لم أعد أحب أن أكون رئيسا

 

26 مرشحا للانتخابات الرئاسية في تونس، ليس رقما كبيرا في بلد كان يحلم فيه كل طفل من جيلنا  في ” أن يصبح “بورقيبة” عندما يكبر، ثم بلغنا الأربعين بمعدل حاكم واحد ـ أو حاكم ونصف ـ على أقصى تقدير.

شهوة الحكم فقدت بريقها لأكثر من سبب، أولها أن الترشح لم يعد تميزا شخصيا أو ضربا من المستحيل، وأصبح متاحا لكل من يتوفر فيه الحد الأدنى من الشروط، أما السبب الأكثر وجاهة فيتمثل في كون الديمقراطية الناشئة في تونس، بدأت تحبط عزائم الحالمين بالوصول الآمن إلى كرسي الرئاسة في قرطاج، وذلك لاستحقاقاتها المكلفة وفواتيرها الباهظة، بالإضافة إلى محدودية صلاحيات الرئيس الذي لن يتسنى له بعد اليوم أن يكون مستبدا (وإنما العاجز من لا يستبد).

أسلوب الشفافية في الحكم ومبدأ فصل السلطات وسيادة دولة القانون والمؤسسات، أمور جعلت من الحكم مجرد ” وجع رأس”، أنت في غنى عنه.

شخصيا، تخليت عن حلم السكن في ذلك القصر المنيف بضاحية قرطاج الخلابة على شاطئ البحر. ضحيت بالظهور اليومي على شاشة التلفزيون وأنا أستقبل وأودع وأدشّن، وأسدي النصائح للتونسيين كما كان يفعل الزعيم بورقيبة.. وربما حرمت، متعمدا، أصدقائي من مناصب رفيعة في الدولة، وكذلك زوجتي من لقب ” السيدة الأولى” وهي تمارس النشاطات الخيرية وتبتسم لكاميرات التصوير.

اخترت أن أنام قرير العين في حينا الشعبي الذي يعج صخبا وحياة، على أن أتقلب فوق فراش وثير وسط بحر متلاطم من الهموم الأمنية والاقتصادية والكوارث الطبيعية والاجتماعية التي قد تعصف بالبلاد.

أن أقتسم ضجيج الضحكات والنقاشات المسعورة مع تلك ” السلالة الملعونة” من أصدقائي في المقاهي والحانات الشعبية، لهو أفضل ألف مرة، من تبادل الأنخاب الباردة وعبارات المجاملة السمجة مع الشخصيات الرسمية على الموائد الرئاسية في القصور المغلقة على فخامتها وأسرارها وبروتوكولاتها.

الصراحة أنّ ما أوردته الآن من ذكر مثالب ثقل المسؤولية، والإطناب في مدح الحياة الحرة الطليقة خارج القصور الرئاسية، يمكن إدراجه في خانة ” العنب الحامض” أي التوجه بذم كل ما لا نستطيع أن نطوله، والارتداد إلى تجميل الحالة التي نحن عليها، وذلك سعيا وراء التوازن والانسجام، وهروبا من الإحساس بالعجز والإحباط.

الرئاسة حلم حين تكون بذخا وامتيازا، وتبدأ بفقدان جاذبيتها لتصبح ضربا من التعاسة، عندما تمسي تحملا للمسؤوليات فيسعى الجميع، عندئذ، أن يمشي في ظلها طلبا للسترة والتخفي، بينما تسير الرئاسة واضحة تحت ضوء الشمس، لكل من آمن بها واتخذها مسؤولية وطنية وتاريخية.. ساعتها يصبح قصر قرطاج لساكنه الجديد، بمثابة معسكر قاس للعمل التطوعي.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى