الاقتصاد الأخلاقي والمواطنة الصالحة

تتفاوت قدرة اقتصادات الأوطان والاقتصاد العالمي في التعاطي مع الأزمات المختلفة. ففي ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية، نحتاج إلى حلول خلاّقة قادرة على بث روح الثقة في الاقتصاد بدلاً من الاكتفاء بالحديث عن “الإصلاح” وعدم اتخاذ خطوات بناءة لتحقيقه مهما اشتدّت التحديات.

واليوم يحتاج الاقتصاد الوطني، وربما اقتصادات مشرقنا العربي برمتها، إلى استراتيجيات جديدة للتعامل مع قضايا المواطن والنازح واللاجئ والمهجر، الأمر الذي سيبحث في الجمعية العامة للأمم المتحدة من خلال الاجتماع الأممي الرفيع المستوى بشأن اللاجئين والمهاجرين والمقرر عقده في نيويورك في 19 أيلول سبتمبر 2016. يتمحور هذا الاجتماع حول تحقيق التزام متجدد بتكثيف الجهود الرامية وتعزيز احترام القانون الدولي والمعايير والأطر الدولية التي تدعو إلى مكافحة الإتجار بالبشر وتهريب المهاجرين واللاجئين، وضمان توفير الحماية وفرص العمل التي تمكنهم من العيش الكريم. ومن أهداف هذا اللقاء الأممي أيضا تعزيز دور القطاع الخاص في التنمية.

يتوجب علينا السعي نحو إعادة هيكلة الاقتصاد السياسي والاجتماعي على المستوى الإقليمي وفق ما يدعى بـ”النموذج الجديد” بدلا من الاعتماد الواسع على الريع النفطي. فقد توصلت دول مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، وبعد عقود من الزمن، إلى قناعة عميقة بأن الاعتماد الواسع على الريع النفطي أدى إلى تزايد الاغتراب الإجتماعي والسياسي في المنطقة والذي لا يمكن التصدي له بدون سياسة إقتصادية جديدة على المستوى الاقليمي للمنطقة. ونحن نستشرف بنظرة تكاملية منذ عقود في المسعى الحديث لبناء واقع تكاملي بين الهلال الخصيب وخليج الطاقة بإمتياز إلا إننا طالما نُصدر منتجين و نستورد مستهلكين لا يمكن لنا أن نعالج التباينات في الدخل ما بين الأفراد والجماعات على المستوى الإقليمي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن إعادة الهيكلة لأرامكو كنواة لاقتصاد جديد انساني المحتوى أمر يؤكد ان الرأسمال الإنساني هو أبقى من أي ثروة أخرى.

هنالك العديد من الكتب والدراسات التي تتناول القضايا الاقتصادية والتغيرات التي تشهدها المنطقة والعالم. وهي، بذلك، تقدّم مثالاً للنقاش المحتدم في الدول الصناعية حول الأزمة الاقتصادية والمراجعة المطلوبة للنموذج “غير الناجح” للنمو في العالم المتقدم منذ عام ٢٠٠٨ (لا أريد قول “الفاشل”). ومن أهم هذه الكتب: كتاب “اللعبة الوحيدة في المدينة” للخبير الاقتصادي محمد العريان، وكتاب “الثورة الصناعية الرابعة” للمؤلف كلاوس شواب وكتاب “الرأسمالية 4,0” للخبير الاقتصادي الألماني أناتول كاليتسكي. وعندما يتساءل كاتب مشهور وإقتصادي مخضرم مثل محمد العريان في كتابه المذكور في الفصل السابع: “عودة الحياة للبنوك المركزية أم ‘حلاوة الروح’؟”، فتلك إشارة واضحة إلى خطورة الأوضاع الاقتصادية في البلدان المتقدمة كما يراها المحللون.

ينادي الاقتصادي أناتول كاليتسكي بولادة جديدة للاقتصاد الغربي، أو ما يسميه “بالرأسمالية رقم 4,0″؛ مبيّنًا وجود أربع مراحل للأزمات الاقتصادية الحادة في الدول الصناعية منذ القرن التاسع عشر. إن الديموقراطية الرأسمالية هي نظام متجدد يستجيب للأزمات عن طريق إحداث تغيرات جذرية في العلاقات الاقتصادية والسياسية. لقد أدى إنهيار النظام المالي في الرأسمالية المتحررة خلال الأزمة المالية العالمية إلى موجة التغييرات الجذرية الأخيرة والرابعة التي يسميها كاليتسكي الرأسمالية 4,0. فأين الوطن العربي من هذه التغيرات؟

كما يستعرض كاليتسكي في كتابه المذكور تلك الأزمات الاقتصادية الحادة خلال القرنين الماضيين٬ وتطورها من رأسمالية 1,0 التابعة للمرحلة الكلاسيكية في القرن التاسع عشر إلى رأسمالية 2,0 وتدعى المرحلة الكينزية٬ إلى رأسمالية 3,0 في فترة تاتشر وريغان وهي بداية الرأسمالية الرقمية. وأهم ما يميز الرأسمالية في هذه الفترات الثلاث العلاقة بين السياسة والاقتصاد، وبين الحكومة والسوق. وما كدنا ان نستشعر بالرأسمالية الرقمية إلا ووجدنا أنفسنا أمام الرأسمالية 4,0 والتي يصفها أناتول كاليتسكي بالرأسمالية الابداعية البرغماتية. فالرأسمالية 4,0 ممكن أن تعترف بأن الحكومة ومنافسة السوق معرضتان للخطأ في الكثير من الأحيان وبأن العالم متقلب ومعقد ولا يمكن إدارته ببنية من المؤسسات الجامدة غير القابلة للتغير والتطوير.

ويواكب النمو الاقتصادي الهزيل ‘سياسات الغضب’ كما نشاهد في الانتخابات الأمريكية، وفي الاستفتاء لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وما يجري في الانتخابات في النمسا وغيرها. ويتسارع ظهور سياسيات التطرّف اليميني واليساري في الديمقراطيات المتقدمة. فالتطرف العقائدي كما نعلم من شأنه تاريخياً أن يلتقي اذا وجدت المبررات. ولكن بالتوازي، هنالك نهضة اقتصادية في شرق وجنوب آسيا، في الصين والهند وما كان يسمى بالنمور الآسيوية (بالرغم مما يقال عن تباطؤ النمو في الصين!).

وحين يتحدث كلاوس شواب، رئيس مؤتمر دافوس، في كتابه عن الثورة الصناعية الرابعة، فإنه يقدمها كحَلّ قد ينهض بالنمو الاقتصادي المتراجع، خاصةً في الدول الصناعية المتقدمة. فهذه الثورة هي من بنات أفكار الحكومة الألمانية، وتتمثل تحت مسميات من نوع “الصناعات الرقمية الذكية المتكاملة”، و”المُكونات الرقمية للمواد والخامات المستخدمة في الصناعة”، و”المصنع الرقمي الذكي”، و”الإدارة الذاتية الرقمية” وغيرها. وتصف تلك المسميات صناعة آخذة في التبلور، لا يتدخل فيها العنصر البشري إلا بصورة طفيفة، بمعنى أن يكون الإنسان محاكيًا للآلة ومراقبًا ومدققًا لصنع السلع، ولا يكون منتجًا لها.

فحسب معهد ماكينزي العالمي، أدّت ثورة “إنترنت الأشياء””Internet of Things IoT إلى تحديات جديدة في عالم تقنية المعلومات. فبفضل رقائق التخزين المميزة والاقتصادية، أصبح الآن بوسع الأجهزة والأشياء المعروفة التي تتمتع بذكاء الإنترنت – مثل المنازل والسكك الحديدية والأبنية والجسور أن تراقب وتتواصل وتستجيب عند وقوع أي تغيرات مناخية. ومن خلال إمكانية التواصل بين عدد أكبر من الآلات باستعمال توصيلات إنترنت الأشياء، ستحظى الشركات والمؤسسات الناجحة التي تتحمل مسؤولياتها الاجتماعية بكمٍ هائلٍ من المعلومات الجديدة النفيسة، التي ستكون رهن إشارتها لأغراض التحليل والبحث. ويتوقع معهد ماكينزي العالمي أن تضيف الإمكانات الكامنة الهائلة في إنترنت الأشياء ما يقارب 6,2 تريليون دولار سنويًا إلى الاقتصاد العالمي بحلول العام 2025.

فالسؤال هنا، هل تشكل الضمائر الانسانية جزءاً من هذة المنظومة؟ هل للاخلاق مكان؟!

واستنادًا إلى كل ما أنف ذكره وبالتزامن مع الذكرى المئوية لنهضتنا أتمنى أن نوسّع آفاق التفكير في عالمنا العربي ونعمل على إيجاد السبل التي تسهم في تحويل الحلم إلى نهضة وحقيقة. ففي الغرب أطلقوا تسمية “الربيع العربي” على التطورات التي جرت على الساحة العربية في السنوات الخمس الماضية. فيما يعتبره البعض الآن “خريفًا” ضرب المنطقة العربية وأدخلها في أتون الفتن والصراعات والحروب. فهل يمكن القول بأن ما يجري في الديمقراطيات المتقدمة هو ‘الربيع’ أو بالأحرى ‘الخريف الغربي’؟

فكما نرى في أمثلة الكتب الثلاثة، فإن “سياسات الغضب” أو “موجات الغضب” في الغرب، لم توقف التفكير الخلاق والإيجابي من أجل مواجهة التحديات التاريخية التي أمامهم. فهل لنا بتفكير إيجابي خلاق في عالمنا العربي في الذكرى المئوية لنهضتنا؟

إنني أرى في شعبنا الخلاق بداية لمثل هذا التفكير لتفعيل و تمكين الشباب في المواطنة الحاضنة لكي يعمل القانون من أجل الجميع. فلا يمكننا إغفال دور الشباب في النهوض بالمجتمع والمشاركة الفاعلة بمختلف حقول المعرفة والإنتاج والإبداع. ولا يتحقق ذلك بمعزل عن بناء جسور المعرفة و مهارات الحياة والتواصل والتشبيك بين جميع الفئات المجتمعية وعلى أعلى المستويات المحلية والإقليمية والدولية. إن للشباب دورًا مهمًا في خطط الإصلاح وعمليات التطوير التي تتطلب منهجية واضحة في التفكير تبدأ في التنشئة السليمة في العائلة المتماسكة التي ترفض الاستسلام للعنف والطائفية. فيحتل الأردن المرتبة الثمانين حسب فهرس التنمية الانساني متوسطا غرينادا و مقدونيا. كما و أنه حلّ في المرتبة الثمانين أيضا على مستوى العالم بعد أندونيسيا حسب فهرس السعادة العالمي.

يحتاج التطوير إلى رؤية واضحة منفتحة على العالم و على الآخر في نطاق العالم النامي تكون في تواصل وتفاعل مع الرؤى التنويرية الأُخرى. فكيف يمكن أن نرسخ ثقافة العمل من دون التأكيد على دور الفرد وحقه في المواطنة الصالحة المسؤولة التي يتم من خلالها التعاطي مع تحديات الواقع؟

لا بدَّ أن يكون من أولوياتنا الانتقال من ثقافة الاستهلاك إلى الإنتاج، وإعادة التكامل بين العمل والثروة، والتركيز على السياسات لا السياسة. فهي بكلّ تأكيد من أهم أدوات التمكين الاقتصادي المبني على أساس إنساني. وقد نتفق جميعًا على مسببات الغضب إلا أن درء السيئة بالحسنة وتحكيم الفكر والإرادة يوجب علينا إيجاد إجابات وحلول خلاقة تنصف الضعيف وتمكّن الإنسان من ممارسة المواطنة الصالحة.

أقول: هنالك عجز في ميزان الكرامة البشرية والنزاهة لا يعالج إلا بتغيير في الأفكار، فلا نترك الأحداث تسيّرنا. فلا بد من تعبئة الفراغ الفكري الذي نشهده والعمل على صياغة رؤى تنظّم العلاقات بيننا وبين الآخر.

* رئيس منتدى الفكر العربي وراعيه

صحيفة الأهرام المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى