افتتاحية الموقع

هل فساد السلطة والمال يُعمي الأبصار؟

ماهر عصام المملوك

السياسة، في معناها المجرد والنبيل، هي فنّ إدارة الشأن العام بروح الخدمة والمسؤولية، لا بروح التملك والسيطرة. هي الممارسة التي تنطلق من إرادة صافية لخدمة الناس جميعًا، بمختلف أعراقهم وأجناسهم وألوانهم وطوائفهم، على قاعدة المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص. في أصلها الأخلاقي، وُجدت السياسة لتكون وسيلة لتحقيق الخير العام، وضمان الأمن والاستقرار، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتكريس القيم الإنسانية العليا التي تنهض بالمجتمع وتُرقيه.

غير أنّ الواقع في كثير من دول العالم وخاصة في العالم الثالث والان وصل الأمر لدول العالم المتحضر الغربي ومع كل اسف ليكشف عن انحراف خطير في جوهر الفكرة السياسية.

فبدل أن تكون السلطة تكليفًا ومسؤولية، أصبحت في نظر البعض تشريفًا ووسيلة للثراء والنفوذ. وبدل أن تُستخدم أدوات الحكم لبناء مؤسسات الدولة وخدمة المواطنين، تحولت إلى أدوات للهيمنة الشخصية والعائلية، وإلى طريقٍ مختصر لتكديس المال، ونهب الثروات، وتوريث المناصب. وهكذا، انقلبت معادلة السياسة من “خدمة الناس” إلى “استخدام الناس”، ومن “العمل من أجل الوطن” إلى “استغلال الوطن من أجل الذات”.

لقد كانت الفكرة الأولى للسياسي الحقيقي أن يضحي براحة نفسه وبملذاته المادية في سبيل المبادئ العليا. فالزعيم الوطني لا يقيس إنجازاته بعدد العقارات أو حجم الحسابات البنكية، بل بما يتركه من أثر في حياة الناس، وما يحققه من عدالة وكرامة لوطنه. لكنّ هذا النموذج بدأ يختفي تدريجيًا مع تصاعد النفوذ المالي وتداخل المصالح الخاصة في صميم القرار السياسي. وأصبحنا أمام نمط جديد من الساسة؛ يأتون إلى السلطة لا بوصفها مسؤولية وطنية، بل بوصفها مشروعًا تجاريًا ضخمًا يدرّ الأرباح عليهم وعلى المقربين منهم.

حين يجتمع المال والسلطة في يد واحدة، يعمى البصر والبصيرة معًا. فالإغراء بالثروة والمكانة يدفع البعض إلى تبرير كل سلوك غير أخلاقي، وإلى تسويغ الفساد باسم “الضرورة السياسية” أو “مصلحة الوطن”. وتتحول القوانين إلى أدوات انتقائية تخدم أصحاب النفوذ، في حين يُترك عامة الناس في مواجهة أعباء الفقر والبطالة والتهميش. وهكذا تتجذر حالة “الدولة المزرعة”، حيث تتحول مقدرات البلاد إلى أملاك خاصة تُدار بعقلية التوريث والعائلة والمصالح، لا بعقلية الدولة والمؤسسات.

ولعلّ أخطر ما في هذا الفساد المزدوج فساد السلطة والمال أنه لا يدمّر الاقتصاد فحسب، بل يهدم الثقة العامة، ويزرع اليأس في نفوس المواطنين.

فعندما يرى الناس أن من يُفترض أن يكون قدوة في النزاهة هو أول من يخرق القانون، وأن من يرفع شعار العدالة هو أول من يظلم، تنهار منظومة القيم، ويصبح الفساد ثقافة عامة بدل أن يكون استثناءً. عندئذٍ يُصاب المجتمع بالعمى الأخلاقي؛ فلا يعود يفرّق بين الحق والباطل، بين الشريف والفاسد، بين الخدمة والاستغلال.

وقد شهد التاريخ الحديث أمثلة كثيرة على أنظمة وحكومات في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط  تحولت إلى أدوات لإثراء النخبة الحاكمة. فمن رؤساء راكموا المليارات في حساباتهم الخاصة بينما شعوبهم تعيش في فقر مدقع، إلى قادة جعلوا من أقاربهم وأصدقائهم شركاء في مشاريع الدولة ومقاوليها ومصرفييها.

هذه الظاهرة لم تقتصر على دول بعينها، بل أصبحت سمة مقلقة في مناطق واسعة من العالم الثالث، حيث يغيب القانون وتضعف المؤسسات، وتُختزل الدولة في شخص الحاكم وعائلته.

إنّ هذا النمط من الحكم يُنتج بيئة خانقة للإبداع والتنمية، ويُحبط الطاقات الشابة، ويُرسّخ ثقافة الولاء بدل الكفاءة. ففي ظل الفساد، يصبح الطريق إلى المناصب والفرص ليس بالعلم والعمل، بل بالواسطة والانتماء العائلي أو الطائفي. وحين يُختطف القرار العام لصالح مصالح ضيقة، تفقد الدولة قدرتها على الإصلاح الحقيقي، وتتحول السياسات العامة إلى مجرد شعارات تُستخدم لتجميل الواقع لا لتغييره.

وما يزيد الطين بلّة أنّ المال الفاسد حين يدخل السياسة، يُفسدها بالكامل. فالانتخابات تُشترى، والإعلام يُوجَّه، والقضاء يُطوّع، والتعليم يُهمّش، لتبقى الطبقة الحاكمة في مأمن من المحاسبة. وهنا يبلغ الفساد قمّته: حين تُستخدم أدوات الدولة نفسها لحماية المفسدين، وحين تُصبح القوانين دروعًا للمتنفذين لا سيوفًا للعدالة.

إنّ علاج هذا الداء المزمن لا يكون بالشعارات ولا بالخطب، بل بإرادة سياسية حقيقية تُعيد الاعتبار إلى مفهوم السلطة كأمانة لا كغنيمة، وكخدمة لا كامتياز. الإصلاح يبدأ من إعادة بناء منظومة القيم داخل مؤسسات الحكم، وإرساء مبدأ الشفافية والمساءلة، وتحرير الإعلام والقضاء من قبضة السلطة التنفيذية، لأنّ العدالة لا يمكن أن تزدهر في بيئة يسودها الخوف أو التملّق.

في النهاية، تبقى الحقيقة الثابتة أن المال والسلطة إذا اجتمعا دون رادع من الضمير، أعْميَا الأبصار وأفسدا الأخلاق. فالتاريخ لا يرحم من باع ضميره مقابل نفوذه، ولا يخلّد من جعل وطنه سلعة في سوق المصالح. وحده من خدم وطنه بصدق، وترك أثرًا نزيهًا في حياة الناس، هو من ينجو من لعنة التاريخ، لأنّ الشعوب مهما طال صبرها، لا تنسى من ظلمها ولا من سرق مستقبلها باسم السياسة.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى