كتب

مصطفى عطية: الوعي والسرد كل لا يتجزأ

ينطلق د.مصطفى عطية في كتابه “الوعي والسرد” من أن السرد ليس إلا عمل فني، وأي عمل فني لا ينفصل عن الوعي بكل تجلياته، فلا سبيل لإنشاء سرد أو الغوص فيه أو تلقيه إلا بالوعي.

فإذا كان المبدع ينشئ عمله عن وعي، فإن المتلقي يبحر في ثنايا العمل بوعيه، ويظل في وعيه ليكون جزءا من تكوينه. إذن، الوعي والسرد كل لا يتجزأ، وحدة لا تتشتت. ووفقا لهذه الرؤية جاءت دراساته ذات منهجية علمية واضحة، وتوثيق علمي، بافتراضات وأسئلة مسبقة، يتم التدليل عليها من عالم النص وبنيته، غير مقتصرة على دراسة الأبعاد الجمالية: بنيوية وأسلوبية، بل امتزج معها التأويل والسيميوطيقا والنقد الثقافي، والنقد الاجتماعي، في ضوء خصوصية كل تجربة.

هكذا اشتمل الكتاب – الصادر عن دار النسيم – على تنظير وتطبيق من منظور علاقتهما الوعي، وأهمية إدراك كينونة شقي العملية الإبداعية وهما: المبدع والناقد، وقد جاءت النصوص السردية موضع الدراسات التطبيقية متنوعة الأشكال: لتشمل الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، وأدب الطفل، وأيضا متنوعة الأجيال لتشمل عملاق الرواية العربية: نجيب محفوظ، وجيل الستينيات من مثل: إبراهيم أصلان، فؤاد قنديل، محمد حافظ رجب؛ وأصوات جديدة: جيهان عبد العزيز، عصام الزهيري، أحمد طوسون، أحمد قرني، ثروت عكاشة السنوسي..، مع مراعاة اختلافات السن والتجربة والخبرة الجمالية لكل منهم.

ورأى عطية أن مفهوم الوعي يختلف من مجال لآخر، فهناك الوعي الأخلاقي، والاجتماعي، والسياسي، والديني..، إلا أن هناك مفهوما مشتركا للوعي، يتمثل في: ممارسة نشاط معين (فكري، تخيلي، يدوي…إلخ)، وإدراك تلك الممارسة. فأي فعل يقوم به الإنسان إنما يصدر عن وعي منه، سواء كان قولا أو عملا أو فكرا أو تخيّلا أو نشاطا يدويا…، ومن هنا فإن الوعي بالنسبة إلينا: هو إدراكنا للواقع والأشياء، إذ بدونه يستحيل معرفة أي شيء. لذلك يمكن وصف الوعي بأنه الحدس الحاصل للفكر بخصوص حالاته وأفعاله. وبالتالي فإن تحديد الوعي بمجال معين، إنما يتناول المعرفة بهذا المجال، وفهم أبعاده، والمهارة في أدائه، فنقول مثلا الوعي الاجتماعي أي فهم أهمية العلاقات الاجتماعية ودورها لشخصية الفرد وبناء المجتمع، وسبل تنميتها، وتعميقها، وترشيدها إن زادت أو انحرفت، وهذا كله يتوقف على وعي الفرد ذاته وذكائه، وهو يتفاوت من شخص لآخر، في ضوء مهاراته وحاجاته.

وأضاف أن “اللاوعي” يندرج تحت الوعي إن لم يكن جزءا أساسيا منه، فهو المقابل له في العمق النفسي، وكما يصف فرويد النفس البشرية بأنها مثل جبل الجليد، ما يختفي منه أكثر بكثير مما يبدو ويعني به “الهو” أو ما يسمى مبدأ اللذة “نزعة الليبيدو”، الذي يحوي الغرائز والانفعالات المكبوتة، التي تعتمل داخل النفس وتظهر في فلتات اللسان والقلم والحركات، وهناك “الأنا” التي يواجه بها الإنسان مجتمعه، بأخلاق ونظام يحاول من خلالها التوافق مع مجتمعه. فالوعي واللاوعي كلاهما يتدخل في الفعل البشري، وإذا كان الإنسان واعيا بكثير من القرارات والأعمال والأقوال التي تصدر عنه، فإنه لا يستطيع فكاكا أن ينكر زلات اللاوعي التي تنضح من شخصه وتظهر في فعله.

وأوضح د.عطية أن علاقة الوعي بالسرد تأتي محددة في ثلاثة جوانب، تلتقي في مادة السرد، فالموضع الأول: الذات الساردة، والثاني: المسرود ذاته، والثالث الذات المتلقية. ويكون الوعي محركا بين هذه الجوانب، فهناك وعي لدى السارد ووعي في النص السردي، ووعي لدى المتلقي، وكلما استطاع المتلقي أن يتلقى النص السردي، ويفك شفراته، ويقف على الكثير من رسائله ورموزه، فهذا دليل على أن النص السردي واضح في طرحه، جميل في تشكيله، عميق في مضمونه، مع الأخذ في الحسبان أن هناك تفاوتا بين مختلف النصوص فهناك نصوص تفتقد العمق، وتنقصها الجماليات، مما يجعلها بسيطة الطرح، سطحية المضمون، وينأى عنها المتلقي سريعا لأنه استوعب رسالتها بيسر.

أيضا، فإن فهم المتلقي لرسالة النص وشفراته، دليل على مدى تمكن السارد / المنشئ في تكوين نصه، الناتج عن وعيه بالحكي، وإدراكه لكيفية تقديمه للقارئ بشكل جمالي وجذاب، وبالتالي تكون المعادلة بين الوعي والسرد قائمة على: وعي السارد وتمكنه من تقنيات سرده، وتحقيق هذا في النص بشكل عال، يجعل المتلقي سابحا متمتعا هاضما رسالة النص، مشاركا بفاعلية ووعي في إنتاج دلالات جديدة، تغذي نفسه، وتضيف لمجتمعه تنويرا وجمالا.

وأشار المؤلف إلى إن الذات الساردة تكوّن إبداعها عبر عوامل عقلية وانفعالية في أعماق المبدع، تستغرق بعضا من الوقت، ومن ثم تبرز على الورق. فأولى لحظات العمل والوعي هي – في الوقت نفسه – استيعاب وإدراك جمالي للعالم، فمظاهر عمل الإنسان ووعيه منذ بداياتها الأولى ذات علاقة مباشرة بالتجربة الجمالية، وهو عملية خلق يقوم بها الكاتب وإعادة خلق في لحظة الإدراك من قبل المشاهد أو المتلقي. وعلى قدر تمكّن الذات الساردة من عالم القصة، وامتلاكها الأدوات السردية في التعبير والبناء، والتقاطها لموضوع جديد، وأحداث مختلفة، وتناولها من زوايا جديدة، تكون الجدة والطرافة في السرد نفسه، وهو السبب الأساسي في تميز النص السردي. وعلى قدر تمكن السارد من موضوعه، وهضمه للأشياء والعالم المعبَّر عنه، يكون أدعى لعمل سردي جيد.. فـ “الصلة الفنية بين الأشياء والأفكار تتميز بطابعها المباشر، فهي مقارنة وتشبيه وتداع، أو هي تقريب حر لا يتطلب براهين”.

وأكد عطية أن دراسة الوعي في السرد يعني فهم الأحداث والشخصيات وتفاعلها زمانيا ومكانيا، والوقوف على وجهة نظر السارد في بنائه لسرده، ومدى الجدة التي طرحها في الزاوية التي تناولَ عبرها سرده. ومن المهم الأخذ في الاعتبار، أن مسألة تعدد الرواة، والسرد من زوايا متعددة إنما هي مسألة فنية، تهدف إلى الإيهام بالواقع، وهي شكل من أشكال الديمقراطية في التعبير، وفي حالة غياب هذا الموقع الفني الذي يتوخاه السارد يكون الخطاب في مجمله موجزا، مقتصرا على ما يرومه المنشئ فقط، أما في حالة تقديمه عبر بنية التبئير وبشكل فني، فهذا دلالة نهائية على أن المسألة لا تعدو إلا أن تكون وجهة نظر خاصة بالراوي في السرد، مؤطرة ومحددة بواقع هذه الشخصية ومحدداتها الاجتماعية والثقافية، فهي لا تتحدث في المطلق، وإنما تظل مروياتها خاضعة لرؤاها الذاتية المشبعة بوعيها الخاص.

وقال “يبقى تدخّل السارد العليم محدودا، بحدود حركة الشخصية، وطبيعته، والأحداث التي تحرّكها أو تتحرّك من خلالها، فلا يمكن استنطاقها بما لا يتناسب معها ولا مع تكوينها، وإلا لن يكون سردا محكيا بل خطابية ومباشرة، وينكشف قناع المؤلف الضمني، ويهتك ستره. ومن هنا، فإن وعي السارد بشخوصه يعني مدى تمكنه من الغوص في أعماق شخصياته، والتعبير عنها، واتخاذها نموذجا ومجالا لما يريد قوله، وهذا يجرنا إلى طبيعة الرسالة السردية، إنها رسالة مبطنة في ثنايا الشخصيات وما بين سطور الأحداث، وهي تختلف عن سائر الفنون، وأبرز ما يميزها هو مادة الحكي التي تجذب المتلقي، وتنقله لإيهام جديد، ومن ثم تتسرب في وعيه ما يرومه المؤلف.

أما المتلقي، فإنه يجد متعة في قراءته للنص الأدبي، تمثّل خلاصا من بعض التوترات النفسية، وقد يكون فيها تلذذ عندما يحوم مع المبدع في استيهاماته، ومن الممكن أن يتفاعل لاوعي المتلقي مع لاوعي السارد المتجلي في النص، ناهيك عن تفاعل وعي المتلقي مع وعي السارد وما تبثه إشارات السرد، وهنا تتحول القراءة من مجرد عملية تلق تقف عند مستويات أولية تتمثل في الاستمتاع بالحكاية وأحداثها إلى المتعة والتلقي الثقافي والفكري، والتحاور مع الحكاية نفسها، ونقدها، وتشريحها”.

ولفت عطية إلى أن القراءة بمعناها النشط هي نقد ينتج معرفة بالنص، فالقراءة النشطة تعني أن لا يبقى القارئ مجرد متلق، تُلقَى في ذاكرته حمولة النص ثم تتركه أسيرا لها، بلا قوة، وتصوغ لوعيه جدرانا، يبقى أسيرا لها. وإن النقد بمعناه المنتج قراءة تمكن صاحبها من أن يكون له حضوره الفاعل في النتاج الثقافي في المجتمع، وهذا يعني التأكيد على أهمية النص، ودور الناقد في قراءته بمنهجية.. وهنا يصبح القارئ – أيا كان – أساسا في فهم النص وتحوّله من مجرد نص مكتوب للقراءة والمتعة ومعرفة الجديد فيه، إلى مناقشة النص، ومن ثم نقل ما فيه إلى المجتمع، لينتقل النص من حالة الكتابة الثابتة إلى حالة التفاعل الاجتماعي والثقافي المتدفقة والمتجددة.

ورأى المؤلف أن عملا عظيما مثل “ألف ليلة وليلة” ليس مجرد حكايات تروى للمتعة، وإنما عمل مشوق لقي تجاوبا من قرائه ورسوخا في ذاكرتهم، فتحوّل تدريجيا من التلقي الأوّلي المتمثل في المتعة، إلى الانسياب الاجتماعي عبر إعادة إنتاجه وروايته شفاهيا، ومن ثم إدارة النقاش حوله من قبل السامعين، وتدريجيا ترسّخت الحكايات في الوجدان الجمعي، الذي زاد عليها، وحذَفَ منها، وأنتج الجديد المضاف إليها. ونفس الأمر مع حكايات “كليلة ودمنة”، فقد تحولت من حكايات للمتعة، إلى نص متداول، يعاد إنتاجه وسرده في عشرات اللغات العالمية، مستفيدا مما فيه من حكمة وخبرة إنسانية عظيمة، وقد ساهم النص عبر بنيته الحكائية الفريدة في تدعيمها، وجعلها تراثا إنسانيا جامعا للحكمة، وهذا ناتج عن تلق فاعل بالنقاش خرج بالكتاب من كونه مدونة سردية ماتعة، بها حكمة إلى فضاء ثقافي واجتماعي رحب، تجاوز الثقافة العربية والفارسية والهندية إلى الثقافة الإنسانية كلها، فتتقبله لما فيه من بنية حكائية فريدة، واستنطاق على ألسنة الحيوانات، وتقديم عالمها بعمق، ممزوج بالحكمة المرتجاة.

وقد جاءت فصول الكتاب تمثل تلك الرؤية في محاور عديدة، فتناول الفصل الأول – المعنون بـ “وعي المبدع، وعي الناقد” – مقالات عديدة حول دور المبدع والناقد معا، وأزمة القراءة النقدية والتميز الإبداعي، وقضية الذائقة والتحيزات، ونظرة النقد المعاصر للخريطة الإبداعية، وحالة النقد في مصر. في حين تطرقت بقية الفصول إلى الجانب التطبيقي، فيما يتعلق بتجليات الوعي واللاوعي في المسرود وكيف يمكن أن يكون الوعي مخترِقا ومتسائلا، محفزا ومستنهضا، ودراسة جوانب السرد المكتنزة بالثقافي والفكري، وتقاطع الزمن والمكان مع الأحداث. أما الفصول التالية فقد حملت الدراسات التطبيقية لقراءات في الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، وأدب الطفل انطلاقا من رواية الستينيات.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى