كتب

ملحمة مقاومة يوغوسلافيا للاحتلال النازي

 

يعد الكاتب السلوفيني دراجو يانتشر أحد أشهر الكتاب المعاصرين في جمهورية يوغوسلافيا السابقة “سلوفينيا”، ولد عام 1948 حيث كان والده أحد الفلاحين الذين انضموا إلى جيش البارتيزان ـ البارتيزان حركة مقاومة ثورية تزعمها الشيوعيون في يوغوسلافيا إبان الحرب العالمية الثانية سعيا لإقامة دولة شيوعية في يوغوسلافيا ـ الذي حارب الاحتلال النازي. وهذه الرواية “تلك الليلة” تتشكل أحداثها في تلك الأجواء ما بعد الحرب العالمية الأولى وبدايات الحرب العالمية الثانية في تلك المنطقة من العالم يوغوسلافيا سابقا التي غزتها ألمانيا النازية عام 1941 وقيام العديد من حركات المقاومة ضدها تتعلم فيرونيكا ركوب الخيل بواسطة مدربها الضابط بالجيش اليوغسلافي الذي تتوطد علاقته بالسيدة غريبة الأطوار المزاجية والمندفعة المتهورة حتى تقرر الهرب معه، لكن تجربتهما تبوء بالفشل، فتختار فيرونيكا أن تعود إلى زوجها المهووس بها الذي يسامحها، لتكون تلك البداية الحقيقية للأحداث التي تدور في يوغوسلافيا مع إرهاصات الحرب العالمية الثانية وتشكل حركات المقاومة ضد الفاشية.

يكوّن الزوجان صداقات مع كبار ضباط الجيش الألماني – الذي احتل يوغوسلافيا – من أجل الحفاظ على استمرارية أعمال الزوج في ظل الحرب، فيما ينضم عشرات من العاملين لديهم إلى الجيش الشعبي لمقاومة الاحتلال “جيش البارتيزان” الذي ينضم إليه أيضًا عشرات من ضباط الجيش السابقين، ومع ازدياد قوة هذا الجيش يبدأ الخطر في الاقتراب من فيرونيكا. تكشف الرواية ملامح الاحتلال النازي ليوغوسلافيا وأبعاد وتأثيرات الأفكار الشيوعية والأفكار المناهضة لها في أوساط الجيش اليوغوسلافي وكذا حركات المقاومة، وكيف امتدت هذه الملامح والتأثيرات على التركيبة الاجتماعية والفكرية والثقافية على الأفراد والعلاقات فيما بينهم، إنها رواية تخطف الأنفاس تتقاطع فيها حكايات التاريخ والحرب والحب والخيانة لتقدم لنا عملًا روائيًّا ملحميًّا عبر سرد متدفق وممتع.

الرواية فاز كاتبها بجائزة الدولة النمساوية للأدب الأوروبي 2020، كما ترجمت أعماله إلى 21 لغة، وفازت بالعديد من الجوائز؛ من أهم الجوائز التي حصل عليها جائزة بريشيرن ـ أرفع جائزة أدبية في سلوفينيا ـ عن مجمل أعماله 1993، كما انضم لعضوية الأكاديمية السلوفينية للعلوم والآداب 1995.

“تلك الليلة” حظيت باحتفاء أوروبي واسع خاصة بعد فوزها بجائزة كريسنك لأفضل رواية سلوفينية لعام 2011 وجائزة الاتحاد الأوروبي للآداب في العام نفسه، كما فازت بجائزة أفضل رواية أجنبية في فرنسا عام 2014.

مقتطف من الرواية:

رأيتها تلك الليلة وكأنها من دم ولحم! كانت تمشي في ممر الثكنة العسكرية بين طوابق الأسِرّة التي ينام عليها زملائي الضباط وهم يتنفسون بهدوء وسلام. ثم وقفتْ إلى جوار سريري وحدّقتْ بي بنظرة شاردة تائهة. كانت نفس النظرة التي اعتادت أن تنظر بها إليّ في الليالي التي جافاها النوم بها، لتهيم في أنحاء شقتنا بماريبور دون هوادة، فتقف أولًا في النافذة، ثم تجلس بعدها في الفراش، ثم ما تلبث أن تعود مرة أخرى إلى النافذة. وأسمعها تسألني:

ـ “ما بك يا ستيفن؟ هل جافاك النوم أنت أيضًا؟”.

صوتها كان رخيمًا، عميقًا، هادئ النبرة، حتى بدا لي كأنه أشبه بصوت ذكوري، لكن – إلى حد ما – دون ملامح تحدده. كنت متفاجئًا من هذا الصوت لأنني أعرف صوتها جيدًا، وهو مختلف عنه تمامًا. أعرفه رغم أن أثره تضاءل ونبرته خفتت على مدى المسافات التي قطعتها السنوات الماضية. ما زلتُ أستطيع استرجاع تفاصيل ملامحها كلما أردت؛ عينيها، شعرها، شفتيها، وجسدها أيضًا. نعم! جسدها الذي تمدد إلى جواري منقطع الأنفاس أكثر من مرة. لكنني لم أسمع صوتها في أي من تلك المرات. أول ما تفتقده في شخص انقطعتَ عنه لفترة طويلة هو صوته؛ نبرته، لونه، قوة اهتزازه.

لم أرها منذ فترة طويلة، تقريبًا منذ سبعة أعوام. انتابتني رعشة، على الرغم من أنها كانت آخر ليلة في مايو، تقريبًا نهاية ربيع عام 1945، حتى إن كل ما في الطقس كان صيفيًّا، والجو خارج الثكنة دافئًا، وداخلها سرتْ أنفاس العديد من الرجال النائمين بشهيقها وزفيرها المتواصلين. إلا أن هذا الخاطر قد جعلني أرتعش. على مدى سبعة أعوام لم تغنِّ فيرونيكا حبيبتي سوى مرة واحدة تلك الأنشودة الفلكلورية السلوفينية “سنتقابل مرة أخرى” التي أحبتها كثيرًا وتذكرتها في لحظات الحنين إلى الوطن. حينها أيضًا اعتادت أن تنظر لي نفس النظرة الخاوية التي ترمقني بها الآن. الله وحده يعلم متى كانت ستنتهي تلك السنوات السبع.

أردت أن أقول لها إن مجيئها حدث سعيد جدًّا بالرغم من وقوعه بعد مرور سبع سنوات. وأن أخبرها أن فراناتس لم يزل معي إذا أرادت رؤيته. وأنه الآن يقضي الوقت مع خيول الضباط داخل الإسطبل، ويستمتع بذلك. وأنه يستطيع أن ينطلق راكضًا في المروج، ولم يعد مضطرًّا للبقاء في حظيرة ما. فقد حظي بصحبة جيدة، رغم أنه ما زال مفتقدًا لمسة يدك التي طالما مسحتْ على جسده. تمامًا كما أفتقدها أنا. أردت أن أقول الكثير، لكن صوتي احتبس في حنجرتي، ولم يخرج منه سوى قرقرة غير مفهومة صعدت إلى فمي بدلًا من الكلمات التي أردت قولها. لقد تخيلتك تسكنين قصرًا في سفوح الجبال السلوفينية، ولمّا رأيتك، أردت أن أسألك عن السبب الذي أتى بكِ إلى هنا.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى