كثيرون من الكتاب العرب صوروا أنفسهم في قالب روائي

 

يتتبع الباحث د.يحيي ابراهيم عبدالدايم التراجم الذاتية في الأدب العربي، ليحدد بعدها البدء من كتابات الأدباء منذ بداية النهضة في الأدب العربي، هذه البداية التي تؤرخ بدخول مصر والدول العربية في دورة حضارية جديدة إذ يبدأ اتصالها بالغرب، مشيرا في كتابه “الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث” الصادرة طبعته الجديدة عن مكتبة الأسرة، أنه يندر العثور على ترجمة ذاتية يمكن أن يعتد بها في مجال الدراسات الأدبية بعد كتاب “التعريف” لابن خلدون الذي ذاعت شهرته منذ القرن الـ 19 الهجري، ويعاصره كل من السخاوي “الضوء اللامع لأهل القرت التاسع”، والسيوطي “حسن المحاضرة” وإن عاشا بعده سنوات وخلف كلاهما ترجمة ذاتية تدخل في ذلك في النوع الذي كان يكتبه العلماء عن أنفسهم، تلتهما ترجمة ذاتية كتبها عن نفسه المؤرخ محمد بن طولون في القرن العاشر الهجري، بعد ذلك لا نكاد نعثر خلال القرنين الـ 17 و18 على واحدة ذات.

وربط عبدالدايم أن بداية تاريخ الفكر العربي الحديث في القرن الـ 19 وتياراته وحركاته خاصة في مصر وعلاقته بالترجمة الذاتية، لافتا إلى أن الترجمات الذاتية التي كتبت في هذا القرن نقلت جانبا من تلك التيارات الفكرية، ومن خلالها نتبين طرفا من تلك الدعوات التي نادت بضرورة الخروج مما نحن عليه من جمود وتخلف، والأخذ بالثقافة الغربية المتقدمة، وبحضارتها على نحو ما يتمثل في “تلخيص الأبريز” لرفاعة رافع الطهطاوي، و”علم الدين” لعلي مبارك و”الساق على الساق” لأحمد فارس الشدياق، وهي ترجمات ذاتية في خطوطها العريضة وليست ترجمات ذاتية بالمعنى الدقيق.

الترجمة الذاتية الفنية هي التي تأتي في صورة عمل أدبي قائم على أساس التدرج الزمني والترابط الفني، وعلى أساس من الوحدة والاتساق في البناء والروح، ومن أسلوب أدبي ينقل لنا كاتب الترجمة الذاتية من خلاله محتوى وافيا كاملا عن تاريخه الشخصي

وأوضح عبدالدايم “كان هذا الفن يتميز في العصر الحديث، على ما لدينا في التراث العربي، إذ أن المحدثين أطلقوا على كل شكل من أشكال الترجمة الذاتية، الاسم الذي يحدد مضمونه على وجه أقرب إلى الدقة، كاليوميات والمذكرات والذكريات والاعترافات، ومن أمثلة ذلك ما نجده في “يوميات مصطفى عبدالرازق”، و”مذكراتي” لعبدالرحمن الرافعي، و”من ذكريات الفن والقضاء” لتوفيق الحكيم، و”خليها على الله” ليحيى حقي التي استملاها من الذاكرة.

على أن منهم من أراد صياغة حياته أو مرحلة منها في قالب روائي مثل طه حسين في “الأيام” والمازني في “إبراهيم الكاتب” وفي “إبراهيم الثاني” وأن كان كل منهما خرج عن الترجمة الذاتية الروائية، لاستسلامه لعناصر الفن الروائي.

ومنهم من أدخل شكلا آخر مثل الشابي في مذكراته التي دون فيها يوميات لا تتجاوز الأسابيع الخمسة من حياته، وأثبت فيها جانبا من ذكرياته، فأدخل اليوميات في الذكريات. كذلك توفيق الحكيم في “يوميات نائب في الأرياف” قد دون يوميات عن حياته حين كان نائبا في الريف المصري، فاتخذ شكل اليوميات ليكون إطارا خارجيا لهذه المرحلة من حياته، لكنه في داخلها قد صاغها صياغة قصصية، فأدخل بذلك شكلا في شكل آخر.

وأضاف “ومنهم من أراد أن يكتب ترجمة ذاتية أدبية، اتخذ لها اسما فيه ما يدل على الغاية التي تحدد ما أودعه فيها من محتوى، مثل “حياتي” لأحمد أمين الذي صور فيه حياته العلمية منذ طفولته إلى قبيل وفاته، و”أنا”، و”حياة قلم” للعقاد، وقد تناول في الأول نشأته الأولى وتأثير من اتصل بهم في بيئته من أساتذة وأصدقاء في تكوين شخصيته الأدبية، وتناول في الثاني حياتي الأدبية والفكرية والاجتماعية والمعارك التي خاضها قلمه، ومثل “تربية سلامة موسى” التي صور فيها صاحبها كيف توصل إلى شخصيته الفكرية المتميزة من خلال تربية نفسه بنفسه بالتثقيف الذاتي الجاد منذ صباه.

 ومن مثل “سبعون” لميخائيل نعيمة وقد صور فيها أطوار حياته حتى سن السبعين، و”زهرة العمر” و”سجن العمر” لتوفيق الحكيم، وقد أفصح في الأول عن العناء الطويل الذي تحمله في سبيل الفكر والمعرفة بحثا عن أسلوب يصوغ عبره أفكاره، حتى اهتدى آخر الأمر إلى الفن المسرحي، وحلل لنا في الثاني مكونات شخصيته، وحاول فيه تفهم طبيعتها وميولها الموروثة والمكتسبة، أما المضمون فإن ما لدينا في الأدب الحديث، من تراجم ذاتية تميزت بسمات بارزة، تفرق بينها وبين التراجم الذاتية في التراث العربي، فهي تتفق معها في بعض الملامح وتفترق عنها في البعض الآخر.

وواصل عبدالدايم تتبعه للترجمة الذاتية ليتوقف بالتحليل مع الترجمة الذاتية في الإطار السياسي من خلال “قصة حياتي” لأحمد لطفي السيد، و”هذه حياتي” لعبدالعزيز فهمي، و”مذكرات في السياسة المصرية” لمحمد حسين هيكل، ورأى أنه “إذا كان لطفي السيد يطلعنا من خلال ترجمته الذاتية على أثر الفلسفة والسياسة في شخصيته، وعبدالعزيز فهمي ينقل لنا في ترجمته الذاتية فكرة الإصلاح التي هي المحور الذي دارت عليه شخصيته في أطوارها فإن هيكل يعكس في مذكراته سياسة الحزب التي كانت توجهه في كثير مما كان يصدر عنه من أقوال وأفعال وتلون نظرته إلى بعض الأحداث والوقائع التي عالجها في مذكراته.

وقال “إذا قارنا في النهاية “مذكرات” هيكل بما كتبه كل من لطفي السيد وعبدالعزيز فهمي، وجدنا أنها كانت أقرب منهما، إلى النوع الأدبي على ما تبينا وكانت أكثر منهما، حرصا على تصوير مراحل حياته في وحدة بناء توقفنا على أطوار شخصية صاحبها، وما طرأ عليها من تغير وتحول، وقد أتيح لها درجة من الأحكام والتماسك في التركيب أكثر مما أتيح لسابقيها”.

وفي إطار تناول عبدالدايم للترجمة الذاتية في الإطار الفكري حلل كتابي العقاد “أنا” و”حياة قلم”، وكتاب “حياتي” لأحمد أمين”، وكتاب “سبعون” لميخائيل نعيمة، هذه السيرة التي قال عنها “هذه ترجمة ذاتية أسماها صاحبها (سبعون) ينهج في بنيتها الفنية، نهجا مغايرا لذلك الذي انتهجه كل من العقاد وأحمد أمين، فلا يغلب عليه الأسلوب التحليلي كالعقاد ولا الأسلوب التقريري الوصفي كأحمد أمين، بل يعتمد إلى أسلوب يجمع فيه بين التحليل والتصوير، على نحو يصح معه أن نتخذ ترجمته الذاتية مثالا صادقا على الأسلوب الوسط بين أسلوب المقالة والرواية”.

ووصف ترجمة ميخائيل نعيمة بأنها “تفيض بدفقات الحب الصوفي لتبث في ثنايا سيرته الذاتية الحيوية والحركة والحرارة في كل ما يصوره من أطوار شخصيته ونقاط تغيرها، ومن أحداث حياته ومواقفه وانطباعاته وخواطره وأفكاره وأحاسيسه، لكل لذلك كانت (سبعون) تقف وحدها متميزة بعناصر فنية وخصائص فكرية، مقصورة عليها وحدها دون سائر ترجماتنا الذاتية العربية”.

وتوقف عبدالدايم مع “الأيام” بجزأيها و”مذكرات طه حسين” لطه حسين مطولا ليؤكد أن “الأيام” في قسميها ليست رواية فنية خالصة وليست هي ترجمة ذاتية روائية خالصة بل هي تنهج نهجا وسطا بين هذه وتلك، وأن مذكراته أكثر قربا إلى الترجمة الذاتية الروائية، وإن لم تنتم كذلك إلى هذا القالب انتماء كاملا”.

وأشار إلى أن ممن صوروا أنفسهم في قالب روائي كثيرون من الكتاب العرب، لكن أكثرهم أقرب إلى قالب الرواية الفنية المعتمدة على الحياة الشخصية لكاتبها، منه إلى قالب الترجمة الذاتية، ومن هؤلاء هيكل في قصة “زينب”، وطه حسين في قصة “أديب” وميخائيل نعيمة في رواياته “مذكرات الأرقش” و”لقاء” ثم “مرداد”، والمازني في ثنائيته “إبراهيم الكاتب” و”إبراهيم الثاني”، والعقاد في “سارة” والحكيم في كل من “عودة الروح” و”عصفور من الشرق”، و”سهيل إدريس”، في “الحي اللاتيني” ولويس عوض في “العنقاء” وزكي نجيب محمود في “قصة نفس”.

وهذه كلها روايات فنية تعتمد كل منها على الحياة الخاصة لكاتبها، وتعمد إلى الإنكار في الأسماء والأماكن، وإلى مزجها الحقيقة بالخيال مزجا يخرجها عن الترجمة الذاتية الروائية بمعناها المحدد الدقيق، وهي تشبه في هذا المنزع رواية “ديفيد كوبرفيلد” لشارلز ديكنز، ورواية “أدولف” لبنيامين كونستان ورواية “البحث عن الزمن الضائع” لبروست، و”صورة وجه للفنان في شبابه” لجيمس جويس و”أطول رحلة لفوستر. لكن كلا من “يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم و”خليها على الله” ليحيى حقي، “أيام الطفولة” لابراهيم عبدالحليم تقترب من الترجمة الفنية الروائية، لأنه الكاتب هنا عمد إلى الافصاح عن اسمه وأسماء شخصياته وأماكنه، ولم ينقد وراء عناصر الفن الروائي ويستسلم لها على نحو يبعده عن تاريخه الشخصي الحقيقي”.

وخلص عبدالدايم إلى أن الترجمة الذاتية الفنية “هي التي تأتي في صورة عمل أدبي قائم على أساس التدرج الزمني والترابط الفني، وعلى أساس من الوحدة والاتساق في البناء والروح، ومن أسلوب أدبي ينقل لنا كاتب الترجمة الذاتية من خلاله محتوى وافيا كاملا عن تاريخه الشخصي، على نحو موجز إيجازا مكتنزا. وهذا الأسلوب يعتمد على جمال العرض وحسن التقسيم وعذوبة العبارة وعلى بث الحياة والحركة والحرارة في تصوير الوقائع والشخصيات وفيما يتمثله من حوار، مستعينا في كل ذلك بعناصر ضئيلة من الخيال اللازم لربط أجزاء عمله الأدبي، وجميع أطرافه في وحدة عضوية قادرة على التطور حتى يمنحنا ترجمة ذاتية متماسكة محكمة، وعلى ألا يسترسل مع التخيل والتصور، حتى لا ينحاز بمنأى عن الترجمة الذاتية المطابقة للحقيقة التاريخية عن سيرة حياته، خاصة إذا ما كان يكتب ترجمته في قالب روائي، وعليه أن يلتقط اللفظة الضرورية إذا كان الواقع قاصرا عن تجلية الصور والوقائع والمواقف عاجزا عن نقلها إلينا في حيوية وتدفق”.

ورأى أنه لا بد لكاتب الترجمة الذاتية أن يحقق لها خطة مؤثرة، تثير في نفس المتلقي التعاطف مع صاحبها وتحرك تيار وعيه الباطن، خبيئات وجدانه ليحدث فنيا جيشانا عاطفيا، ليحقق هذا التعاطف معه لأنه حين يبسط دخائل نفسه أمام المتلقي، ويفضي إليه بمكنون شعوره وخبئ خواطره، يبعث المتلقي على المشاركة ويدعوه إلى التجاوب، حين يقيم بينه وبين المتلقي هذه الرابطة العاطفية التي لا تقوم إلا بين الصديقين الحميمين. إذ هو حين يصور ذلك كله يحمل قارئ ترجمته الذاتية إلى الارتداد إلى ذاته ليقيس تجاربه ومشاعره بهذه التي تصور أمامه، فهو بذلك يعرض علينا مثالا حيا من نفوسنا، وهذا كله من ركائز التأثير الممتع التي تثير فينا إحساسا دراميا يرقى بنا إلى ذروة النقاء أو قمة التطهير.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى