بلا حدود

مرض التوحّد التكنولوجي: مقاربة لظاهرة العزلة الرقمية في القرن الحادي والعشرين

ماهر المملوك

تعيش المجتمعات المعاصرة مرحلة تحوّل جذري فرضته الثورة الرقمية والتسارع التقني غير المسبوق، حيث أصبحت التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي جزءًا عضويًا من بنية الحياة اليومية. وقد أدّى هذا التحوّل إلى تغيّر عميق في أنماط التواصل والسلوك، حتى ظهر ما يمكن تسميته بـ “مرض التوحّد التكنولوجي”، وهو مفهوم رمزي يعكس حالة الانغماس المفرط في العالم الافتراضي على حساب العلاقات الإنسانية الواقعية.

رغم أنّ التكنولوجيا قدّمت للبشرية خدمات جليلة من حيث تسهيل العمل، وتوسيع المجال المعرفي، وتحسين جودة الخدمات، فإنّ آثارها النفسية والاجتماعية بدأت تتخذ منحًى مقلقًا. فالإنسان المعاصر بات يختبر نوعًا من التشتت الوجداني والعزلة الذاتية، الأمر الذي يجعل من دراسة هذه الظاهرة ضرورة أكاديمية واجتماعية.

فالإطار النظري لظاهرة التوحّد التكنولوجي لا يشير هذا المصطلح إلى مرض التوحّد بالمعنى الطبي، بل يُقصد به الانسحاب التدريجي من العلاقات الاجتماعية إلى عالم رقمي يوفّر للفرد بدائل آنية وسريعة، لكنها غير مستدامة أو عميقة.

ويستند الباحثون في تحليلهم التي تشير فيها الدراسات الحديثة إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي مصممة هندسيًا لاستهداف دوائر المكافأة في الدماغ. فالإعجابات والإشعارات والتعليقات تُولد جرعات سريعة من الدوبامين، مما يجعل الدماغ يعتمد عليها بوصفها مصدرًا للمتعة اللحظية.

هذه الآلية تقود إلى إدمان سلوكي يوازي في تأثيره الإدمان الكيميائي، لكنه أشد خطرًا لأنه خفيّ، ومتخفٍّ داخل نشاط يبدو في ظاهره طبيعيًا أو مقبولًا اجتماعيًا.

فالتحوّل في بنية العلاقات الاجتماعية أدّى الاعتماد المفرط فيه على الوسائط الرقمية إلى استبدال التفاعل الإنساني المباشر بتفاعل افتراضي محدود العمق. بل إن بعض الباحثين يشيرون إلى أنّ الفرد بات يتعامل مع هاتفه بوصفه امتدادًا لجسده وهويته، لا بوصفه أداة.

وبذلك تتراجع مهارات الحوار، وتضمحل القدرة على قراءة لغة الجسد، وتتراجع الحميمية العاطفية، لتتشكل هوية اجتماعية جديدة مقطوعة عن جذورها الطبيعية.

وهذا يعيدنا إلى منطق “العزلة داخل الجماعة” والتي هي ظاهرة مفارِقة تشير إلى أنّ الإنسان بات محاطًا بالآخرين رقميًا، لكنه معزول نفسيًا. وقد أصبح مألوفًا أن نرى عائلات تجتمع ماديًا، لكنها تتشتت وجدانيًا، إذ ينغمس كل فرد في عالمه الرقمي دون تفاعل اجتماعي حقيقي.

 

فالمشهد الذي تُشاهد فيه عائلة بكاملها حول مائدة الطعام، بينما ينغمس كل فرد في هاتفه، لم يعد حالة عابرة، بل تحوّل إلى نموذج ثقافي يُعبّر عن تغيّر عميق في علاقات الأسرة.

هذا التحول يحمل دلالات اجتماعية خطيرة:

  • تفكّك روابط الانتماء الأسري
  • تراجع الحوار اليومي الضروري لبناء الأمان النفسي
  • تآكل العلاقات العاطفية داخل البيت
  • غياب القدوة الأسرية لصالح قدوات رقمية مجهولة

إنها في حقيقة الأمر عزلة جماعية صادمة ، تأكل المعنى الحقيقي للروابط الاجتماعية، وتحوّل الأسرة إلى أفراد متجاورين جسديًا، متباعدين نفسيًا.

هنا يجب علينا الإشارة إلى الحالة الأسترالية التي اعلنتها الحكومة الاسترالية مؤخرا بتبني نموذج جديد لسياسات حماية الطفولة

والتي جاء فيها القرار الأسترالي بمنع الأطفال دون سن السادسة عشرة من امتلاك حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي ليمثّل خطوة مفصلية في مواجهة هذا الخطر الخفي.

القرار لم يكن رد فعل عفويًا، بل استند إلى عمل بحثي مؤسسي كشف أن المنصّات الرقمية تشكّل:

  • تهديدًا للصحة النفسية
  • عاملًا مساهمًا في انتشار القلق والاكتئاب
  • أداة تأثير عصبي يعيد تشكيل دماغ المراهقين
  • سببًا مباشرًا في تراجع الأداء الدراسي
  • مصدرًا جوهريًا لتآكل الثقة بالنفس

وقد أطلق علماء الاجتماع موخراً على هذه الظاهرة اصطلاح:

“الكوكايين السلوكي” (Behavioral Cocaine)، وهو توصيف علمي لا مجازي وهو وصف يشير إلى أنّ المنصّات الرقمية تُحدث أثرًا عصبيًا وسلوكيًا شبيهًا بتأثير المخدرات، لكن بآليات نفسية سريعة وقوية.

فالمنصّات صُممت لتبقى، ولتجعل المستخدم يُعيد العودة إليها بلا توقف، عبر سلسلة محفزات مصممة بدقة تعتمد على:

  • هندسة الانتباه
  • الإغراق بالمحتوى
  • المقارنات الاجتماعية
  • الحاجة المستمرة للاعتراف والتقدير

بخصوص البعد السياسي للقرار الذي اتخذته وقامت به أستراليا فهو يتجاوز الإطار التربوي، ويدخل في صلب السيادة الوطنية. فقد قالت الدولة بوضوح لشركات التكنولوجيا العملاقة:

“لن نسمح لكم بالتحكم بمستقبل أطفالنا، ولن نترككم تتلاعبون ببنية أدمغتهم مقابل أرباح.”

إنّ هذا القرار يعيد تعريف مفهوم الأمن القومي ليشمل الأمن النفسي والاجتماعي بوصفه أساس الاستقرار السياسي.

إنّ أخطر ما في الأمر أنّ السوشيال ميديا لم تعد مجرد منصة ترفيهية، بل باتت فاعلًا ثقافيًا يعيد تشكيل الهوية والقيم والخيارات السلوكية للأجيال الجديدة.

ويطرح انتشار “التوحّد التكنولوجي” سؤالًا وجوديًا يتعلق بمستقبل الإنسان والمجتمع:

من يملك عقول جيل الغد؟ الدول أم الشركات؟

إنّ المستقبل الرقمي لا يمكن أن يقوم على الحرية المطلقة دون ضوابط. فالتكنولوجيا، إذا لم تُنظّم، تتحول إلى قوة فوق اجتماعية تصنع الأذواق والقيم، وتضعف الروابط الإنسانية الأساسية.

ولذلك توصي التحليلات الأكاديمية بعدة مسارات:

  1. إصدار تشريعات وطنية لحماية القاصرين من الإدمان الرقمي
  2. تعزيز التربية الرقمية داخل المدرسة
  3. إطلاق حملات توعية حول أثر المنصّات على الدماغ والسلوك
  4. تنظيم وقت الشاشة داخل الأسرة
  5. بناء بدائل ثقافية وترفيهية خارج الفضاء الافتراضي.

والخلاصة في هذه الجائحة المرضية النفسية العصرية الحديثة هي بالإعتراف بان  “التوحّد التكنولوجي” اصبح ظاهرة بنيوية تُعيد تشكيل الإنسان العالمي الجديد .

وإذا كان العالم المتقدم بدأ يدرك خطورة هذا المسار ويتخذ إجراءات وقائية، فإنّ مجتمعاتنا العربية بشكل خاص مدعوة إلى التحرك قبل أن يصبح العلاج مستحيلًا.

إنها معركة حول معنى الإنسانية ذاته:

هل ستكون التكنولوجيا أداة لتحسين الحياة، أم بديلًا عنها؟

والسؤال الأخطر هنا من يملك المستقبل: المجتمع؟ أم الشركات؟ أم الشاشات؟

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى