شرفات

ماذا وجدت في البيت المهجور؟!

الإهداء : إلى  روح عادل محمود ، ظل ديوانك عندي منذ أربعين عاماً .

لم نكن نتوقع أن يحصل هذا الذي حصل في بلادنا !

الحرب غيّرت كل شيء في حياتنا. أزهرت المقابر بالشهداء . ولم تعد تتسع مقابر البلاد لهذا العدد الكبير من ضحايا الحرب، بل إن بحر إيجه أمضى سنواته الأخيرة حزينا على السوريين الذين غرقوا فيه . فقال للسفن العابرة نحو العالم :

ــ هؤلاء السوريين صورة مأساة العالم !

وبكت السفن ، فبكى الموج ندما!

قال لي صاحبي :

ــ تعال ، والله إني رأيت مشهدا ينبغي أن يعرفه العالم كله ! فسألته :

ــ وماذا رأيت أكثر مما رأينا؟ لقد شاهدنا الموت والدمار وأكل القلوب والذبح وحرق الأحياء ..ماذا بقي؟

هز صاحبي رأسه، وقال لي :

ــ بقيت روح الشام !

وضحكت. هي أحجية لايعترف بها لا الشاعر ولا الكاتب ولا الساحر، وسألته:

ــ أي روح ستبقى؟! فأجابني :

ــ هاجر أصحاب البيت القريب من بيتي، وطلبوا مني الاعتناء فيه، ريثما يعرفون آخر ما ستؤول إليه الحرب؟

وهز رأسه قليلاً ، ثم قال :

ــ وعلينا أن نذهب معا لأريك شيئا مهما فيه!

كان البيت قريبا من بيته فعلاً، ويقع في حارة من حارات دمشق القديمة، وقد تركه سكانه على الشكل الذي عاشوا فيه طيلة حياتهم، وعند بابه الجميل وضعت قطعة نحاس كتب عليها اسم صاحب البيت، وتحت الاسم عبارة (أبو جواد). أما الحارة فكانت دافئة رغم الصقيع الذي غطى البلاد ..

فتح صاحبي الباب ، وقال:

ــ تفضل .. البيت بيتك ..

ودخلت إلى البيت . لم تكن العصافير قد هجعت إلى أعشاشها بعد. استقبلتنا بموجة من الزقزقة أحسست فيها أن البيت مليء بالسكان. وتذكرت العبارة التي كان الزائرون يرددونها قبل الدخول من الممر إلى باحة البيت، فقلت مستئذنا:

ــ يا ألله ..

ضحك صديقي ، وهمس لي مطمئنا:

ــ لا أحد في البيت !

من قال إن لا أحد في البيت؟ من قال إن أصحابه هاجروا وأن الشام ذاهبة إلى الخراب ؟! من قال إن كل حروب العالم يمكن أن تلغي اسم سورية ؟! ثم من قال إن الشام ليست روحا خالدة ؟!

كان رائحة الياسمين تفوح في أرجاء البيت، وكانت أزهاره البيضاء ترسم أملاً في كل الاتجاهات .. وبجوار الممر ترامت أغصان شجرة برتقال يافاوي لونتها الثمار وكأنها تنادي من يقطفها. وكان هناك شجرتا نارنج وكباد ودالية من العنب الزيني..

ألح صاحبي :

ــ أدخل يارجل .. لترى بأم عينك ..

دخلت ، فإذا الستاتي تتجول حول البحرة ، وإذا بسلحفاة عجوز تسير باتجاه أحواض النباتات وخلفها سلحفاة صغيرة كتب أحد الأطفال على ظهرها بألوان زيتية :

( هذه سلحفاة عصام) !

وعلى حافة نافذة غرفة مغلقة رأيت كتاباً قديماً مصفرّاً عنوانه : قمصان زرقاء للجثث الفاخرة للشاعر عادل محمود !

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى