شرفات

لماذا خرجتُ من البيت؟!

خرجتُ من البيت..

لم أعدْ أطيقُ بيتي، فمن صفاتِ البيت أنه دافئ، حنونٌ، فيه طعامٌ وشرابٌ، وأنسٌ، وأحبة، ونوافذُ على العالم، من راديو وتلفزيون وتليفون..

وبيتي كان خالياً من كلّ شيء، خالياً حتى من الصور التي كانت معلقة على جدرانه،أتذكر من خلالها أولئك الذين رحلوا، وتركوا أثراً فيحياتي وفي  روحي!

عندما تخرج من البيت، تضعُ في اعتبارك عدةَ خيارات كأن تتفسح أو تتجول في الشوارع، أو تقوم بزيارة لشخص ما تحبه أو ترتاح لحديثه أو بوحه، أو ربما لكي تشتري شيئاً أنت تشتهيه، أو تحتاج إليه..

وعندما خرجتُ من البيت، لم أكنْ أريدُ أن أتفسح ولا أن أتجوّلَ، ولا أن أقومَ بزيارةِ شخصٍ ما ، وليس بمقدوري أن أشتري ما أشتهيه..

سألتُ نفسي : لماذا خرجتُ من البيت ؟!

سؤال مهم في تلك اللحظة، عجزتُ عن إيجاد الجواب المناسب عليه. عجزتُ لسببين أولهما أن عقلي جمدَ تماماَ، وثانيهما أن روحي انطفأت كشمس اختبأت وراء غيمة !

رحتُ إلى حاراتِ الشام القديمة ، قلتُ في نفسي ، لعلها تملأ شيئاً من فراغٍ كبير عندي يشبه الخواء، وهناك لم تكن الحارات كما عهدتها، لم يكن الياسمين مزهراً، ولا الوردُ يفوح بعبقه، ولا قناديل المانوليا البيضاء تتدلى من أشجارها العالية، لم تكن قصيدة نزار قباني معلقة بين نافذتين تتجاوران لشاب وفتاة يتغامزان من خلف ستائر غرفتيهما.

قلت مات الغزل في الشام ..

لم يكن ماء السبيل عند زاوية الحارة يُقطّرٌ ماءً نظيفاً لأشرب منه ، كان سبيلٌ الماء أشد عطشاً مني، كان ميتاً منذ سنوات طويلة، ولم يقم أحد بدفنه، أو نقل جسده إلى مكان بعيد ..

طرقت على باب عتيق في قلب حارة من الحارات، ونويت أن أفتعل سؤالاً ما أخترعه لعليّ أجد صديقاً من حارات أحبها، فما فُتح الباب، ولا أطلت فتاة بعينين ناعستين زرقاوين لتسأل بصوت ناعم : مين ؟!

طرقت باباً آخر، لأسأل عن سكان البيت الأول أين رحلوا ، فما فُتح الباب، ولا خرج منه طفل صغير يحمل طابة صغيرة ليلعب مع أصدقائه ريثما يحل المساء ..

وسألت بصوت عال: أين الناس ؟ فما رأيت النوافذ وقد فُتحت لتعرف صاحب الصوت.

كانت الحارات فارغة، فارغة تماماً ، وكأن الوباء أكلَ أصحابها، وكأن الانكشارية أخذوا شبابها إلى حرب السفربرلك ..

وفجأة رأيته .. دخل الحارة محني الظهر ، وضع على كتفيه شالاً من قماش أبيض، ربطت في أطرافه خيطان ذهبية اللون. فرحت. زغردت روحي، خفق قلبي مثل طفل صغير، فهو سيجيبني على كل أسئلتي التي أريد أن أعرف أجوبتها ..

رميتُ عليه السلام : مرحبا ياعم ، وانتظرت ..

مر الرجل قربي ، تجاوزتني نظراته، ومشى في عمق الحارة من دون أن يرد ، مرّ كشبحٍ عجوز ولم أصدق !

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى