كلمة في الزحام

وداعا آخر سدنة المسرح وقديسيه

وداعا آخر سدنة المسرح وقديسيه … لو كان بالإمكان لطرت إلى لندن أو باريس لأعزي المخرجين الشقيقين سايمون وأيرينا، بوفاة والديهما بيتر بروك، دون أن أنسى رفيقة دربه ومساعدته الوفية ماري إيلين إستيين.

أما عن زوجته الممثلة ناتاشا باري، فقد سبقته إلى السماء قبل سبع سنوات، واهتز لرحيلها كيان الرجل الذي حاول أن يفاوض فيها القدر بقوله “أعدها لمدة ثلاثين ثانية فقط”.

لا أحد يدري أو يخمّن ما يمكن أن يقوله رجل تسعيني للقدر في 30ثانية عن رفيقة “الفضاء الفارغ” الذي استبدل به الخشبة المسرحية في أهم وأحدث النظريات التي عرفها الفن الرابع في تاريخه.

ربما أراد أسطورة المسرح أن يهمس بعبارة حب غامضة في أذن المرأة التي جابت معه أصقاع العالم من أدغال أفريقيا إلى مدن الهند، وخاضت معه شتى مآسي شكسبير وملاحم المهابهاراتا الهندوسية  وحكمة ّأفستتا” الزرادشتية، وغرائب “منطق الطير” لفريد الدين العطار.

امتلأ بروك، إنسانية كان قد امتلكها من كل الجنسيات التي عملت معه شرقا وغربا، ومن مختلف الملل والنحل، حتى أنه استقر في مسرح أيل للسقوط في باريس (بوف دي نور) وهو البريطاني الذي فازت به الثقافة الفرنسية مثل مواطنه صمويل بيكت، الذي أخرج له بروك مسرحية “هابي دايز” التي لاقت  نجاحاً مبهرا في بريطانيا، جعل النقاد يقولون عنه بأنه “أفضل مخرج لا تملكه لندن”.

هذه الإنسانية التي انغمس فيها أسطورة المسرح الحديث، تعود لكونه متعدد الانتماءات ومختلط الثقافات، وغريب الأطوار فهو المولود في لندن عام 1925لأبوين يهوديين ليتوانيين مهاجرين، وأخرج ” هاملت” شكسبير بتقنية العرائس في عمر خمس سنوات.

المسرحيون، ومع الزمن، يصبحون شبيهين بالشخصيات التي تناولوها، وتقودهم الأقدار  ـ أو يقودونها ـ نحو مصائر عذبة الوجع وساحرة الدلالة كأن ينطلق بيتر بروك من جدار مسرح باريسي أيل للسقوط ليؤسس لأهم الثورات الجمالية، ويُدفن تحت خشبة فرقة شكسبير الملكية التي أخرج فيها ” الملك لير” سنة 1962.

شخصيا، كان لي شرف العمل مع هذا المعلم الكبير، ضمن ورشة عمل أقيمت في جينيف عام 1999، وتعلمت من هذا “الناي المسحور” الكثير، دون أن يتعمد تدريسه.

وعلى ذكر السحر، فإن بروك الذي يحيط نفسه بفريق عمل متعدد الأعراق، يراهن على الخلفيات الثقافية والعقائدية للممثلين كأن يمنح الشخصية الأساسية في “العاصفة” لممثل أفريقي، وذلك لأن السحر في أفريقيا واقع يومي ملموس، وعليه، فإن استحضار الشخصية الوهمية عملية بديهية لدى الممثل الأفريقي، ولا تحتاج إلى تكلف كما يفعل نظيره الغربي.

” الممثل والدور هما أشبه بيد داخل قفاز”.. هذا ما حاول بيتر بروك، الاشتغال عليه في إدارة الممثل، وهو أمر لم ولن يفهمه المشخصاتيون في العالم العربي.. ولو يعيده الزمن ل30ثانية فقط لقلت له شيئا.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى