احتراق الشمعة من الطرفين
احتراق الشمعة من الطرفين
الحرب مرض الطفولة. ويجب منعها بسبب.. الاشمئزاز (اينشتاين)
أستأذن بنشر هذا المقال المكتوب في 10 حزيران 2011 وهو يوم يعنيني كثيراً: فهو يوم ميلادي، ويوم موت حافظ الأسد، ويوم صدور كتاب نثري لي، ويوم الهزيمة العربية1967 .
…………………………
“في عشرة حزيران عام ألفين، استلمت النسخ الخمسمائة من كتابي النثري” ضمير المتكلم” . وقد أضفت إلى هذا العنوان الرئيسي عنواناً فرعياً ” الغ الرأي الآخر … تحصل على الرأي الأسوأ” !
في تلك الأيام كان شيئاً جريئاً أن تتحدث عن رأي آخر وخلاف واختلاف، وتعدد، وألوان… و”كوريا” الديمقراطية وحّدت ألبستنا، وهذا يعني شكلاً من أشكال الوحدة الوطنية، يدعمه مرور الأجيال في “مخرطة” ناظمة للأحجام والقدود، من الأشبال، فالطلائع، إلى الشبيبة، فالتدريب الجامعي، فمظليات ومظليييّ الدخول إلى الكليات العلمية (طب ، هندسة، خاصة)، بقفزة واحدة من الطائرة، تعطيك أفضلية 40 علامة ( تقتل لاحقاً أربعين مريضا) .
في تلك الأيام، ليس حرية الرأي والتعبير والاختلاف ، كان همّ السوريين، بل كيف تنقذ جلدك من تهمة التعبير، وشبهة الكلام المفسّر تفسيراً مغرضاً، بتقرير جاهل ومعدوم الضمير:
” تستطيع ألا تكون مجرماً، ولكنك لا تستطيع تجنّب ألا تكون متهماً”.
في تلك الأيام، كنت على يقين أننا، إذا لم نعرف طريقنا إلى “الحرية” ، فلسوف يجد الآخرون لنا طريقاً إلى “خراب الحرية”!
وإذا لم نتوقف عن خلق “وهم التطابق” بين الدولة والشعب، بين النظام والمجتمع، بين البلد والرمز… فلسوف يحدث، في لحظة الحقيقة، خلع هذه الثنائية. ولسوف، في وقت مناسب، تحدث القطيعة ذات الطابع العنيف. ويكون” الرأي الأسوأ”، مخترع أوهام التطابق، قد حصل على النتيجة المحتومة… نحن ، للأسف في وحولها المتوحشة!
ما ينبغي أن نخشاه (الآن) هو استمرار وجود “الرأي الأسوأ” بامتناع النظام والدولة عن ” الإصغاء” . (الإصغاء وليس الاستماع) إلى آلاف الآراء الأخرى. الأمر الذي يؤشر إلى وجود ” مصلحة ما” وراء الرأي الأسوأ، وبه، وبناء عليه، وبسببه.
أيضاً! أصحاب الرأي الأسوا كان أولادهم يستبيحون كل أنواع القوانين، بنفس الطريقة السينمائية التي ترينا التدريب، المسدس، على دريئة القانون. ( ثمة من جرّب اختراق الرصاصة في رأس حي لخروف اسمه… بني آدم).
أصحاب الرأي الأسوأ رأيناهم يزمجرون في وجه منتديات للتدرب على حرية الرأي، ثم يغادرون البلد، ويصبون لعناتهم على سوريا في تلفزيون إسرائيلي، ويطالبون بقصف دمشق، إذا اقتضى الأمر، لإزالة نظام هم جزء من صناعة لباسه الموحّد، الذي لم ينفع الوحدة الوطنية! وثمة الرموز الأخرى، التي شرشحت مهنة الطب بعلامات المظليين، والتي ساعدت على “تحجيب” نصف الفتيات السورييات، و”تحجير” قلوب نصف السوريين (النصف ناقص واحد…لإنقاص الأغلبية)!!
ما الذي لم يفعله الفساد والاستبداد (في فترة الاستقرار)؟ وما الذي يفعله وسوف يفعله (في فترة الاستنفار)؟
أرجو أن تكون الحقيقة، ليس في ما نقوله، ونعلنه، ونستعمله فقط… بل في ما يغرس الوسادة بالأشواك…حيث الحقيقة مؤلمة !
لماذا لا يغير النظام نظامه وقد أدرك كم هو بحاجة إلى التغيير؟ أنا أعرف أن عشرات فاسدي الرأي لا همّ لهم ـ سوى التفكير بطرق حصولهم على لقب ” أمراء الخراب” ويعني تجّار الخراب. ويعني الموت داخل البلد، وحياتهم خارجها!
ـ ملحق ـ
أعتقد أن كل الشهور العربية، حملت في أيامها ، بمواليد من الكوارث منذ مئات السنين. فليس هناك من شهر ليس فيه أحداث كبرى ذات تأثير حاسم . خذ ، مثلاً، شهر أيار الذي ذهبت فيه فلسطين . خذ ، مثلاً ، شهر حزيران مؤرخ أكبر هزيمة عربية أمام إسرائيل.
” أما الآن… فكل الشهور تنتف ريش الطيور”
سأل جمال عبد الناصر الصحفي المعروف حسنين هيكل :
” ماذا ستفعل بكل هذه الأوراق التي تحرص على جمعها؟”
فقال له: ” ربما فكرنا، ذات يوم بعد أن ينتهي هذا كله، أن نجلس معاً لكتابة قصة هذا العصر، كما عايشناه.”
وكان رد عبد الناصر: ” سوف تفعل ذلك ، وحدك، إذا أردت. أما أنا فلا أظنني سأكون هناك عندما ينتهي ذلك كله” . ثم أضاف بهدوء غريب : ” من يعش مثل حياتي يحرق الشمعة من الطرفين !
…………….
إنني أجمع قصاصات، وأوراقاً، وملاحظات، وأسجل انطباعات عن عصرنا،وحياتنا. واكتشف، سنة وراء سنة, أهمية هذه الأوراق كأداة لمقارنة ” ما كان، بما هو كائن، وبما سيكون” وأكتشف أيضاً الجانب العبثي. فليس بوسع الكاتب ” أن يطفىء الظلام” .
لكن لدي مشكلة فكاهية: لست أنا ولا أحد، ممن أعرف هو حسنين هيكل، وليس هناك عبد الناصر!..
ما لدينا هو فضيحتنا في قدرتنا الكلية على تدمير أنفسنا!