الأرض والفضاء: لسنا وحدنا.. يا للهَول!
حياة ذكيّة خارج كوكب الأرض: المسألة لم تعُد مطروحة بصيغة “هل هي موجودة حقّاً؟”، إنّما بصيغة أخرى مختلفة: “متى سنعثر على هذه الحياة العاقلة، وكيف نتواصل معها… وما النتائج التي يُمكن أن تترتّب عن ذلك؟”… واستطراداً “كيف ومتى نصل إلى كواكب جديدة صالحة للحياة للعيش عليها؟” هذه العبارة لم تَرِد في صيغة ترويجيّة لفيلمٍ سينمائيّ من طائفة الخرافة العلميّة، بل جاءت في سياق كلامٍ جدّي طرحه كبير العلماء في وكالة الأبحاث الفضائيّة الأميركية “ناسا”، د. “طوماس زوربوخان”. لذا فلا مجال لإهمال الفكرة وتجاوزها كأنّها لم تكُن، ولاسيّما أنّها تتناغم بشكلٍ أخّاذ مع ما يعتمل أساساً في اليقين البشري المُنجذِب على الدوام إلى الإثارة والتشويق.
إلّا أنّ الحدّ الآخر للمسألة ليس ورديّاً البتّة. وبرأي عالم الفيزياء الأبرز اليوم “ستيفن هوكينغ”، فإنّ “الاهتداء إلى حياة ذكية والاتّصال بها قد يؤدّي إلى نتائج مرعبة… أعني تدمير البشرية من قبل شعوب أقوى وأذكى من البشر”.
بلغت البشرية في أيّامنا الراهنة إحدى أعلى مراتب التقدّم العلميّ منذ فجر التاريخ المُتعارَف عليه للمخلوق البشري؛ لكنّ الملاحظ أنّ الأخبار الأكثر جاذبية وإثارة ما عاد الناس يتوقّعونها من المختبرات ومراكز الأبحاث المتقدّمة، بل ينتظرونها من الفضاء الرحب، ذلك المُبهم المجهول والمُثير، المحتشد بكلّ ما تطرحه الاحتمالات المنطقية أو تُبدعه المخيّلة المُجنِّحة من غرائب وعجائب وخُرافات ومفاجآت. ففي ذلك الـ”فوق” اللّامتناهي تتعانق الأكوان وتتراصف الكواكب وكلّ ما يعرف المختصّون بعضاً يسيراً من أسراره، فضلاً عن الكثير الكثير الذي لا يعرفون عنه شيئاً أبداً بعد ممّا يزخر بعناصر الغرابة والتشويق كلّها.
الواقع أنّ هذه الباقة المُكوَّنة من الوَلَه والانجذاب والتساؤل والبحث التي تحكم رؤية الإنسان للفضاء، ليست من الأمور الجديدة ولا المُستغربَة. فمنذ طفولة الجنس الناطق الذكي، ولاسيّما بعدما انتصبت قامته (homo erectus) خلافاً للمخلوقات الحيوانية الكثيرة من حوله، ما انفكّ ينظر إلى فوق… فيُذهله ذلك القُرص الوهّاج الحارّ في النهارات، وتُحيِّره قُبّة اللّيالي المرصَّعة بالعيون الغامزة، ومعها ذلك الباسم المتراوح هلالاً حيناً، و بدراً يتمادى حيناً آخر، وهو يبثّ فضّته المُذهّبة التي تخلب العقول والقلوب، فيمضي الإنسان في التحديق مبهوراً متعجّباً متخوِّفاً مُتسائلاً، ثمّ مُبتهلاً إذ لمسته نعمة الإيمان بالخالق العظيم.
مجموعة السبعة
الحقيقة أنّه على الرّغم من كلّ التقدّم العلمي والتكنولوجي الذي حقّقته البشرية إلى اليوم، إلّا أنّ ذلك لم يُشبِع توق الإنسان المتواصل إلى مُداعَبة الألغاز التي يعتقدها كامنة في ثنايا هذا الكون الفسيح، فلا ينفكّ يرفع رأسه نحو السماء يتأمّل تلك اللّانهايات المُتراكِمة، فيكلّ النّظر ولا يشبع الناظر، وفي ظنِّه أنّ أخباراً مُذهلة وهائِلة ما تزال خفيّة عنه في تلك الأعالي التي بات يعرف أن لا بدء لها ولا انتهاء بالمقاييس الأرضية.
والواضح أنّ مشوار العلوم والإنجازات والاكتشافات في ميادين الفلك الرحبة المُعاصِرة لم يُدر ظهره لهذا النّوع من الرغبات المُتفاعِلة في اليقين البشري، بل جاء ليُداعبها ويثبّتها ويشحذها ويُعيد تغذيتها وتحفيزها.
وفي هذا السياق تتركّز الاهتمامات على إنجاز علمي شغل الأوساط المختصّة خلال الأسابيع الأخيرة، يتّصل باكتشاف مجموعة كواكب جديدة في أحد أرجاء الفضاء، شبيهة كلّ الشّبه بمجموعتنا الشمسية، وفيها ما يتماثل إلى حدّ بعيد مع كوكبنا الأرض، وهي تدور حول نجمٍ سمّاه مكتشفوه “ترابيست واحد Trappist -1″، يبعد عنّا حوالى 40 سنة ضوئية.
والأهمّ في تفصيل وقائع الاكتشاف، أنّ ثلاثة من الكواكب السبعة، تتحرّك في مداراتها على مسافة من النجم المركزي تبدو للمختصيّن مناسبة لاحتمال وجود مياه على سطحها، بالتالي احتمال أن تكون قابِلة لوجود الحياة. وقدّرت الأبحاث قطر النجم بحوالى 12 في المائة فقط من قطر شمسنا “العزيزة” ووزنه بحوالى 8 في المائة من وزنها. واستنتَج الباحثون خلف أجهزتهم أنّه ما يزال في أولى مراحل تطوّر النجوم (إذ يحرق وقوده الهيدروجيني بسرعة بطيئة جدّاً)، الأمر الذي يتيح إمكانية استمراره على حالته الرّاهنة من الإشعاع لتريليونات السنوات (شأنة شأن شمسنا).
هذا الاكتشاف الذي حَبَسَ أنفاس الفلكيّين، زاد الآمال في أنَّ البحث عن حياةٍ خارج نظامنا الشمسي قد يبدأ في وقتٍ أقرب ممّا توقّع العلماء سابقاً، ولاسيّما مع الجيل الجديد من التلسكوبات التي من المُفترَض أن تكون جاهزة للاستخدام في العقد القادِم، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية.هذه القفزة العلمية المُدهشة أعلنتها ووثَّقتها مراصد فلكيّة متقدّمة وعديدة حول العالَم، يديرها باحثون مختصّون، بعضهم في وكالة الفضاء الأميركية “ناسا”، وبينهم، وفي طليعتهم أحد كبار علماء الفلك في وكالة الفضاء الأميركية اللّبناني جورج الحلو؛ وقد شارك منذ أوائل الثمانينيّات من القرن الفائت في البعثات الفلكية كلّها التابعة لـ “ناسا” ولوكالة الفضاء الأوروبية العاملة في نطاق الأشعّة تحت الحمراء.
وسبق له أن أعرب عن الأمل بأن يوفِّر تلسكوب “جيمس ويب” الفضائي (الذي ستطلقه “ناسا” في العام 2018)، المزيد من المعلومات حول نظام Trappist-1، وأن يكون جديراً بالكشف عن البصمات الكيميائية للغلاف الجوّي لهذه الكواكب، بمعنى احتوائها (أو عدمه) على الماء والغازات الأخرى التي هي ضروريات أساسية لإجراء عملية تقويم لإمكانية الحياة على أيّ كوكب. والطريف أنّ الحلو هو صاحب المقولة واسعة الانتشار بأنّ الخطوة الأولى للعثور على حياة خارج كوكبنا، هي العثور على كوكب يُشبهنا: صغير وصخريّ، وعلى المسافة الصحيحة من نجمٍ مركزيّ يدور حوله، بحيث يستقبل ضوءاً وحرارة بالقدر الذي يسمح بوجود الماء على سطحه…
وهذا تقريباً ما جرى اكتشافه، مع إضافة مهمّة فحواها وجود تلك الكواكب في المنطقة المعتدلة القابلة للسكنى ونموّ الحياة. وفي هذا السياق يقول “توماس زوربوخين” المُدير المُشارك لوكالة المهام العلمية ضمن (ناسا) في واشنطن: “تُعدُّ إجابة سؤال “هل نحن وحدنا؟ أولويّةً علمية، ويُعدُّ إيجاد هذا العدد من الكواكب للمرّة الأولى في منطقةٍ قابلة لوجود حياة، خطوة كبيرة نحو هذا الهدف”.
ويتابع مُسترسلاً: “لو كانت هناك كائنات حيّة في هذه المجموعة لاستمتعَتُ بمنظرٍ رائع في عالَم النجم “ترابيست-1″. فمن الكوكب الخامس، الذي يُعدُّ الأصلح للسُكنى، يبدو نجم ترابيست-1 سلموني اللّون وأكبر 10 مرّات ممّا تبدو عليه الشمس في سمائنا. وتدور الكواكب الأخرى محكومةً بمداراتها فوق هذا الكوكب ومن حوله، وتبدو أكبر بحوالى مرّتَين ممّا يبدو القمر حين يُنظر إليه من كوكبنا”.
مناطق صالِحة للحياة
في تصريحٍ تفسيريّ لاحق، قال رئيس معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا “جان لو شامو Jean le Chameau” إنّ “احتمالات وجود حياة على سطح أحد أو جميع هذه الكواكب الثلاثة الواقعة في ما يسمّيه المتخصّصون المناطق الصالحة للحياة في الفضاء،هي الاحتمالات الأعلى، وهي ثلاثتها تقع من ضمن ما يُعرف بمجموعة الكواكب الخارجية (أي التي تقع خارج نظامنا الشمسي)، وتتكوّن غالباً من موادٍ صخرية كما هو حال الأرض”. وأضاف أنّ “مسافة حوالى 40 مليون سنة ضوئية (235 تريليون ميل) تقريباً، التي تفصلنا عنها، ستكون بحسب مبادئ عِلم الفلك قابلة لعبورها بالمركّبات الفضائية في المستقبل”.
أمّا المدير المُساعِد لبعثة العلوم في وكالة “ناسا” في واشنطن “توماس زوربوتشين Thomas Zurbuchen”، فقال في مؤتمر صحافي: “يُمكن لهذا الاكتشاف أن يكون جزءاً مهمّاً في حلّ لغز إيجاد بيئات صالحة للسكن وداعِمة للحياة”. ووافقه “شين كاري Sean Carey” مدير مركز “سبيتزر” للعلوم في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا التابع لوكالة “ناسا” في باسادنيا- كاليفورنيا قائلاً: “هذه هي النتيجة الأكثر إثارة التي شاهدناها خلال الـ 14 سنة من عمليّات سبيتزر”.
ربّما يكون علينا أن ننتظر حتّى مُباشَرة تشغيل تلسكوب المرصد العملاق “ماجلّان” القائِم على الأرض، وهذا لم يعد بعيداً، ما حدا بأستاذ عِلم الفلك في جامعة هارفارد “ديفيد شاربونو” إلى الإعلان بتفاؤل: “أظنّ أنّنا خَطوْنا خطوةً محورية في طريقنا لمعرفة ما إذا كانت هناك حياة في تلك الكواكب… ويعني هذا أنّنا ربّما نبدأ مهمّة البحث عن مخلوقات فضائيّة خلال عشر سنوات، وليس بعد سنواتٍ طويلة كما توقَّع الكثيرون”.
وهذا يُعيدنا إلى كتلة المخاوف التي يطرحها آينشتاين العصر، العالَم هوبكينز، حيث يُصرُّ على أنّه “لا يوجد أيّ سبب للتواصل مع كائنات ذكيّة، لأنّها بالضرورة ستكون مختلفة جذريّاً عنّا، ويُمكن أن تكون قويّة لدرجة أنّها تستطيع تدمير كوكب الأرض خلال ثوانٍ معدودة… وفي النهاية سوف يحتلّ الفضائيّون العالَم ويصبح البشر عبيداً لهم”.
تبقى الإشارة إلى أنّ المخاوف لم تُفضِ يوماً إلى إقناع العلم باحترام حدود…
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)