أزمة كورونا.. هل تبدّل التوجّهات العالمية الليبرالية؟

 

بانهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي، طغت الأفكار النيوليبرالية على ما عداها من مبادئ وإيديولوجيات في النظام العالمي، وباتت الأساس في صناعة السياسات العامة للدول في العالم.

وتعبيراً عن هذا التوجّه، أصدر فوكوياما، مبكراً جداً، كتاباً بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، اعتبر فيه أن العقل البشري وصل إلى أقصى تطوره، وأن التاريخ أحادي الاتجاه وتقدمي، وسيصل إلى منتهاه مع الأفكار النيوليبرالية، وأن الديموقراطية الليبرالية ونظام السوق الاقتصادي هما الخياران الحقيقيان والوحيدان المتاحان للمجتمعات المعاصرة.

بالفعل، ومع هيمنة الولايات المتحدة على العالم، توجّه الرؤساء الأميركيون – قبل ترامب – إلى اعتبار نشر القيم الليبرالية وهيمنة آليات السوق في صلب أهداف استراتيجية الأمن القومي الأميركي.

وكنتيجة لهذا الأمر، حلّ الاقتصاد مكان الجيوبوليتيك التقليدي، وحلَّت المنافسة على الحصص في السوق العالمي مكان المنافسة للسيطرة على الأراضي والصراع للسيطرة على الموارد الطبيعية في لعبة الأمم، ولم يعد البحث عن التحالفات يقتصر على الدول أو المنظمات الدولية الحكومية، بل تعداها إلى البحث عن تحالفات مع الشركات غير الوطنية. وهكذا، صارت قوى السوق العالمية أقوى من الدول التي من المفترض بها أن تحتكر السلطة السياسية على المجتمع والاقتصاد.

أضف إلى ذلك، أنّ التكنولوجيا وتطوّر وسائل التواصل الإلكتروني كانا من الأسباب التي قوّضت أحد أهم أسباب وجود الدولة ككل، وهو “قدرتها على ردّ هجوم الآخرين”، أو قدرتها على ما أسماه آدم سميث “الدفاع عن وجودها”.

هكذا، وبعد أن كان الليبراليون التقليديون ينادون بأن يكون تدخّل الدولة في حدّه الأدنى، أي تأمين النظام العام (الدولة – البوليس)، خرجت أصوات الليبراليين الجدد لتقول بقدرة القطاع الخاصّ وفعاليّته، حتى في الأمور التي كانت سابقاً من اختصاص الدولة، وتدعو الدول أيضاً إلى التخلي عن دورها الأمني لصالح الشركات الأمنية الخاصة.

وبالفعل، حصلت تحوّلات عالمية مهمّة قلّصت سلطة الدولة، وحوّلت العديد من مهامها إلى السوق (القطاع الخاص). لم تكن الشّركات هي التي سرقت السلطة من الدول المتقدمة، فقد قامت الدول نفسها بتكليف شركات القطاع الخاص بمهام كانت سابقاً من اختصاصها، وصارت السياسات الاقتصادية والنقدية تقررها البنوك، إضافة إلى الدولة، وباتت الكهرباء والمواصلات والمياه والمستشفيات والبريد… كلها خدمات تقدمها الشركات الخاصة بدلاً من الدولة.

أما في الدول النامية، فقد كانت الوصفات الجاهزة لصندوق النقد الدولي تفرض عليها اعتماد المبدأ نفسه، أي تخلّي الدولة عن أدوارها التقليدية وخصخصة القطاعات التي تملكها.

وكانت الضربة الأولى التي تلقّاها السوق العالمي، ومعه الدول الليبرالية، هي الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008، حين انهارت الأسواق العالمية وخرجت الأصوات تطالب الدول بالتدخل لإنقاذ الشركات والبنوك، وهو ما حصل بالفعل (تدخّلت الدول الليبرالية لإنقاذ شركاتها وبنوكها، وتركت الطبقات الوسطى والفقيرة تنهار).

اليوم، وبعد تفشي أزمة الكورونا، تبيّن للدول الأوروبية أن تحويل مهامها إلى القطاع الخاص لم يؤدِ الغرض المطلوب منه، فاضطرت إسبانيا- على سبيل المثال لا الحصر – إلى تأميم المستشفيات لمواجهة الوباء. وعلى مدى سنوات، تبيّن أن القطاع الخاص في أوروبا أضعف جودة التقديمات التي تقدمها الدولة لمواطنيها ولم يطوّرها.

وعليه، كيف سيتطوّر العالم بعد انتهاء أزمة كورونا؟

عملياً، إن التطورات العالمية في مرحلة ما بعد أزمة كورونا، ستكون مرتبطة بعوامل ثلاثة: التكنولوجيا، وسياسات الدول، والأسواق المعولمة، علماً أن كلاً من هذه العوامل يؤثر في الآخرين ويتأثر بهم.

– بالنسبة إلى التكنولوجيا:

من المستبعد أن تتراجع التكنولوجيا وسرعة تطوّرها بسبب أزمة كورونا.

– على صعيد الدول:

إن الدروس المستفادة من مواجهة الأزمة ستدفع الدول إلى اتخاذ الإجراءات كافة التي ستسمح بمواجهة أزمات مماثلة في المستقبل، وسيكون ثمة ارتفاع في معدلات الشعور الوطني والقومي، والبحث عن سبل حماية الدولة وبقائها، في ظل تهديدات مستمرة متبدلة الوجوه والمظاهر.

ويمكن لبعض الدول الليبرالية القيام بدراسة لمدى جدوى الاستمرار بسياسات “الخصخصة التامّة” التي اعتمدتها، لكن الأمر ليس سهلاً.

– على صعيد السّوق:

من المؤكد أن الاقتصاد العالمي سيعاني بشدّة. ويعتقد العديد من الاقتصاديين أن العام 2020 سيكون عام الركود الاقتصادي. وعلى الرغم من ذلك، من الصعب أن تؤدي هذه الأزمة إلى تقليص عولمة الإنتاج، فالإنتاج الذي تحوّل عبر عقود من الزمن من “إنتاج مصمّم وموجّه إلى السوق المحلي” إلى إنتاج “مخصّص للأسواق العالمية”، من الصعب أن تقضي عليه أزمة وبائية مثل كورونا وسواها.

والنتيجة أن قدرة الدول – لوحدها – على تغيير حادّ وجذري في السياسات العالمية، تبدو غير ممكنة، فالتطورات في التكنولوجيا وآليات السوق ستبقى عاملاً حاسماً في المنافسة العالمية بين الدول وقدرتها على الاستمرار فيها.

أما المستبشرون بأن هذه الأزمة ستدفع الدول إلى الاشتراكية مجدداً، وأن سبحة التأميمات ستكرّ بعد الأزمة، فيبدو الأمر أكثر صعوبة مما يعتقدون.

ويبقى على الدول أن تستخلص من دروس كورونا ضرورة تأمين شبكات أمان للضعفاء غير القادرين على البقاء والحياة في اقتصاد السوق، فالدول، وإن لم تكن قادرة على احتكار السلطة والقرار في بيئة عالمية معولمة، يمكنها أن تكون أساسية كدرعٍ واقٍ من عدم الاستقرار الاقتصادي.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى