كتاب الموقعكلمة في الزحام

مشروع (نحو) الأميّة

إنهم كانوا ولا يزالون يعلّمون الأميّة في مدارسنا وجامعاتنا، مكثوا على صدورنا واستوطنوا رؤوس أولادنا زهاء عقود كثيرة وجنّدوا لذلك أساتذة (أكفّاء) … ليقولوا حتى لعقلنا الباطن: انس ما يمكن أن تتذكّره من قيم الحرية والتحرّر.
صارت كتبنا ومناهجنا المدرسيّة مسخرة في عيون خبراء (اليونسكو)، شهاداتنا الأكاديميّة لا يعترف بها حتى الموقّعون عليها، امتحاناتنا تباع وتشترى بعلبة تبغ أو ربطة خبز، معلّمونا يتقرّبون لتلاميذهم من أولاد الأثرياء خشية إملاق أو طمعاً في الترقية.
علّمونا أنّ الآخر ظالم ومستبدّ ومتخلّف وعنصري وهمجي … حتّى بتنا نهرب إليه فضولاً ومعرفة لجحيمه على طريقة (نارك ولا جنّة هلي) …وكي نقدّر (فردوس حاكمنا) ولا نرفس نعمته، فنسبّح باسمه بكرة وعشيّا.
كذبوا على الجغرافيا والتاريخ فصرنا نعتقد أنّ قبلهم لم يكن هناك (قبل) .. ابتداء الزمان من يوم جاؤوا.
أفسدوا الذائقة الفنيّة وحتى الهندام الرسمي، فحاولوا جعلنا قوماً بلهاء، يزدرون الموسيقى والسينما والمسرح، يكرهون الجمال والأناقة … وينظرون إلى كلّ أجنبي بأعين الريبة.
حوّلونا إلى جماعة يخافون من ألسنة أطفالهم وحيطان بيوتهم.
هذا ما فعله بنا الجلاوزة والاستبداديون وعبدة الرأي الواحد، حتى صار أطفالنا في المدارس يعتقدون أنّ من يهتفون باسمه كل صباح (وبإيعاز من مدرّسيهم الأفاضل) هو الذي يحكم العالم …. وله الفضل في مجيئهم كما يحدث في كوريا الشمالية.

هم يعرفون أنّ الخيل تساق إلى موارد الماء غصباً عن صهيلها، ساعة يريدون، لكنهم لا يدركون أنّها لا تشرب إلاّ متى تريد ذلك، وأنّها تركل مغتصبيها ساعة معركة ظالمة .

هم يدهسون الأزهار ……. لكنهم لا يستطيعون منع الربيع من القدوم.
فعل بنا الحكّام الظالمون ما لم يفعله بنا الأعداء التقليديون، سبوا أفكارنا وعقولنا قبل مدننا وأحرارنا، عاثوا فساداً في رؤوسنا قبل خرائطنا .. خرائطنا الورقيّة لتي حرّروها قبل بلادنا المغتصبة.

من أين جاءت هذه البليّة يا ترى ! هل قدّر لشعوبنا أن لا تستريح إلاّ في قبورها، هل هذا هو تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا…!؟.

هل نحن في (الدائرة الشرّيرة) التي سخر بها فوكوياما على عقولنا ونظّر إلى نهاية تاريخ جائر، يحوّل الأغلال والقيود إلى أساور، فيجعل الظالم متفوّقاً والمظلوم شخصاً يمارس قدره الذي خطّه التاريخ له.
… وجاءت الصفعة التي لم يكن يتوقّعها أحد…. لم تكن نسائم ربيع بالمفهوم الرومانسي الناعم، بل عاصفة تهدّ عروش الاستبداد رمسا برمس وتقول لمن يعتقدون أنهم خالدون (حلّوا عن سمائنا، فلنا على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة).

إنها النمور في يومها قبل العاشر، حين يذلّونها ويحاولون تدجينها إلى قطط ، ذهل العالم الذي كان ينظر إلينا كسلاحف تقرض الوقت وترفض الانقراض.
إنها الخيل التي قد تصبر طويلاً على العطش، لكنها تنطلق في غفلة عن مروّضيها وتتحرّر من الاسطبلات وإن كانت مترفة …وتتحرّر من حدواتها وإن كانت من ذهب.
احتار الغرب في تقييم ما يحدث، منهم من آزر دون إيمان واضح مثل (الطلقاء) في فتح مكّة، منهم من أظهر المساندة وأبطن العداء مثل المنافقين في يثرب ومنهم من جاء يفتح ذراعيه مثل سلمان الفارسي .
أمّا الموقف العربي الرسمي فبدا مرتبكاً لدى الأنظمة القمعيّة، كمن يتحسّس أطراف بدنه وهو يشاهد (الفلقة) تفعل فعلها في (قاووش) كبير وطابور أطول… منهم من هلّل للربيع بثقة تامّة حين رأى الناس تنضمّ إليه أفواجاً، ومنهم من صاح: (هذه مؤامرة تحاك ضدّ الأمّة)، وهي عبارة ممجوجة، لم يعد يصدّقها أبسط العوام، ومنهم الذكيّ الذي (بلّ ذقنه) استعداداً لحلاقة لا مفرّ منها.
تسلّل إلى ربيعنا و(ربعنا) غربان كثر، حاول ويحاول جراد الردّة الانقضاض على براعمنا، خرجت فئران من جحورها … لكنّ (فزّاعتنا) الأقوى والأفتك والأحرس، هي أن لا ننظر إلى الوراء إلاّ بغضب.

• كلمة في الزحام:

تحمّلنا وصبرنا وعانينا وسكتنا ، مثل جمل في صحراء الجهل والظلم والاستبداد … فيا حادي العيس عرّج كي نودّع سنوات الصمت والقهر.

27.11.2013

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى