كلمة في الزحام

هل صحيح أنّ الكذب هوّ الإبداع المسكوت عنه؟

أهمّ وأنفس ما يميّز الكذّاب هو الخيال – وما أدراك ما الخيال ـ وتلك ـ لعمري ـ ميزة لا تولد كلّ يوم.. (تضحكني كلمة “لعمري” أحس أنّ أغلب قائليها من الكذّابين).

أما ثاني خصال الكذّاب فهو ملكة الحديث الطريّ الرشيق الناعم وسحر الشدّ عبر التشويق والتزويق والزجّ بك عادة في الأكذوبة على الطريقة البريختيّة ومن ثمّ الإقناع بفنون الأداء وإن كان المتلقّي غير مقتنع بمتن الحكاية أصلا,أوليس المسرح هو فن الكذب بصدق ,إنّ الكذّاب إذن هو ذاك( المسرحيّ) الذي يقدّم عرضه دون ضجّة إعلاميّة أو اعتراف مؤسّساتي.

يتمتّع هذا البطل المذموم بكاريزما هائلة تجعل أعتى الشخصيات تسلّم له بكلّ حواسها وبشيء من جيوبها وتطلب حضوره كفاكهة لا غنى عنها, فلماذا يسعى إليه الناس في سرّهم ثم يلعنونه في العلن؟!

لا ينبغي أن نضع كلّ محترفي هذا الفن في سلّة واحدة فالكذّاب الذي يستخدم مواهبه لأجل الاحتيال أو الوصول إلى مآرب خاصّة و دنيئة عادة ما يكشف أمره بسرعة لأنّه يعزف على وتر واحد فينفضّ من حوله ضحاياه ويحتقرونه وإن كان بطل رواية (زوبك)لعزيز نيسن يختلف عن هذه الفئة عبر انتقامه المقصود من مجموعة الجهلة والوصوليين والأغبياء,

أمّا من يتعامل مع فنّه كهواية ويمارسه بمتعة وإمتاع ويحلّق بخياله إلى أن يلامس الإدهاش فيستحقّ لقب موهوب بجدارة بل عليه أن يفكّر في جمع شمل زملائه لتأسيس نقابة تحمي حقوقهم من الدّخيلين ,أعرف في طفولتي كذّابا كان يدفع لنا كي نستمع إليه ثمّ أدمنّا حكاياته فأردنا الإلتقاء به في غير ساعات مزاجه فرفض,عرضنا عليه نقودا فانزعج,سألت عنه بعد ما يزيد عن ثلاث عقود من الزمن فقيل لي إنه يعمل مدرّس رياضيات..!.

ينزعج الكذّاب من السّمجين الذين يقاطعونه أو يكذّبونه في المجلس ويتّهمهم بالغباء ,كيف لا وهم لا يحترمون اللّعبة التي ينصّ عليها العقد الخفيّ المبرم بين الطرفين :تصدّق كذبي لأمتع خيالك.

الشعر مثلا, كذب اكتسب شرعيته ومشروعيته بالتقادم لأنّ المشاعر الإنسانيّة أقوى وأكبر من الكلام العاديّ لذلك يحتاج الواحد إلى المبالغة على سبيل المقاربة والبحث عن معادل لغويّ لحالة فيّاضة و مبهمة,ألم تقل العرب:أعذب الشعر أكذبه.

الحمّى كذلك ,أشدّ حالات الكذب غضبا ,إنّها الشعر حين يلتقي بالشعرعند تقاطع الجسد,قال المتنبّي في مطلعها:

ملومكما يجلّ على الملام*ووقع فعاله فوق الكلام

ذراني والفلاة بلا دليل*ووجهي والهجير بلا لثام.

الكذب إذن هو إعادة إنتاج وبناء للواقع كما نشتهي ونرغب أن يكون , ثمّ من قال لنا أنّ الحقيقة هي الواقع؟فالصحيح ليس الحقيقيّ بالضرورة.

يعود الفضل في كلّ الأمجاد التي حقّققتها حضارة الإنسان إلى الخيال فالكلّ يعلم أنّ بساط الريح سبق الطائرة و رحلات( جيل فيرن) إلى باطن الأرض و(تان تان) إلى الفضاء سبقت روّاد الغوص والتحليق ,لكنّ مشكلة الكذّاب ومأساته أنّه جعل نفسه بطلا لخياله وتحدّث أمام أناس يعرفونه ففقد هيبته ولم يخاطبهم باللّغات الرسميّة والفصيحة من خلال الكتب والأفلام.

يخبّل إليّ أحيانا أنّ الفارق الوحيد بين المبدع المكرّس و الكذّاب (الحقيقي طبعا وليس الكاذب)هوّ أنّ الأوّل علّب إنتاجه وسوّقه والثاني اكتفى باستهلاكه أمام جمهور عابر وفقير الذّائقة.

ليس الأمر استهتارا بشأن المبدعين و لا انتصارا لهذا المنتصر غالبا و بكلّ أسف في مجتمعاتنا العربيّة وإنّما وقوف عند فئة تسفح خيالها وتهدره في غايات آنيّة ومتواضعة بل وضيعة في غالب الأحيان.

سمعت عن اختراع مصيدة للكذّابين : جهاز لكشف الكذب..لقد تبيّن لهم أنّ النبض وارتفاع حرارة الجسم ونبرة الصوت وملامح الوجه تتغيّر عند فعل الكذب. .أغلب الظنّ أنّ هذه العوارض يعاني منها المبدعون أيضا فهل من جهاز يفرّق بين المبدع الحقيقي والمبدع الكاذب؟.

كلمة في الزحام.. معلومة مؤكدة وقرأتها هذا الصباح …تبدأ السنة الآشورية الكلدانية ـ أي سوريا والعراق الحالية ـ بالأول من أفريل ثم جاء التقويم الغربي ليجعلها في الأول من جانفي يناير وينعت من يحتفل ببداية السنة الآشورية بالأحمق الكاذب لأسباب عنصرية حاقدة …وهكذا انخدع الشرق بالغرب مرتين وصدّقهم مرتين حين يحتفل معهم بيوم الكذب في اليوم الذي صدق فيه.

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى