مفهوم الوطنية وفقه المواطَنة لدى الإسلام السياسي (صلاح سالم)

صلاح سالم

تطرح النزعة الأممية صعوبات إضافية تُثقل كاهل التيار الاسلامي السياسي، إذ تورِّطه في ما لا ينتهي من أزمات، وتثير حول خطابه السياسي أنماطاً من الدهشة والغرابة، خصوصاً عندما يتعرض لمفهوم الوطنية أو لقيمة الوطن بما لا يليق من الاحترام والتوقير، أو بما يكفي من الفهم والإدراك، وهو أمر يبدو جلياً في حالة الإسلام السياسي المصري قبل ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011 وبعدها.
فقبل سنوات قلائل من 25 كانون الثاني (يناير)، وضمن حديث لاذع، أطلق مرشد الإخوان السابق السيد مهدي عاكف مقولتَه الشائنة «طز في مصر»، وقبل أشهر قلائل، وبعد 25 كانون الثاني (يناير)، أفصحت رموز إخوانية في مناسبات شتى، عن الحلم المثير بخلافة إسلامية انطلاقاً من عاصمة هي القدس، لا القاهرة، المدينة التي يمكن اعتبارها عاصمة التاريخ، إذ ورثت أقدم عواصم مصر وحواضر الزمن منف وهليوبوليس والفسطاط… إلخ. وقبل أسابيع قلائل، تجاهل الشيوخ السلفيون الأعضاء في الجمعية التأسيسية عزف النشيد الوطني (المصري)، ولم يقفوا مع الواقفين، ولم يرددوا تلك الكلمات الحميمة، ولم تهتز أجسادهم مع أفئدتهم توقاً وتأثراً واستجابة لتلك النشوة، التي تسري في أجسادنا وتمسك بأفئدتنا حينما تشنف آذاننا موسيقاه، أو تزينها ترنيماته.
قد يذهب المرء إلى أجمل المدن وأغنى الدول، ممتطياً الفضاء المزدحم بأزهى الطائرات، ينزل أفخم الفنادق، يركب أرقى السيارات، يأكل ما لذَّ له ويشرب ما طاب، يشاهد ما سمع عنه في الأساطير أو قرأ عنه في الكتب مما يثير الخيال، يسير في شوارع وادعة بلا ضجيج، ويتدفق عبر ميادين واسعة بلا عشوائيات وقمامة وفوضى… غير أن الحنين سرعان ما يداخله، والشوق يكاد يقتله توقاً إلى عود متكرر، يشبه العود الأبدي، إلى حيث ولد وعاش، رغم الزحام الذي يغالبه والفوضى التي تكاد تخنقه والقبح الذي كثيراً ما يلاحقه، رغم سيارته العرجاء التي بالكاد تتحمله، وشارعه الذي تكسوه القمامة، وتتوسده الحفائر، وتعلوه المطبات؟… إنه الوطن الذي صنعناه جميعاً، ورثناه أباً عن جد، فأضفنا إليه وأخذنا منه، وسنتركه لأبنائنا وأحفادنا يضعون بصمتهم عليه كما وضعنا، يعيشون فيه كما عشنا فيه وعاش فينا، إنه صورتنا في مرآة الزمن.
وفي المقابل، لا يعطي المتأسلمون الوطن تلك القيمة ولا يرونه بتلك العين، والمواطن لديهم ليس الجار القريب، زميل العمل، أو رفيق النادي والحزب والنقابة، بل هو فقط الشريك في العقيدة السلفية أو الإخوانية، «الأخ في الله»، الذي قد يبتعد كثيراً في الأرض، وصولاً ربما إلى أقصى الشرق، في باكستان وماليزيا، أو الصين والهند، وإلى أقصى الغرب، في قلب أميركا «الفاجرة» حيث كانت «الغزوة» الناجحة، أو روسيا الملحدة، حيث الشيشان الصامدة، أو أوروبا الصليبية، حيث البوسنة الشامخة، فجميع هؤلاء إخوان حقاً، مواطنون فعلاً، شركاء في وطن متخيل، ولكن حضوره يفوق الوطن الواقعي، إنه الوطن الذي يُشتاق إليه حقاً فلا يزدريه أحد ولا يتجاهل رموزه أحد، ولا يملك أياً كان أن يقول له طز… الوطن الذي يضم مواطنين مفترضين ولكنهم أقرب إلى النفس من المواطنين الحقيقيين، من هذا الليبرالي عن اليمين، وذلك القبطي على اليسار، والذين هم فُجَّار وربما كُفَّار، يزاحمونهم بأجسادهم من دون أن يقاربوهم بأرواحهم، ينادون بقيم بالية، ويتمسكون بانتماءات وثنية، منها الانتماء لذلك الذي يسمونه (وطناً).
ولكن ما سر هذا الاختلاف بيننا وبينهم؟ بين أناس يتشاركون الوطن والدين، في العموم، بل ويتشاركون مع الأقلية التي تخالفهم العقيدة (المسيحية) نفس الدين (التوحيد) ونفس المطلق (الله) ونفس التراث (الإبراهيمى)؟ ما سر هذا التباين بين من يضعون الوطن على رؤوسهم من دون افتئات على الدين الذي موضعه القلب والضمير، وبين من يضعونه تحت أقدامهم، كونه مطية فقط للدين، وبالأحري تصورهم عن الدين، ذلك التصور الذي يخرجه من لحاء القلب والضمير والباطن، إلى سدى الزي والجسد والظاهر، يرتدونه ثياباً، ويطلقونه لحى، ويجعلونه هاجساً مؤرقاً لا نبعاً رائقاً؟
يكمن السر في رؤيتين جوهريتين ولكن متناقضتين لعلاقة الإنسان بالله، جل شأنه، ومن ثم لموقع الإنسان في العالم ودوره في الوجود، وهما رؤيتان لا تقتصران على الإسلام في الحقيقة، بل تمتدان إلى جل الأديان، وإن شهدتا في الإسلام قمة الحضور والوضوح، كونه الرسالة الأخيرة التي تبلغ فيها المعاني الوجودية قمتها، والأفكار الكلية ذروتها، والحقيقة الإنسانية شموليتها.
أما الرؤية الأولى، فترجع إلى التيار المنفتح في الوعي الثقافي العربي، والذي يمكن تجذيره في تربة العقل الإسلامي التأسيسي الممتد من الفقه إلى علم الكلام إلى الفلسفة… في الفقه من أبي حنيفة صاحب مدرسة الرأي، إلى الشاطبي صاحب فقه المصلحة والقصد، وفي علم الكلام إلى المعتزلة القائلين بالعقيدة القدرية، تلك المؤكِّدة حريةَ الإنسان وقدرته على الاختيار بين الخير والشر، ما يؤدي إلى مسؤوليته عند الحساب الإلهي الذي لا يمكنه أن يكون ذا مغزى لو أن الإنسان حُرم الاختيار.
وأما الرؤية الثانية، فترجع إلى التيار المنغلق في الوعي الثقافي العربي، والذي يمكن تجذيره في العقل التأسيسي الإسلامي الممتد من الفقه إلى علم الكلام والفلسفة.. في الفقه من مالك وابن حنبل رعاة مدرسة الحديث، الذي طالما عولت على الأثر الذي يكرس سلطان السلف، ورفضت الرأي الذي يفرض عمل العقل، وصولاً إلى ابن تيمية الذي كان أعلن غلق باب الإجتهاد. وفي علم الكلام، حيث واصلت تجليها في المدرسة الجهمية التي قالت بالجبر، أي خضوع الإنسان إلى حتم القدر وافتقاده أي قدرة على الاختيار، ما يعني في الحقيقة زوال معنى الحساب الإلهي، إذ لماذا وكيف يمكن حساب إنسان لم يُرد فعله، ولم يقرر أمره أو يختر سلوكه، بل عاش ما أراده الله؟ ورغم محاولة الإمام أبي الحسن الأشعري حل تلك المعضلة من خلال مفهوم وسطي بين الجبر والاختيار هو مفهوم (الكسب)، الذي يتصور أن أفعال البشر تجري بإرادة إلهية عميقة أدركت سلفاً ميول الإنسان فأجرت أفعاله على يديه ظاهراً، ولكن بمشيئة إلهية باطناً، فإن الحل لم يبدُ عقلانياً، ولا كافياً ولا مفهوماً، فهيمن الجبر على روح هذه الثقافة الاسلامية، خصوصاً بعد سيادة الإمام الغزالي المتكلم والصوفي الذي تمكن من تأميم الجدل الكلامي والفلسفي لصالح التيار الجبرى، القائل أولاً بعجز العقل أمام سلطة النص، وعجز الإنسان عن الاختيار أمام سلطة الجبر.
ولكن ما علاقة هاتين الرؤيتين بقضية الوطن ومفهوم الوطنية؟ يذهب التيار الأول المنفتح إلى الاحتفاء بالوطن كمفهوم وقيمة باعتباره نتاجاً للإبداع الإنسانى، ولقدرة العقل على مراكمة خبراته والاستفادة من تراثه، وإعمال معاييره، حيث أثبتت النزوعات الواقعية والخبرات التاريخية جميعها، أن الوطن كفضاء جغرافي يحتوي على بيئة معينة وثروات مقدرة، وتكوين سياسي له ملامحه ومحدداته، هو الرابطة العملية الأوفق لحياة البشر كجماعات قادرة على النهوض بأعباء العيش، وعلى التضامن في مواجهة الآخرين طلبا للحماية والأمن. وبتزايد الارتباط بالأوطان في الحقبة الحديثة، صارت تلك الرابطة أعمق، وصار لها رموزها من علم ونشيد وسلام وطني وتيمات ثقافية وأزياء شعبية وغيره من رموز تجعل الوطن، أي وطن وكل وطن، معلماً مشهوداً، وقيمة يحتفي بها المنتمون إليها. وهكذا يصير الاحتفاء بالوطن احتفاء بالإنسان نفسه وبفعاليته الوجودية، وبقيمته ودوره وقدرته على الترقي والتطور، والنهوض بمهمته الاستخلافية التي أمره الله بها.
وفي المقابل، يذهب التيار الثاني إلى الاستعلاء على الوطن وعدم إعطائه التقدير الكبير، لأنه ليس إلا اختراعاً حديثاً لا يمت إلى الله بصلة، فهو محض بدعة، ومن ثم ضلالة. ولأن كل ضلالة في النار، فمن المفترض في المؤمن الكيِّس الابتعاد عنها طلباً للسلامة، لأنه إن لم يكن في بدعة (الوطن) أو (ضلالة الوطنية) شر، فمن المؤكد أنه ليس فيها خير. ورغم أن كثير من مفردات القرآن الكريم، فضلا عن روحه، تتحدث عن حب العشيرة وأهمية الانتماء لجماعة، من دون نفي حب المؤمنين جميعاً والانتماء لرسالة الإسلام الكونية، فإن هذا التيار لا يدرك هذا المغزى أو يتجاهل ما يرتبة من حقيقة الوطن، معيراً كل جهده لشراكة الإيمان وحدها.
لا يحتفي هذا التيار إذن بالوطن، كونَه من عمل الإنسان، وهو لا يحتفي أصلاً بالإنسان، وكونَه نتاجاً للعقل، وهو لا يحتفي أصلاً بالعقل، وكونَه خلاصة للتجربة التاريخية، وهو لا يحترم لا التجربة ولا التاريخ، باعتبارهما ليسا إلا تجسيدا للـ (مدنس)، فيما لا يقدِّر هو سوى الإلهي الـ (مقدس). ورغم اتفاقنا معه على تقدير ما هو إلهي، إلا أننا نؤمن بأن العقل، لا النص وحده، يمثل عطاء إلهياً، وأن خبراتنا واجتهاداتنا التي راكمناها عبر التاريخ ليست إلا استثماراً لذلك العطاء واحتفاء به، ولذا نؤكد احترامنا للوطن، لأن في ذلك احتراماً لجوهرنا العقلاني الذي منحه الله لنا.

 

صحيفة الحياة اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى