كتب

مروية مارغريت دوراس عن عالم باهت

مروية مارغريت دوراس عن عالم باهت.. مهما جنح الخيال بالأدباء والمبدعين، وحاولوا نحت صور وأشكال تعبيرية جديدة مفارقة لما تربت عليه الذائقة فيصعب الخروج من أطر الواقع، والإبتعاد عن مؤثراته حتى ما يُسمى بالعبث والعدمية ليس إلا تعبيرا عن معايشة المبدع لواقعه، لذا فإن الموجات التي تشهدها الحياة الأدبية إنعكاس لسيرورة الواقع.

وكانت الطليعة التي مثلت إتجاها جديدا في الرواية أمثال (آلان رون غريبه، ناتالى سروت، ميشيل بوتور) تبلورَ في نتاجاتهم الإبداعية وتنظيراتهم نموذج جديد من الكتابة الروائية يخالف في تراكيبه ومكوناته السردية ما شكل مرتكزات أساسية في مُحترف أسلافهم، إنتفضُ دعاة الرواية الجديدة على عناصر الحكاية والحدث والشخصية إذ أعلنت ناتالي ساروت فقدان الشخصية للشيء الثمين الذي تتميزُ به طبعها وحتى إسمها.

يبدو أن الروائية الفرنسية مارغريت دوراس التي كانت محسوبةً على هذه الجماعة ترمي من خلال روايتها الموسومة بالحب تصميم مادتها بناء لمواصفات الرواية الجديدة بخلاف ما يجده القارئ في (العاشق) التي فازت بجائزة (غونكور).

حيثُ ضمنتها صاحبة (مرض الموت) سيرة حياتها لاسيما مرحلة الطفولة التي عاشتها في فيتنام وتجربتها العاطفية مع الشاب المنحدر من الهند الصينية، ومرارة الفقر لاسيما عقب موت الأب ما يعني إنفراط عقد الأسرة كل هذا يأتي في سياق النص الروائي.

صحيح أن في (العاشق) أيضا لا تُسمي المؤلفة شخصياتها ولا تبرز دور الحدث ومايستتبعه من التحولات، لكن يمكنك تحديد وظيفة شخصيات العمل والإنتقالات التي تمر بها الشخصية الأساسية تتكفلُ بسرد الحكاية مع التنوع في الصيغ السردية فبالتالي فإن السردَ يتسلسل منتظما مع توارد الإشارات إلى بيئة باريس وشخصيات فرنسية والأهم من ذلك هو تعين البينة المكانية والزمانية.بينما تختفي هذه الخصائصُ في رواية (الحب).

مناخ غائم

يطالعك في بداية الرواية مشهد سكوني إذ يكون الراوي مراقِبا لرجل واقف على الشاطئ يصفُ ملامحه وشكله مع ذكر عناصر الخلفية المكانية وهي عبارة عن الحفر وبقايا من المياه الراكدة ومن ثم ينتقل إلى ما يقابله وهو شخص آخر على مرمى عين الراوي دون أن يتبينَ شكله بالوضوح غير أنَّه يتحركُ في مسافة محددة جيئةً وذهابا ما يوحي بإنقطاعه من محيطه.

يستمر الراوي غير الظاهر في المتابعة ونقل ما يقع في حدود رؤيته، تُضاف شخصية أخرى إلى المشهد وهي إمرأة جالسة على يسار الشاطئ، إذ لا يلتقطُ القارئ ما يشير إلى وجود التواصل بين الأطراف الثلاثة ولا يهمل رصد تعاقب أحوال الطبيعة ويظل الصمت جاثما على المكان.

وما لا يتغير هو حركة الشخص الذي لا يخرج عن مداره لذا ينعته الراوي بالمجنون السجين، وما أن تُسْمَعُ صرخة حتى ينفتح مجال للتواصل بين المرأة والرجل الأول إذ بعدما تتأكد بأن الصوت وقد تناهى إلى الرجل تسأل الأخير عن توقيت وصوله إلى الشاطئ وتعقب بتوضيح عن إسم المكان مشيرة إلى أن هنا يدعى أس.تالا.

ومن ثُم ينضم الرجل المنهمك في مشيته إلى الإثنين، ويتبادل الكلام مع المسافر سائلاً إياه عن مكان الإقامة ولا يبحثُ عن الأجوبة لبعض أسئلته كأن ما يهمه هو مجرد الإحساس بأنَّه يتكلم، وما يأتي بعد ذلك هو لحظة مغادرة المسافر والمرأة للشاطئ إلى أن تتوقف كاميرا الراوي في غرفة المسافر وهو يراقب الليل من النافذة تختفي الأشياء كلها في جوف الليل الساكن.

ولا يوجد ما يلفتُ الإنتباه سوى محاولة المسافر لكتابة رسالة مؤرخة بـ14أيلول، أس تالا صيغتها تكشفُ أنها موجهة لإمرأةٍ المطلوب منها بأن لا تعود دون معرفة هويتها والمكان الذي من الأفضل أن تغيب عنه، وبهذا يصبح مناخ الرواية غائما كأنَّ ما يتراءى ليس إلا أشباحا أو آثارا لزمن غابر.

الإفتراض

يتبدلُ الإيقاع في مفصل آخر من الرواية بفعل توظيف تقنية الحوار هنا يتوارى السارد وتقتصر وظيفته على تعليقات مختصرة والتمهيد للإنتقال من مشهد إلى آخر.

ومن الملاحظ أن المرأةَ تزداد حضورا وتتخذُ غالبا دور المتسائل أكثر من ذلك فهي تخبرُ المسافر بأنها تنتظر مولودا مع جهلها بمن حملت.

يُشار إلى أنَّ مارغريت دوراس ترفق أجواء الرواية بمؤثرات صوتية وإيحاءات بصرية الامر الذي يقرب العمل إلى الأسلوب المسرحي أكثر.

تطورت العلاقة بين الرجل والمرأة تبوح الأخيرة بأنها تعرفه وتشيرُ إلى شخص آخر قد سأل عنه وأراد معرفة إنطباع المرأة حوله، وتسأل رفيقها المسافر عن سبب زيارته إلى أس .تالا هل جاء من أجلها أو ليقتل نفسه هكذا يدور الحوار بين الشخصيات الثلاث مع إيراد المشاهد المتناثرة إذ ترتفع صرخة إمرأة مناديةً أطفالها عندما تدوي صفارات الإنذار وتجرف الأمواج كلبا نفق على الشاطئ تتداخل أحداث الماضي والحاضر في صور سديمية ولاينتظم التواصل بين الشخصيات نتيجة الريبة والتوجس من البعض.

وبذلك تُفاجئك المؤلفةُ بعالم متلاش وشظايا الأشياء لا وجودَ لأثر المشاعر الإنسانية سوى إيماءات تَنُمُ عن تعاطف ما يُعرف بالمسافر للمرأة التي إستوطنت الشاطئ وتعتبر نفسها ميتةً إذ تتبدى الشخصيات التي يضمها العمل على شكل شبح لمن غادروا المكان.

إنَّ الإحساس بهلامية ما يعومُ في عالم الرواية يتضاعف مع إختلاط الأصوات وطمر هوية الشخصيات وإنغمار الماضي في حاضر بلا ملامح هنا يتساءل المتلقي لماذا إختارت الكاتبة “الحب” عنوانا للرواية هل أرادت القول بأن الأشياء ما تستعيدُ لونها وصفاتها الذاتية بدون إنبعاث المشاعر والعواطف التي لايكون الإنسان إنساناً بدونها.هذا هو الإفتراض الذي تتخلصه من قراءة الرواية.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى