«الكيماوي» السوري نموذج لـ «جنيف-2» (ابراهيم حميدي)

 

ابراهيم حميدي

لم يكن القرار السوري حاضراً في الصفقة الأميركية – الروسية إزاء «الملف الكيماوي». فوجئت المعارضة بالاتفاق، كما لم تكن الحكومة السورية طرفاً حاضراً فيه. انه فصل جديد في تراخي قبضة السوريين على قرارهم.
لكن اتفاق الإطار، الذي أعلن الوزيران الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف انه تضمن تقديم الحكومة السورية قائمة بأسلحتها الكيماوية ثم قبول مفتشين في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل للتخلص من بعضها على أن يتم «التخلص من الترسانة» بشكل كامل في «منتصف العام 2014»، حاول كل طرف أن يقدمه على انه «انتصار». باستطاعة الرئيس باراك أوباما القول انه حقق نتائج «الضربة» العسكرية من دون القيام بها وإن «الديبلوماسية تنجح عندما تكون مدعمة بالمدمرات». ويستطيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القول انه استعاد دور الشريك في الحرب الباردة الجديدة وإدارة ما بعد النظام العالمي الجديد الذي تولد بعد انهيار الكتلة الشرقية، وإنه الضامن والقادر على التأثير في النظام السوري. وتستطيع الحكومة السورية أن تقول إنها أنقذت البلد من عدوان أميركي وأنها نزعت الذرائع ونجحت في «لعبة حافة الهاوية». ربما تستطيع المعارضة أن تقول إن الملف السوري وضع تحت رقابة مجلس الأمن.
تحت سطح الانتصار المعلن، هناك شعور عميق بالمرارة. مرارة أوباما الذي اكتشف أن أميركا لم تعد كل القرار الدولي ولا التفويض الداخلي بشن حرب، حيث كان على وشك خسارة تصويت في الكونغرس على تفويض بعمل عسكري بعدما قوبل برفض الرأي العام للحرب وتخلي رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون عن السير معه في الخيار العسكري. مرارة بوتين الذي كان عليه تعهد التزام الحكومة السورية بالاتفاق وقبول الحديث عن قرار في مجلس الأمن وفتح الباب لأول توافق دولي في مجلس الأمن على الموضوع السوري بعد ثلاث مرات من استخدام حق النقض (فيتو). مرارة لدى الحكومة السورية، من أنها انتقلت خلال ساعات قليلة من خطاب مناهض لـ «العدوان والأميركيين» ورافض لوجود أي حديث يتعلق بـ «الكيماوي» إلى «الترحيب» بالاتفاق. مسافة زمنية قصيرة، لم تسمح لقطار الخطاب الإعلامي بالالتفاف.
لم يكن مفاجئاً، أن يكون التعليق السوري الرسمي الأولي خجولاً من دون صدور بيان رسمي. إذ جاء أولاً على لسان وزير المصالحة الوطنية في الحكومة علي حيدر ممثل المعارضة الداخلية، حيث اعتبره «انتصاراً» لسورية. ثم إعلان وزير الإعلام عمران الزعبي لاحقاً أن الحكومة «ملتزمة كل ما يصدر عن الأمم المتحدة. نوافق على الخطة الروسية للتخلص من أسلحتنا الكيماوية. الواقع أننا باشرنا إعداد لائحتنا»، مضيفاً أن الحكومة «تنظر بجدية كبيرة إلى هذا الاتفاق». وكانت دمشق تحدثت عن «اشتراط» تخلي واشنطن عن «التهديد بالعدوان» و»وقف دعم المعارضة» لتنفيذ الاتفاق، ثم جرى الحديث عن «توازي» التنفيذ مع هذين الشرطين. وركز الخطاب الروسي – السوري على اتهام المعارضة بالمسؤولية عن «مجزرة الكيماوي»، بعد صدور تقرير المفتشين واتهام الدول الغربية للنظام.
أما المعارضة، فكانت الأكثر هامشية في هذا الاتفاق. بعض المسؤولين فيها كان يعد نفسه لـ «اليوم التالي» بعد الضربة، ودافع عنها بقوة، فإذا به يفاجئ باتفاق روسي – أميركي تضمن برنامجاً زمنياً يستمر نحو تسعة أشهر وينتهي مع ولاية الرئيس بشار الأسد. وعبّر قائد «الجيش الحر» اللواء سليم إدريس عن شعور بـ «الخيبة والخذلان» وأن يرى «الائتلاف الوطني السوري» في الاتفاق «مناورة» ترمي إلى «شراء الوقت».
وفي هذا السياق جاء ارتباك عدد من الدول الإقليمية والكبرى، التي سارعت إلى اللحاق بركب الاتفاق جدياً أو مناورة، أضيف إليه الكشف عن رسائل بين الرئيس أوباما والرئيس الإيراني حسن روحاني إزاء حل الأزمة السورية. لكن بعض الدول حاول توسيع نطاق هذا الاتفاق إلى الحيز السياسي كي يكون الاتفاق على «الكيماوي» جزءاً من عملية البحث عن الحل السياسي وعقد مؤتمر «جنيف-2» أو توسيع نطاق الاتفاق بإصدار قرار ملزم بموجب الفصل السابع الذي يتيح استخدام القوة العسكرية.
القلق الذي جمع النظام والمعارضة مصدره شعور كل منهما أن هذا الاتفاق فُرض عليه ويؤشر إلى كونه نموذجاً يحتذى لدى البحث عن الحل السياسي وعقد «جنيف-2». تسوية تفرض من فوق. بين الكبيرين الروسي والأميركي وتبارك من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وتدعم إقليمياً وتفرض على الفرقاء السوريين. منذ التوصل إلى «بيان جنيف» في منتصف 2012، أعرب مسؤولون سوريون عن «تحفظات» عليه تضمنت في الجوهر عدم قبول بدء «عملية انتقالية» مع اقتراح «عملية سياسية» تقوم بين السوريين كنتيجة لـ «الحوار الوطني». ثم أعرب مسؤولون عن قبول «عملية انتقالية»، لكن شرط «وقف وتمويل وتسليح وتدريب المجموعات الإرهابية المسلحة». في حين كانت المعارضة ترفض «أي حوار لا يتضمن إسقاط النظام بجميع أركانه ورموزه».

تسوية تاريخية

جاءت «صفقة جنيف» لتدل إلى أن الحل السياسي لن يكون مقبولاً مئة في المئة من النظام أو المعارضة، وأنه سيكون «تسوية تاريخية» تفرض على كل منهما وأنها لن تكون مقبولة مئة في المئة من اللاعبين الإقليميين. أي، أن زمن الانتصار لأي طرف انتهى.
رهان القوتين الكبريتين على أن الطرفين انهكا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بعد توازن مرن على الأرض لم يسمح لأي منهما بانتصار مدوٍ. وتفيد المعلومات بأن الجانبين الروسي والأميركي توافقا على الكثير من المبادئ الخاصة بالحل السياسي، بينها: تطبيق «جنيف-2» ما ورد في «جنيف-1» لجهة تشكيل «حكومة انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة» من طريق «قبول متبادل» من النظام والمعارضة، وأن تشرف هذه الحكومة على أجهزة الأمن والجيش، وإعادة هيكلة الجيش بما يسمح بتعاون بين «الجيش الحر» والجيش السوري، محاربة المتطرفين والجهاديين، الوحدة السياسية لسورية مع صون حق الأقليات وحق كل منها بالتعبير عن نفسه ثقافياً وسياسياً وقبول مبدأ الإدارات المحلية القريبة من الفيديرالية، والحفاظ على مؤسسات الدولة والحكومة وعدم السماح بحصول فراغ.
ويتضمن التفكير السياسي هذا أن يتم الجمع بين مسارين: مسار «الكيماوي» ومسار «جنيف-2». لذلك يعتقد كثيرون أنه لم تكن صدفة أن البرنامج الزمني لـ «الملف الكيماوي» ينتهي مع نهاية ولاية الرئيس الأسد. كما يعمل المخططون السياسيون على الجمع بين القرار الدولي الخاص بالترسانة الكيماوية والمسار السياسي لحل الأزمة وبين المفتشين المختصين بـ «الكيماوي» ونشر مراقبين دوليين والتوصل إلى وقف إطلاق نار شامل على الأراضي السورية.
في هذا السياق، اتهمت الحكومة السورية أميركا وفرنسا وبريطانيا بالسعي إلى «فرض إرادتها»، مشيرة إلى أن الأسد «سيبقى رئيساً طالما أراد الشعب السوري ذلك. ومن لا تعجبه الحقيقة عليه ألا يذهب إلى مؤتمر جنيف-2»، ذلك رداً على إعلان كيري بحضور نظيريه البريطاني وليام هيغ والفرنسي لوران فابيوس في باريس إن «الأسد فقد أي شرعية تخوله أن يحكم بلاده» وأنه يجب ألا يعتبر أن الاتفاق الأميركي- الروسي «يضفي شرعية على مساره، وأن عليه ألا يرى في ذلك تمديداً لرئاسته».
لا يجوز الاعتقاد أن الأمور سهلة وأن قطار التسوية انطلق. إذ لا يزال هناك الكثير من التحديات والأسئلة: كيف يمكن الجمع بين «الحفاظ على مؤسسات الدولة» السورية والوصول إلى «نظام ديموقراطي»؟ كيف يمكن، من وجهة نظر غربية، تكرار «سيناريو العراق» لجهة التغيير من دون تكرار هذا السيناريو لجهة الفراغ؟ وكيف يمكن «إعادة هيكلة» مؤسسات الأمن والجيش من دون أي يؤدي هذا إلى «الانهيار»؟ وكيف يمكن الجمع بين «محاسبة المسؤولين عن الجرائم» ومشاركة «مسؤولين ذوي صلاحية ومؤثرين»؟ كيف يعمل مقاتلو الجيش والمنشقين معاً بعد سنتين من المعارك؟ وكيف يمكن الفصل بين الجهاديين والمعارضة المعتدلة؟ التعاطي مع المتشددين الذين باتوا يخزنون السلاح للمعركة المقبلة؟ الجمع بين طموحات «الإمارة الإسلامية» للمتشددين و«الحكومة الموقتة» للمعارضة و»السلطة الشرعية» في دمشق؟ حدود اللامركزية والإدارات المحلية مع الحفاظ على الوحدة السياسية للبلاد ومنع التقسيم؟
خارجياً، كيف تقبل ايران بتسوية قد تضع نفوذها في المنطقة وسورية موضع تساؤل؟ وأي نفوذ إيراني مقبول من تركيا ودول الخليج؟ وطبيعة التغيير الذي تقبله موسكو من دون تعريض مصالحها للخطر؟ وكيف يمكن لأميركا أن تقبل بـ «سورية جديدة» لا تبتعد كلياً عن محور ايران – حكومة نوري المالكي – «حزب الله»؟
قال اكثر من مسؤول أن اتفاق جنيف «ليس سوى خطوة» أو أنه «بداية» العملية و«ليس النهاية». ولا يجوز بيع الوهم أو شراؤه. إذ الصورة ليست وردية. والتحديات كثيرة من قوى داخل النظام رافضة لأي تسوية وقوى في المعارضة ترى رأسها ثمناً للتسوية وأطراف إقليمية قالت إنها «لن تقبل بتغيير النظام»، اضافة إلى السجال الذي يفرضه «غموض بناء» تركه كيري ولافروف في الاتفاق، وتلك التحديات المتأتية من كون سورية «ملفاً» من قائمة طويلة من صراع الكبار في العالم والمنطقة.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى