هاني درويش: يرسم خرائط القاهرة

في تقاطع مدهش، يرسم هاني درويش (1974 ــ 2013) سيرة أنثروبولوجية للقاهرة من خلال تسليط الضوء على ضواحيها ومقاهيها. لكنّ تلك السيرة تتقاطع مع صور أخرى من حياته داخل هذا المحيط. في كتابه «إني أتقادم… مسارات شخصية في أحراش القاهرة» الذي صدر أخيراً عن «الكتب خان»، يكتب درويش نصّاً مفتوحاً كجرح لا يندمل، كأن تلك الصور هاربة من مدينة تتدلى أحشاؤها يوماً بعد يوم. الكتاب الذي يجمع مقالاتٍ كتبها درويش خلال عمله الصحافي، يعدّ وثيقة مصغَّرة لبناء القاهرة الثقافي، والاجتماعي، والعمراني، والاقتصادي، بل النفسي أيضاً.

يحاول درويش رصد التحوّل الزمكاني لمدينة شاسعة كالقاهرة التي أصبحت العشوائية أحد معالمها الأساسية. لا يتعلّق الأمر بالعشوائية الثقافية فقط، بل الفوضى العمرانية أيضاً. الطريق الدائري الذي يحيط بالقاهرة الكبرى، يلتهم القاهرة والجيزة والقليوبية. الأراضي الزراعية التي كانت تشكّل الباحة الخلفية للعاصمة، أصبحت تدار عليها مشاريع التصنيع والتجارة الرثة لخدمات مدينة معصورة. مع الإزاحة الطبقية، امتد الطوب الأحمر إلى تلك المساحات الشاسعة، وأصبحت كتلة من عمالة المدينة. تدعو كتابة درويش إلى تأمل هذا التحوّل العمراني الذي بات واقعاً ملموساً في مناطق إمبابة، والمطرية، وشبرا، وبولاق. بخفة ريشة طائر، يتنقل درويش إلى مسيرة أسرته وتاريخها في أربع مراحل أساسية اختّصها دون غيرها: الأولى حيث الولادة في حي الخليفة التاريخي (حي القلعة)، والثانية في استقلال الأسرة في حي المطرية الشعبي، والثالثة بعد طرد صاحب المنزل الثاني للأسرة شمالاً في حي عزبة النخل، والأخيرة في حي الهرم البرجوازي الحديث كما يصفه. من خلال تلك الرحلة الاستقصائية، يخبرنا أن الزمن في تلك الأحياء القديمة يبقى على حاله، ويتزامن ذلك مع تفريغ تلك الأماكن من ناسها، وعدم قدرتها على استيعاب أجيال جديدة.

يقول: «من الملاحظات الأساسية ـ قبل الدخول في الحكايات ـ رسوخ الزمن وبقاؤه على حاله في الأماكن القديمة، تحديداً في الخليفة. ويتزامن ذلك مع الخواء، أي تفريغ تلك الأماكن من ناسها. مع تقلص قدرتها على الامتداد ومن ثم صعوبة احتوائها لأجيال جديدة. ففي الخليفة مثلاً، تغيّرت بحدود طفيفة أسماء الشوارع، ونتيجة وقوع شياخة الحطابة (المكان الدقيق لميلادي) في حرم منطقة أثرية، هي القلعة، ومنطقة عسكرية هي المتحف الحربي المصري، فقد مُنعت بتاتاً أعمال ترميم المنازل. بقيت للتهالك على أصحابها دون أي مخططات لتطويرها».

أما في المطرية، فالأمر لا يتجاوز بقاء عائلات الستينيات وقد عدّلت من بيئتها العمرانية المكتظة بما يسمح لها بالبقاء. الأبناء الفقراء يتوارثون مهن آبائهم، والأغنياء تركوا الحي وانزاحوا جغرافياً إلى حي مصر الجديدة ومدينة نصر. ظلَّت عزبة النخل أرض المهجرين لأسفل السلم الطبقي، من الأحياء الشعبية الستينية مثل المطرية والزاوية الحمراء والوايلي.

جاء أبناء الجيل الثاني وحولوا ريفه إلى عشوائيات جديدة، التحمت بالريف الخلفي لمحافظات الجوار. ثم يتابع أن والده وصل من قرية «كلبشو» إلى الحطّابة. جاء عام 1961 ليسكن منزلاً لعزاب القرية في «وسعاية الدرب الوسطاني»، وشاركه الغرفة ابن بلدته محمد الطيب الطالب في الكلية الحربية. يروي بعدها كيف تزوج والده من ابنة الموظف الجديد سامية محمد الصادق التي انتظمت في دبلوم خياطة، وانتقلت للعمل في أتيلييه الممثلة الشهيرة رجاء الجداوي في الستينيات. ثم يسرد زواج والديه في شقة المطرية الأولى عام 1972، تلك المنطقة التي يقول عنها: «تلخّص المطرية مفهوم الهوية المصرية الحديثة، فهي جغرافياً مبنية على نواة تخطيطية لشارع طولي موازٍ للحد الشرقي (شارع المطراوي) المتمثل في خط سكك حديد كوبري الليمون. شارع المطراوي يفصل بين الجزء البلدي منها والجزء الإفرنجي أو ما يسمّى بــ «خارجة المطرية» أو «الخارجة» اختصاراً. وبطول الشارع المذكور، تتعدد الهويات المتداخلة للحي». يحاول درويش كتابة نص مفتوح يجمع بين جماليات النثر وتفاصيل السرد في حالة أشبه بالنقد الثقافي (Cultural Criticism). عندما يتحدث عن الموسيقى، فإن شاغله ليس الألحان والجمل فقط بل بعدها الثقافي والجذري. تلك الثنائية التي جمعت بين الفنانة الراحلة وردة الجزائرية والملحن بليغ حمدي، كانت سبباً وراء إنتاج تلك الشحنات التي ارتقت بالموسيقى إلى درجة التصوّف والكمال. لقد لعبت وردة دوراً كبيراً في الحشد لأغنية السبعينيات والثمانينيات في مصر.

لا تقف كتابات درويش عند حدّ التذكر. يحاول أن يرسم صورةً بانورامية عن جسد عاصمة يتهدل يوماً بعد يوم. عندما يتحدث عن الأزياء المصرية، فإنه يربطها بسياقها المناخي والجغرافي. وإذا كان الكتاب أُنجز على فترات متباعدة، إلا أن مهارة درويش ووعيه الثقافي بحيّز المكان الذي يكتب عنه، جعلاه كتلة إبداعية متجانسة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى