كتاب الموقعنوافذ

موسم الهجرة إلى الشمال

خاص :

هذا العنوان ليس لي

هو عنوان رواية للكبير الطيب الصالح الروائي السوداني ( موسم الهجرة إلى الشمال) – رواية صدرت عام 1966 ودارت أحداثها إن لم تخني الذاكرة عام 1922 قرأتها في مطلع سبعينيات القرن الماضي في موسكو واعدت قراءتها بعد عشرة أعوام, حين درست بعض نماذج من الروايات العربية, وفي المرتين تساءلت : لماذا أطلق الطيب صالح على روايته هذا العنوان ؟ والمثل يقول : (المكتوب يقرأ من عنوانه)، وكما هو معلوم إن للعنوان دلالته لأن العنوان يشي بالمضمون. وإذا ما دققنا بالعنوان هذا وبكلمة ( الهجرة ) سنجد ان مضمون الرواية ليس (هجرة) بالمعنى التام والصحيح بكلمة هجرة، فبطل الرواية مصطفى سعيد ليس مهاجراً، كونه موفداً للدراسة ونتيجة لتفوقه وذكائه الخارق رعاه مستر روبنسون وزوجته وتم إيفاده إلى لندن أثناء الاحتلال البريطاني للسودان، في لندن، أتم دراسته بتفوق, ونال شهادة الدكتوراه بالاقتصاد، وتم تعينه محاضرا في إحدى جامعات لندن، وهذا استثناء وذلك مكافأة لذكائه الخارق .

بطل الرواية هذا العربي السوداني الأسمر المتفوق وفائق الذكاء، سبب بانتحار ثلاث فتيات، وفي النهاية ارتكب جريمة شنعاء إذ أغمد السكين في صدر عروسه ليلة الدخلة بطريقة سادية، انتقاما منها، لأنها أهانته يوم تعرف عليها وكان مع رهط من صديقاته إذ قالت له : (لم ار في حياتي وجهاً بشعا كوجهك).

في المحكمة يعترف بالجريمة ويحكم عليه بالسجن سبع سنوات فقط، ويعود إلى السودان ليستقر في إحدى القرى فيتزوج، ويعيش كما يعيش باقي أهالي القرية إلى أن يختفي .

تذكرت عنوان هذا الرواية في هذه الأيام، التي تشهد هجرات كثيرة وكبيرة إلى الشمال وأتساءل : لو كان الطيب صالح بيننا الآن، ويرى ما نراه ويسمع ما نسمعه، ويقرأ ما نقرؤه ويعيش معاناة العرب في ليبيا وتونس ومصر واليمن والعراق وسورية، ويشهد بأم العين هروب الناس أفواجاً أفواجاً إلى الشمال فماذا كان سيقول أو يضيف إلى روايته ؟ أعتقد جازماً، أنه سيقول: الآن الآن الآن موسم الهجرة إلى الشمال.. حقاً ماذا كان بذهن الطيب صالح عندما أطلق هذا العنوان على روايته تلك، اذ لا يوجد فيها شيء يدل إلى الهجرة، فالطالب الذكي جداً المتفوق المعجزة درس ونجح وتفوق وعاشر فتيات بالجملة ثم قتل عروسه وسجن وعاد.. فأين هي الهجرة ، وأين هو موسمها ؟

جملة واحدة، قالها ذات مرة: (جئت غازياً) أم إن الطيب صالح تنبأ قبل عقود من الزمن وعرف حال العرب وما آلت إليهم شؤونهم من ذل ومهانة وتعاسة وبؤس فصارت الهجرة هجرات بالجملة من البلدان التي ذكرت أعلاه وخربها الإرهاب، وتركها يباساً يباباً، وربما تنبأ أو قرأ وعرف الباطن قبل الظاهر في سياسة الاستعمار، فقرأ المستقبل.

وإن كان الطيب صالح يقصد بالهجرة إلى بريطانيا في روايته فان الهجرة اليوم إلى كل بلدان أوروبا تقريبا من الجنوب الفقير إلى الشمال الغني الجنوب الذي يعاني من الفقر والقهر ومن الحصار ومن البطالة ومن العطالة ومن الشح في الطاقة، حتى الغرق في الظلام ومن غلاء الأسعار الكاوي ومن جشع التجار الذي لا حد ولا نهاية له فنشطت الهجرة، وأي هجرة . أ

والسؤال الذي يطرح نفسه الان : هل البلدان التي رعت الإرهاب ومولته ودربته، أصبحت الآن حنونة وشغوقة وإنسانية كي تستقبل وتحتضتن آلاف آلاف المهاجرين ؟ وهل هذه البلدان تستقبل المهاجرين كمساعدة، كصدقة،  كإحسان، كإنسانية، أم هي بحاجة إلى الزنود السمر القوية ؟

ذات يوم وصف رئيس الولايات المتحدة الأميركية بوش الصغير أوروبا قائلاً : ( أوروبا العجوز). وماذا يعني ذلك؟ يعني أن العجوز أوروبا تمتلك الموارد الهائلة من الثروات الاقتصادية والصناعية والزراعية إلا أنها تفتقد اليد العاملة، فالعجوز بحاجة إلى من يخدمها لأن العجوز عاجزة، فهي بحاجة للعمال في المعامل والمصانع والفابرك،  بحاجة إلى العمل في الزراعة وفي الحراثة وفي القطاف وفي الحصاد . العجوز بحاجة إلى من ينظف البيوت ويكنس الشوارع ، ويحافظ على الصرف الصحي، ويدور المكنات، ويجني المحاصيل ويناوب في ليالي الصقيع في المشافي والمستوصفات للسهر على راحة العجائز وصحتهم ’ ولهذا كله رحبوا بالمهاجرين من فئة الشباب فقط لخدمة العجوز والعجائز .,

إذن : لا مساعدة، ولا شفقة، ولا رحمة، ولا إنسانية، ولا حسنةـ ولا صدقة. والجدير بالذكر أن المهاجرين برا وبحراً لا قوا الموت الزؤام فمن مات برّاً في الغابات كان قبره في بطون الوحوش المفترسة، ومن قضى غرقاً في البحر كان قبره في بطون الحيتان والأسماك. ومن حالفه الحظ بالنجاة صار خداما وعزاؤه انه يرسل بقايا دولارات لذويه مستفيدين من ارتفاع صرف العملة .

بلى

يا أيها الطيب : إنها مواسم الهجرة إلى الشمال بالجملة  .

 

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى