كتب

محمد بكاي يزيح التخوم عن النص في تجلياته المختلفة

يقارب الناقد الجزائري د.محمد بكاي في كتابه “في إزاحة التّخوم.. فصوص في جماليات التفكيك” عددا من القضايا النقدية والفكرية والفلسفية التي تستهدف النص  في تجلياته المختلفة، وذلك من خلال ثلاثة فصول تبدأ  بـ “تكتيكات وتفكيكات، النص والأثر بين الحفريات والجماليات”، ثم “ذرات وشذرات،جمالية الكتابة ومنطق الـمعنى الـمفقود”، وأخيرا “التناص، التفكيك، التعددية قراءة النص وشهوة التلصّص”، تندرج تحتها مجموعة من القراءات العميقة لمفاهيم أساسية في الفكر الفرنسي المعاصر، مثل الإرجاء والكتابة والتفكيك.

يقول في كتابه الصادر عن دار الرافدين “مواجهة النص وتخومه هي مغامرة القرب من “الفراغ” أو “الحيادي”، وهي لحظة الطّواف القاسي حول ذواتنا كما قال الشّاعر والناقد الفرنسي إدمون جابيس. والقيام بهذه الخطوات سِرّا هو اختراق لكثافة اللانهائي؛ منطقة الانفصالات والاستحالات التي تطوّقها جاذبية التّشويشات. تظلّ الكتابة انشغالاً قويّا مفتونا بغرابة تلك المتناقضات والتباساتها؛ حيث تعوّل على منطق الـمزاوجة بين الـمعروف والـمجهول. هي جسارة الغور داخل القلق والـمسّ الذي يؤرّق الـكُتّاب، هي الاكتواء بنار تبثّ الحيوية والحميمية داخل نصوصهم حيث تدأب على رسم الغياب وتمزّقاته. معضلة تلك الكتابة البكماء هو عقمها وتجريدها ويأسها وبحور انكساراتها. هي قبول البحث عن مواجهة دائمة مع الـموت (جابيس). كتابة التخوم والحوافّ هي الارتـماء في أحضان العزلة القاتلة الـمشعّة التي دفعت جابيس ودريدا وبلانشو وبارت وسكسو للكتابة عنها، باضطراب هائل يشوّش على الكينونة ويريد للمنفي والمجهول ولكل متعذّر عن القول أن يُعاش ويُبتكر عبر الحرف”.

ويوضح بكّاي أن نصوص الكتاب تقترب في انشراحها الصّوفي وانسحاباتها الدّاخلية بحثا عن اللاّشيء تدميرا للحدود، تـمزيقا للأسئلة، هي بحث شاقّ محكوم عليه بالفشل يندفع نحو مخاطرة قصوى، وهي الاستسلام للحظات الجنون أو اللاَّوعي، لقانون الوحدة ومنطق الصّمت، لهستيريا الخوف وبرودة اليأس. فصول هذا الكتاب خريطة بحروف بيضاء مفتوحة على السّواد الـمُطلق، هي دراية عمياء بالبدء والأسماء واللّغة. هي تقولب وانقلاب صوب الجرح الغائر الذي يستدعي بذكاء ومكرٍ “لا سلطة” اللّغة عن طريق الدّائرية والإعادية، تدخّل تكتيكيّ في مدارات النّص، حيث يستحيل العيش خارجها، فمتعة الكتابة (Le plaisir d’écrire) ليست بالقبض على المفاهيم والتعبير عنها لغويا، فذلك ليس بفلاح! متعتها في تقصّي عتمتها، هناك يولد التفكيك ويتشكّل حدث القراءة.تدين هذه النصوص الأدبــــــفلسفيّة لشقاء الأثر ومحوه، لجاذبية عنفه الذي لا يُقاوم. الأثر غير مدرك لأنه ليس مكشوفا كما هو. فهو غير قابل للوصف، وهناك تفقد اللّغة صوابها النحوي واتزانها التعبيري.

فلا توجد كلمة تصفه؛ فهو متعذّر عن الحمل أو عن التوسيط، لا يرمز له، يكتفي فقط بالإشارة اللّطيفة كما يقول أهل الـعرفان. تجتمع هذه النصوص رغبة منها في إشباع ذلك الشَّغف بالعتمة غير الـمشبعة للاّشيء، هي حفر أبديّ عن حقائق سِرية.

ويؤكد أن مغامرة الكتاب هي التلذّذ بكتابة على تخوم الغياب، وبرونق شعريّ يعكس ذوقا رفيعا ونباهة تصرف نظرها عن الـمألوف، لتفجّر كلّ ما هو مقفل ومـحجور عليه، الكتابة هنا هي “فعل طارئ” وانتصار للهوامش والأعماق والضّوضاء والعدم والـموت والصّوت الـمشوّش غير المسموع الذي يطلّ على منطقة “اللاّأحد” ومنطق “متنافر وعكسي” مفرط في حياديته، غارق في مجازيته، متناثر في لحظات اقترابه من الذّاكرة والنِّسيان. ينفلت البعد الإرجائي لهذه النصوص من كل محاولة شرح. بعبارة أخرى، تُـمثّل فصوص الكتاب لعبة “تحوّل القراءة” لكلّ موضوع تم تعليقه، انسحاب عنيد لنص بدون قانون، وهروب صوب ضفاف الفراغ.

من خلال هذه الفصوص التفكيكية نعوّل على الغرائبيّ، الهجين بين الفلسفي والتخييلي انجذابا لأدبيّة النص وجماليته، تـملّصا من مثالياته الغارقة في سلامة الدّلالة وتكاملها. فالحركية الدؤوبة التي تنشط عبرها نصوص الكتاب هي مساءلة السّؤال وبثّ روح الفكّ والشّك، أو بعبارة أخرى: هي حركية اللاَّحركة التي ليس لها معنى إلا في لاشيئيتها، بحثا عن اللاأثر وحضور اللاّحضور وتطويق الفراغ الـمطلق الذي يهيمن على الفكر.

هذه الحركية هي إطلالة على اللاّمفكر فيه، من خلال صخبه واستكانته، وبالتالي هي تجربة مثخنة بالاستحالات وحماسة الهجوم على الحدود وشفافيتها الزّائفة.

تضجّ فصول هذا الكتاب بتخريب المقولات الجوهرية التي أرّقت النص وأغلقته، هي مديح للتخوم وإزاحتها في آنٍ معا؛ حيث ينفتح النص بكل دينامية وحرية ومراوغة على غرابة العالم والوجود، من خلال تحسّس الأقاصي والكتابة عن الفراغ السَّحيق. نستشهد عبر هذه الفصوص بكتابات متوتِّرة ومتمرّدة (جاك دريدا، رولان بارت، إدمون جابيس، هلين سكسو) على نواميس اللّغة وتراكيبها، معزّزة حركة إبداعية غير متحيّزة، لتقديم نصّ مفتوح دون حدود، ينبلج بطاقاته التخييلية على التخوم الـمطلقة التي تحفّنا.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى