البالغ لهؤلاء اليهود، لن نعدد من بينها إفساحها المجال لهم، ففي الحقيقة لم تكن هناك ثمة حواجز طبقية في صناعة جديدة وسيئة السمعة كحال صناعة السينما في السنوات الأولى من القرن العشرين، كمثل تلك العوائق الاجتماعية التي فرضتها ميادين الأعمال الأعلى مقاما والأكثر حصانة ومكانة آنذاك، تلك الحواجز التي وضعت لتستبعد اليهود وغيرهم من المنبوذين من الانخراط فيها، هذا بالإضافة أن العائق المالي كان أقل، مما جذب إليها اليهود وغيرهم من رجال الأعمال المهاجرين، ففي الواقع كان يمكن للمرء أن يفتتح قاعة عرض بأقل من أربعمائة دولار.

ويرى جابلر أنه كان لدى اليهود مهارات خاصة أهلتهم للتوافق بسلاسة مع تلك الصناعة، وهو ما منحهم مزايا جعلتهم يتفوقون على منافسيهم. فمن جانب، أتى اليهود من صناعة الأزياء ومتاجر التجزئة وهو ما يسر لهم تفهم ذوق الجماهير بسهولة كما أنهم كانوا بارعين في استشعار تحولات السوق والتجارة، وطرق اكتساب الزبائن، وهزيمة المنافسين. ومن ناحية أخرى، فبحكم أنهم هم أنفسهم مهاجرون فقد كانوا على معرفة وثيقة بأحلام وطموحات المهاجرين الآخرين وعائلات الطبقة العاملة وهما جماعتان متداخلتان كونتا قطاعًا عريضًا من جمهور مشاهدي السينما.

ويتابع أن وراء انجذاب هؤلاء اليهود لعالم الأفلام، تعطشهم البالغ للاندماج في المجتمع ولهفتهم لأن يتـقّبلهم، وكيف يمكن لصناعة الأفلام تحديدا إشباع هذه الحاجة بشكل متفرد. فإن كانوا مُنعوا من دخول ردهات الأرستقراطية والنبالة مثلما مُنعوا من دخول طبقة الصفوة في أميركا، فقد قدمت لهم الأفلام خيارًا بارعًا بحق. فمن داخل الأستوديوهات وعلى الشاشات يمكنهم بسهولة خلق وطن جديد، أو خلق إمبراطورياتهم الخاصة، حيث لم ينالوا الاعتراف بهم فقط، بل حكموا من خلالها هذا الوطن.

ويلفت جابلر إلى الخيال السينمائي كان علاجاً لمرارات حيواتهم السابقة المليئة بالآباء الضعاف والأسر الممزقة، تلك الحيوات التي تنقصها المتعة وتحياها أسر غير عملية وبلا أي مزية تتفرد بها. لكن الأمر لم يقتصر على تعويض شظف ماضيهم بإضفاء صفات أسطورية لكل من أميركا والأميركيين على الشاشة، بل سارعوا إلى إعادة تشكيل حياتهم فأصبحت طريقة حياتهم نوعًا من الفن وهو ما كان ذا أثر فعّال على كل مناحي الحياة في هوليوود، حيث عاشوا في بيوت واسعة أقرب للقصور محاولين استنساخ قصور الصفوة في الساحل الشرقي من أميركا.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى