كتب

“ما بعد الاحتلال”.. عن الأبارتايد والاستيطان في فلسطين

“يمكننا قضاء ألف ساعة في الحديث عن الحياة في فلسطين، لكن لا شيء يعبّر عن دقيقة واحدة تقضيها على حاجز إسرائيلي”.

في سرد حي ومختصر يستعرض كتاب “ما بعد الاحتلال: الأبارتايد والاستيطان والقانون الدولي في الأراضي الفلسطينية المحتلة” من تحرير الباحثة الأميركية فيرجينيا تيلي، واقع الأراضي الفلسطينية المحتلة في ظل نظام الفصل العنصري والاحتلال العسكري والاستيطان الإسرائيلي المتواصل.

الباحثة تيلي هي مديرة برنامج الحوكمة في جامعة جنوب المحيط الهادئ، وقد أجرت أبحاثًا حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني منذ ثمانينيات القرن العشرين.

في بعثة أجراها علماء قانونيون مرموقون ترأس وفدها البرازيلي رئيس الجالية الفلسطينية في البرازيل جهاد أبو علي (برازيلي من أصول فلسطينية) تم عرض أدوات تحليلية جديدة لفهم نزاع يتحدى الفئات القانونية التقليدية، أُخذت بعين الاعتبار أثناء زيارة للأراضي الفلسطينية المحتلة، هناك حيث تجاوزت الممارسات القمعية لنظام الفصل العنصري ما يكشف عن بُعد جديد ومقلق للصراع.

أشبه برحلة إلى الماضي القريب، على الأقل من حيث مرويات الذاكرة الشفهية، ينقسم الكتاب إلى فصلين، الأول هو الجزء التوضيحي: يتضمن صورًا توثيقية (وثائق الأونروا ومشاهد من اللجوء) مرفقة بوصف سردي يعكس أعمال الاحتلال في كل سطر، ويستعرض لحظات التوتر عندما شرع “المستوطنون” المسلحون بإطلاق النار على السكان ذلك في وتيرة كتابية شبه مرئية، تبدو أقرب إلى سيناريو فيلم وثائقي، ملحقة بشهادات من الذاكرة الشفهية الفلسطينية لإدخال القارئ في مشهد الحدث الواقعي.

عبور الحدود الأردنية

يقول الكتاب: “في المحطة الأولى، بعد ساعة من وصولنا (عمان)، كنا في الطريق إلى الملك حسين لترتيب الدخول إلى الأراضي الفلسطينية. بعد انتهاء التنسيق، وختم الموافقات، بدأت المحطة الثانية.  في طريقنا إلى الضفة الغربية بدأت ديباجات السيطرة الإسرائيلية تتمشهد أمامنا، وكلما اقتربنا كان شعور الأسف يتضاعف، فقد كانت السيطرة على الحدود إسرائيلية بالكامل، ولم يكن هناك فلسطيني واحد يعمل في تلك المنطقة الحدودية. كيف يمكن للأمم المتحدة أن تعترف بحق فلسطين في أن تكون دولة، إذا استمرت في السماح لدولة أخرى بالسيطرة على حدودها؟” (صفحة 20).

الفصل العنصري هو وجه الاحتلال

يفتتح الكتاب بسرد التعقيد الذي واجهه جهاد علي ذو الأصول الفلسطينية من خلال مخفر الحدود، فقد كان اسمه العربي وسماته الفلسطينية كافية لحجزه ومنعه من دخول فلسطين، بينما مرت مرافقته “بورتو” ذات السمات الأوروبية من دون أي صعوبة، لتتوقف على بعد أميال، تقول: “بقيت بانتظار جهاد أبو علي. فبعد أن سلّم جواز سفره إلى شرطية إسرائيلية شقراء، قامت من فورها بلعب دور المدافع الكفؤ عن هيكل إسرائيل عبر إذلال أي مواطن من أصل فلسطيني، وتوجهت مباشرة إلى النقطة، حيث بحثت عن أسماء أقاربه في فلسطين ومكان ولادته، فلا فائدة من القول إنه برازيلي، وأن لديه جواز سفر برازيلياً، لأن اسمه كان كافياً لوضعه بالحجز تحت ذمة التحقيق. (صفحة 23).

أريحا وبورين ونابلس ومدن أخرى محاصرة

“هذا الطريق السريع المضاء جيدًا” قال السائق (الدليل) “لا يمكننا المضي قدمًا فيه، إنه ملك لليهود”. كان يقابله الفصل العنصري الطويل مع كثافة نقاط حراسة الجيش الإسرائيلي المعنيّة بمراقبة المنطقة بأكملها، ثم أشار السائق إلى مناطق صغيرة أكثر استنارة في المنطقة: “إنها مستعمرات يهودية مثبتة في أراضينا”.

تخص الحكومة الإسرائيلية اليهود أو الأشخاص الذين يقدمون أنفسهم في “إسرائيل” على أنهم يهود بمعاملة تمييزية، حيث تسهل لهم شراء الأراضي في الضفة الغربية، كما توفر لهم الأمن والمياه والسكن والكهرباء والمواد الزراعية. وبقوة الجيش فإنها تحتل المناطق الريفية المتبقية تدريجياً. (صفحة 41)

حواجز رام الله

“في محيط رام الله، مررنا بتجربة أخرى، تمثلت في إظهار شعور الكراهية من قبل المستوطنين اليهود تجاه الفلسطينيين. على الجانب الأيسر من الشارع، كانت هناك بوابة تتيح الوصول إلى مستعمرة يهودية بواسطة ممر للمشاة. على اليمين، بدأ إسرائيلي في عبور الشارع، وأوقفنا السيارة. كان قد اتخذ بالفعل خطوتين، عندما نظر إلى اليسار وربما تعرف على لوحة ترخيص سيارتنا. بعد أن أدرك أنها سيارة فلسطينية، وضع يده على وركه (ممسكًا بمسدس)، وتوقف في منتصف المعبر، ثم نظر إلينا باحتقار متابعًا مشيه ببطء شديد، ويده اليمنى على وركه. (صفحة 51)

جحيم الحواجز

حول استحالة عبور الأراضي الفلسطينية، أشار المؤلفان إلى دليل أساسي. “يمكننا قضاء ألف ساعة في الحديث عن الحياة في فلسطين، لكن لا شيء يعبّر عن دقيقة واحدة تقضيها على حاجز إسرائيلي. كل نقطة تفتيش تخبرنا عن مدى إجرام الاحتلال الإسرائيلي أكثر من أي رواية يمكن أن نتوصل إليها. في خضم هذا الجحيم يحاول الفلسطينيون أن يعيشوا حياة طبيعية، مبتسمين ومضيافين، يحاولون الرد على الإسرائيليين بحياة كريمة على الرغم منهم”. (صفحة 53).

الى نابلس مزيد من التوتر

“كانت زيارة نابلس على جدول الأعمال، لكن اكتشفنا أن الوصول إلى المدينة التاريخية في تلك المنطقة محظور من قبل جيش الاحتلال، إذ كانت هناك حملة اعتقال واسعة للفلسطينيين. وبما أن المسافة بيننا وبين نابلس كانت ثمانية كيلومترات إلا إن تجاوز الطابور كان يتطلب يومين على الأقل، لذا خلصنا إلى أننا لن نصل إلى نابلس في ذلك اليوم. لكن الموسيقي أكرم بوريني الذي كان يسافر معنا، لم يوافقنا الرأي، فتركنا ومشى على طول الطرق الجانبية في الجبال، حيث كانت زوجته تنتظره في نابلس”. (الصفحة 75).

في القدس: مضايقات المستوطنين

“نظرة سريعة إلى الوراء ورأيتهم يعودون (مستوطنان شابان يحملان أسلحة آلية). فهمت أنهم يريدان استفزازنا، وبالفعل، بدأ المستوطنان بمضايقتنا، وصارا يمران بيننا، مصطدمين بنا كما لو أنه ما من طريق آخر إلا من خلالنا.

بعد بضع دقائق، وجدناهما مرة أخرى أمام منزل، وكانت الأعلام الإسرائيلية ترفرف. وبحسب دليلنا “البشيتي” كانت الأعلام موجودة مسبقًا وكذلك المستوطنون لاستفزاز الفلسطينيين لأن هذه منطقة عربية. ومرة أخرى أصر الشابان المسلحان، برفقة ثالث الآن، على عبور الممرات معنا”. (صفحة 84).

الاحتلال يسرق الأرض

“صعدنا فوق السطح العلوي في شقة بالقدس، حيث كان بإمكاننا رؤية قبة مسجد الصخرة وأيضًا إضاءة المدينة الغربية. أشار لنا مروان (شاب من القدس) إلى أنوار الكنيس وقال إن الأرض التي بني عليها كانت ملكًا لأجداده حتى الاحتلال. وليس هذا فقط، مثل جميع المباني الأخرى التي يمكن أن نراها، كانت ملكًا للفلسطينيين حتى عام 1948. “لقد أخذوا أرضنا، وبنوا على ممتلكاتنا”. (الصفحات 88 و 89)

الاحتلال في منتصف الحياة الأسرية

“الزواج بين مروان وشيرين، مثل كثيرين في فلسطين المحتلة، عليهما أن يقطعا البطاقتين الزرقاء والخضراء (يحمل مروان البطاقة الزرقاء، من عائلة في الأصل من المدينة، مما يسمح له بالعيش في القدس، بينما شيرين لا تزال إقامتها مؤقتة بسبب الاعتقال الذي حدث لها في سن المراهقة منذ أكثر من عقدين). (صفحة 89).

يقين الانتصار من خلال المثابرة

“كنت متأكدا من هذا في بداية الرحلة، من خلال محادثة مع الحاكم العام لأريحا، سألته كيف ترى مستقبل الشعب الفلسطيني. نظر في عيني وقال بهدوء وحزم: (إسرائيل مثل قمر صناعي، صواريخ تطلق في الفضاء، شيء مصطنع. بمرور الوقت سوف تتفكك وتختفي وسنبقى، كما هو الحال دائمًا)”(الصفحة 117).

إن قراءة مثل هذا العمل تعزز نظريات سرد المرويات الشفهية الواقعية، وتدعم قناعة اللزوم باستمرارية المقاومة الفلسطينية، إذ بمقدورها أن تكون أقوى من مصنع الأكاذيب الداعمة للاحتلال الصهيوني. لا يمكن غزو أي شعب ونهبه من قبل أجانب مدججين بالسلاح، فالانتصار يكمن في إصرار أولئك الذين يقاومون وفي دعم الشتات العربي الذي لن تغادر فلسطين ذاكرته أبدًا.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى