فن و ثقافة

نجيب محفوظ ونزار قباني وجهًا لوجه

لم يكن نجيب محفوظ في يوم من الأيام مع الرأي الذي يقضي بحجب الإبداع ومنعه ومصادرته، وله مواقف مشهودة في هذا الأمر عندما كان رقيبًا على المصنفات الفنية عام 1959، وكان النقاش والإقناع سبيله إلى التغلب على أية عقبة تقف في طريق الحجب والمنع.

لذا لم يكن موافقًا على حجب ومنع قصيدة “هوامش على دفتر النكسة” للشاعر السوري نزار قباني التي كتبها بعد الهزيمة، والقصيدة جاءت معبرة عن آلام الشعب العربي وأحزانه جراء الهزيمة والأسباب التي قادت إليها. وهي تعد تحولا خطيرًا في مسيرة نزار الشعرية، لكن التقزّز من النفس لا يكفي. والاقتصار عليه إخلالٌ بالرؤيا المتكاملة، وإنما يغفر لنزار أنه كتبها في أعقاب النكسة مباشرة.

وكان صاحب “الثلاثية” يتابع الشاعر ويستمع إلى بعض قصائده المغنّاة، وقد سعد بالقصائد التي لحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب ومحمد الموجي وغنتها كوكب الشرق أم كلثوم والمطربة نجاة الصغيرة، والقصائد التي غنّاها عبدالحليم حافظ، وفايزة أحمد وغيرهم.

ولكن اختلف الأمر عندما كتب نزار قصيدة بعنوان “المهرولون” عام 1995 بعد اتفافية “أوسلو”. وقتها رأى صاحب “الكرنك” أنها قصيدة قوية جداً، وقنابل تفرقع في عملية السلام، من دون أن تقدم بديلا عنها. وقال في جريدة “الحياة” التي تصدر في لندن: “لقد أعجبتني (القصيدة) رغم اختلافي السياسي معها”، إنه لا ينفي إعجابه بها. وقال “من يشارك نزار قباني موقفه، سيجد فيها تعبيراً قوياً عن هذا الموقف، لكنه موقف يبدو أضعف من القصيدة بكثير، قصيدة قوية. وموقف ضعيف”.

لقد أبدى صاحب “أولاد حارتنا” تقديره لما حوته القصيدة ضمنًا من نداء للعرب بأن يهبوا، واعتبر محفوظ ذلك أملا نتطلع إليه جميعا، لكنه رأى أن هذا لا يكفى من دون طرح بديل لما يجرى في عملية السلام، وأعرب عن عدم اقتناعه بأن هذا البديل هو أن نوقف هذه العملية، و(نقعد ساكتين)، وقد لاحظ أن نزار قباني لم يقل إنه مع الحرب، ولم يقدم أي بديل. ففي مثل هذه المواقف لا بد من تقديم البديل، ولا يكفي أن نهاجم العرب أو الحكام لأنهم يهرولون ويلهثون، ويقبّلون حذاء القتلة، ويفرطون في كل شيء، فالأهم أن يقول لهم الشاعر ماذا يفعلون.

وفي رأي صاحب “السمان والخريف” أن هناك من يرفضون السلام فيما لا ينادون بالحرب، ولا يقدمون خيارًا ثالثا. وقال: ماذا يفعل هؤلاء المتهمون بأنهم يهرولون، هل يجلسون ساكنين بلا فعل، وإذا كان البديل هو الإنتظار السلبي، فإن الطرف الآخر لا ينتظر أحداً، وإنما يمضي في ابتلاع الأرض.

لم يسكت نزار قباني بطبيعة الحال، وجاء رده قاسياً عنيفاً، ساخراً، وقد نشره في مجلة روز اليوسف، وقال “الأستاذ نجيب محفوظ، إنسان رقيق كنسمة صيف، وحريري في صياغة كلماته، ورسولي في سلوكه على الورق، وسلوكه في الحياة، إنه رجل اللاعنف الذي يمسك العصا من وسطها.. ولا يسمح لنفسه بأن يجرح حمامة.. أو يدوس على نملة.. أو يغامر.. أو يسافر.. أو يغادر زاويته التاريخية في حي سيدنا الحسين. هو رجل السلام والسلامة، ولا يعرف عنه، أنه تشاجر ذات يوم مع أحد.. أو تعارك مع رجل بوليس.. أو وقف في وجه حاكم أو أمير.. أو صاحب سلطة.. إنه دائما يلبس قفازات الحرير في خطابه الإجتماعي، والسياسي.. ويتصرف (كحكومة الظل) في النظام البريطاني”.

ويقول نزار أيضا “فليعذرني عميد الرواية العربية، إذا جرحت عذريته الثقافية، وكسرت عاداته اليومية، وقلبت فنجان القهوة على الطاولة التي يجلس عليها مع أصدقائه. فالقصيدة ليس لها عادات يومية تحكمها.. أو نظام روتيني تخضع له، إنها امرأة عصبية، وشرسة.. تقول ما تريده بأظافرها.. وأسنانها.. القصيدة ذئب متحفز ليلاً ونهاراً، ومواجهة بالسلاح الأبيض مع كل اللصوص.. والمرتزقة.. وقراصنة السياسة.. وتجار الهيكل”.

ويضيف الشاعر قائلا “هذا موقف الشعر مما يجري على المسرح العربي، فإذا كان الأستاذ نجيب محفوظ يرى موقفي (ضعيفا).. ويطالبني بأن أصفق لمسرحية اللامعقول التي يعرضونها علينا بقوة السلاح، وقوة الدولار، فإنني أعتذر عن هذه المهمة المستحيلة، ربما كنت في قصيدتي حاداً، وجارحاً، ومتوحش الكلمات.. وربما جرحت عذرية كاتبنا الكبير، وكسرت زجاج نفسه الشفافة، ولكن ماذا أفعل؟ إذا كان قدره أن يكون من (حزب الحمام).. وقدري أن أكون من (حزب الصقور)؟!

ماذا أفعل إذا كان أستاذنا نجيب محفوظ مصنوعا من القطيفة.. وكنت مصنوعا من النار والبارود؟! ماذا أفعل إذا كانت الرواية عنده جلسة ثقافية هادئة في (مقهى الفيشاوي). وكانت القصيدة عندي، هجمة انتحارية على القبح والإنحطاط، والظلام، والتلوث السياسي والقومي؟!”

ويقول: “ولأن الشعر يتصرف بطفولة وتلقائية، لا يمكننا أن نطلب منه أن يكون حكيما أو واعظا، أو خطيبا أو معلم مدرسة. ليس من وظيفة القصيدة أن تقترح الحلول، وتجد البدائل وتكتب الروشتات للمرضى والمعاقين.

الشعراء ليسوا جنرالات.. ولا يعطون التعليمات، ولا يعلنون الحرب، ولا يوقفونها، ولو كان مسموحا للشعراء أن يكونوا في مركز اتخاذ القرار لما امتلأ العالم بالمجازر العرقية والعنصرية، ولما حولت قنبلة هيروشيما 250 ألف ياباني في ثانية واحدة إلى بشرية تتبخر.”

ويختتم نزار قباني مقاله الطويل قائلا: “شكرا لأستاذنا الروائي الكبير نجيب محفوظ الذي قرأ قصيدتي (المهرولون) فأعجبته شعريا.. ولم تعجبه أيديولوجيا.. وموقفا، وإذا كان الخطاب الشعري قد هزَّ أعماقه، فهذا دليل على أن حساسيته الشعرية لا تزال بخير.. وقلبه الكبير لا يزال يفرح بالتماع البروق ، وسقوط الأمطار.

أما مواقفنا الأيديولوجية المتصادمة في قضية السلام، فهي بسيطة وهامشية، ولا تفسد للود قضية”.

وبالفعل لم يفسد الود الذي بين محفوظ ونزار قباني أحد المجددين في شعرنا المعاصر، وحزن حزنا شديدا على رحيله في لندن عام 1998.

ولكن يبدو أن نزار قباني لم يعرف أن صاحب “ميرامار” لم يهادن السلطة يوما، وأنه هُدد بالاعتقال أكثر من مرة، بسبب آرائه ورواياته، وأن رئيس المخابرات صلاح نصر أرسل قوة بالفعل لاعتقاله بعد موافقة عبدالحكيم عامر الذي اتصل بالرئيس جمال عبدالناصر الذي كتب نزار قصيدته ضده بعد الهزيمة، ثم عاد فرثاه بقصيدة أخرى رفعه فيها إلى رتبة الأنبياء بعد وفاته، قائلا: “قتلناك.. يا آخر الأنبياءْ.. قتلناكَ.. ليس جديداً علينا اغتيال الصحابة والأولياءْ.. فكم من رسول قتلنا.. وكم من إمام.. ذبحناه وهو يصلي صلاةَ العشاءْ.. فتاريخنا كله محنةٌ.. وأيامنا كلها كربلاء”.

عندما اتصل عبدالحكيم عامر بجمال عبدالناصر ليخبره فقط أنه أرسل قوة لاعتقال نجيب محفوظ، قال له عبدالناصر: “لأ يا عبدالحكيم.. لأ”. ورفض عبدالناصر هذا الإجراء الذي كان سببه ما كتبه محفوظ في روايته “ثرثرة فوق النيل”. كان المشير عبدالحكيم عامر يرى أن الكاتب تخطَّى كل الحدود لانتقاده الأوضاع المتعلقة بالمناخ البوليسي الذي كان سائدًا قبيل حرب 1967. فأين إيثار السلامة، وأين القفازات الحريرية والعذرية التي تحدث عنها نزار.

لقد رأى عبدالناصر أن أعمال محفوظ تنير الكثير من بقع الظلام، فتكشف السلبيات التي تجري في الخفاء قبل أن تستفحل. وقال للمشير بالحرف الواحد: “أمَّال عايزنا نعتمد على التقارير الرسمية وبس؟” ثم قال للمشير: “إحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟”.

هذا هو عبدالناصر الذي قال عنه نزار قباني:  نزلت علينا كتابا جميلاً.. ولكننا لا نجيد القراءة.. وسافرت فينا لأرض البراءة.. ولكننا ما قبلنا الرحيلا.. تركناك في شمس سيناء وحدك.. تكلم ربك في الطور وحدك.. وتعرى.. وتشقى.. وتعطش وحدك.. ونحن هنا نجلس القرفصاء.. نبيع الشعارات للأغبياء.. ونحشو عقول الجماهير تبناً.. وقشاً.. ونتركهم يعلكون الهواء”.

وقال صاحب “زقاق المدق”: في عهد الرئيس السادات رفضتُ حالة اللاسلم واللاحرب التي كانت سائدة قبل حرب 1973، ووقعتُ على العريضة الشهيرة التي وقعها الكثير من الأدباء، وبسبب هذ الموقف اتُّخذت ضدي بعض الإجراءات التي لم تُتخذ في عصر عبدالناصر، ومُنعت من الكتابة في الصحف، وحُظرت إذاعة أفلامي في التلفزيون. وكان موقفي صلبا واضحا لا يتزعزع”.

وأضاف: لا أدري إن كان نزار سمع عن الأزمات التي تعرضتُ لها بعد رواية “أولاد حارتنا” أم لا؟  ويبدو أنه أيضا لم يسمع عن آثار الجدل والنقاش حول روايات أخرى مثل “الكرنك” و”اللص والكلاب” و”الشحاذ”، وقصص مثل “أهل القمة” و”الحب فوق  هضبة الهرم”، و”الخوف” التي صدرت في بداية الستينيات وقت أن كان يكتب نزار قصائده الغزلية في المرأة، ويتحدث عن نهديها وجسدها بطريقة مثيرة، وعن أهرام الحلمات.

وأكد صاحب “الحرافيش” أنه عاش بسبب “الخوف” حالة من الرعب دامت لفترة طويلة. فقد كانت تمثل نقدًا مقصودًا للأسلوب غير الديمقراطي الذي اتبعه النظام في ذلك الوقت. ثم تعرض لمحاولة الاغتيال في 14 أكتوبر عام 1994، وأنقذته العناية الإلهية والرعاية الطبية بمستشفى الشرطة بالعجوزة.

ومنذ أن نشر محفوظ قصة “الخوف” في “الأهرام” وقد بدأ يكثر الهمس حولها، ومَن ترمز إليهم شخصياتها. وفي أكثر من مرة اعترض طريقه في الشارع بعض الضباط، وكانوا يسألونه مباشرة ماذا كنت يقصد من هذه القصة، ومن هو المقصود بالضابط المستبد بطلها، لدرجة أنه اقتنع أن تلك المقابلات في الطريق العام لم تكن من قبيل المصادفة، وإنما كانت نوعًا من التحقيق غير الرسمي.

ويوضح محفوظ: يبدو أن نزار لم يقرأ تلك القصة التي تحكي عن مجتمع يسيطر عليه الفتوات الذين يتصارعون فيما بينهم، لكن أحد الضباط يتصدى لهم ويهزمهم فيصبح هو المتحكم في كل شيء، ويترك الضابط الملابس العسكرية، ويرتدي الملابس المدنية، ويعيش بين الفتوات، ويجلس على مقاهيهم، وينتهي به الأمر أن يخطف منهم الفتاة التي كانوا يتنافسون جميعا للفوز بها.

وقد فسر الناس الضابط على أنه جمال عبدالناصر، والفتوات المتصارعين على أنهم الأحزاب القديمة، والفتاة التي يتصارعون حولها على أنها السلطة.

ولا جدال أن القصة كانت تهاجم الحكم، حين يكون ديكتاتوريا، وكان نجيب محفوظ يقول للضباط: “إنني لم أكن أقصد جمال عبدالناصر بشخصه، وإنما قصدت الضابط أبوزيد الذي اشتهر قبل الثورة، بعد أن أرسلته الدولة إلى الصعيد للحد من سيطرة الفتوات هناك”.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى