أيقونة العنوان وشفرته في روايات نجيب محفوظ
العنوان هو أول دوال النص والبداية الحقيقية لمراحل التأويل فيه، أو هكذا يجب أن يكون، وهو أحد العناصر الرئيسية للعتبات في النص الإبداعي، وهو البعد السيموطيقي المحدد لطبيعة ظاهرة النص الواجب قراءته، وقد كان جيرار جينيت من السباقين فى تبنى قضية العتبات النصية فى كتابيه “أطراس”، و”عتبات”، حيث تبنى هذه الإشكالية وصاغها تنظيريا ضمن تنظيراته المحكمة حول مستويات السرد المختلفة.
والعتبات هى كل ما يحيط بالنص ويغلفه من عنوان وغلاف وإهداء وكلمة ناشر ومقدمة. ويعتبر العنوان هو أهم هذه العتبات فى دائرة البدايات الأولى لمحور النص وخطوطه الأساسية لارتباطه بنواحي التأويل وجوانب الدوال، وهو أيضا كما قيل عنه رأس النص ومفتاحه الأساسى ونقطة الإرسال الأولى، ومن ثم فهو يرتبط بباقى جسم النص، ويمنحه بذور النمو والتطور، وفى ذلك يقول إمبرتو إيكو “الوحدة الدلالية نص مضمر والنص توسيع لتلك الوحدة الدلالية“.(1)
ولعل السؤال الذى يطرح نفسه فى هذا السياق هو: هل يوجد تناص بين العنوان وبين الجسم الأدبى الذى يتصدره هذه العنوان؟ وهل يقرأ العنوان باقي النص، ويعرّفه، وهل: “لإقامة علاقة بين النص ونفسه، أى بين العمل الأدبى باعتباره نصا جديدا وبين صورته لدى القارئ باعتباره نصا أدبيا رسميا ومعتمدا” (2)، هل يجب التعويل على ماهية العنوان وتبئير مفرداته لتعطي المعنى المبثوث داخل النص. حيث إن العنوان بوضعيته الأولية فى صدارة النص هو الذى يمنح النص الأدبي هويته الرسمية، في حالة تطابق معناه ورؤيته الخاصة مع ما ورد داخل النص الروائي من أحداث ورؤى، وهو الذي يثير في المتلقي حفيظة الذائقة المرجوة من قراءته وتلقيه، ويثير الفضول الدائر حوله، ويمنحه جوانب محددة من التبئير الواجبة في المعنى والمضمون المراد توصيله. وهو كما عرفه لو إتش هوك بأنه “مجموعة من العلاقات اللسانية قد ترد طالع النص لتعينه وتعلن عن فحواه وترغب القراء فيه”. (3).
والعلاقة الافتراضية بين ما هو مدون على غلاف النص وبين الحكاية المدرجة داخله هى علاقة جدلية، تتحلق في كثير من الأحيان حول طبيعة النص السردي في مركزيته الموضوعية وما يدور داخلها من وقائع وأحداث وما يحتويه العنوان من معان مكثفة ومستوحاة مما يدور داخل النسيج السردي الحكائي، كما أن هناك شبه تواصل جمالي بين العنوان وبين دلالات النص خاصة إذا كان هذه الدلالات تمتح من رؤية الكاتب ونسق تفكيره ومتخيله الخاص في التعبير عن واقع خاص وبأحداث محددة، والعالم الروائي لأي من كتّاب الرواية هو العالم الذي يمنح عنوان النص في بعض الأحيان بعضا من مشروعيته في التواجد والحضور.
سيميائية العنوان
وعالم نجيب محفوظ من العوالم الروائية السحرية التي خلدت نفسها بنفسها من خلال النسق الفني المتفرد الذي انتهجه نجيب محفوظ في إبداعه الروائي، والتطور المتلاحق في بنية وصيغة الفن الروائي في عالمه، والعنونة عنده هي جزء لا يتجزأ من العملية الإبداعية الداخلية للنص، فهو يختار عناوين رواياته بعناية شديدة، ويطلقها على نصوصه برهافة وشفافية تكاد تصل حد الاحتدام، ولعل هذا الاهتمام الكبير الذي أولاه نجيب محفوظ لعناوين رواياته قد منحها في المقام الأول هذا الحضور وهذه المكانة في ساحة الرواية العربية بل والعالمية أيضا، وهو يعتبر العنوان علامة وإشارة مهمة لهذا العالم الذي شيده وأحاطه بسياج من الرؤى، وجماليات التعبير، وسلاسة التفكير، وقوة المنطق، وجودة الحبكة، وغير ذلك من التعبيرات التي أصبحت علامة على هذا العالم الروائي الثري الخصب. وحتى صارت كل أعماله الروائية وعلاماتها المميزة المتمثلة عناوينها وفي الشخوص والأحداث والأماكن، لها حضورها الخاص وتوهجها النصي في ساحة التلقي والنقد كشخصية سي السيد التي أصبحت إشارة لسطوة الرجل في المجتمع العربي، والعوامة، والزقاق، والحارة وغيرها من العلامات المميزة لهذه المسيرة الروائية التي خرجت الرواية العربية بفضلها من المحلية إلى آفاق العالمية.
وبلاغة العنوان عند نجيب محفوظ تمثل حالة من حالات الإبداع الخاص في هذا الجانب من مرسلات اللغة فهو يمثل في عتبة نصوص نجيب محفوظ جانبا مهما يعرفه المتلقي وأيضا غير المتلقي في هذا الحقل الإبداعي، ربما من كثرة تردده على ألسنة العامة وربما من رؤيته على شاشة السينما، وفي هذا المجال نجد أن بعض العناوين عند نجيب محفوظ تمثل مستويين من مستويات المفارقات مثل “بداية ونهاية”، “السمان والخريف”، “اللص والكلاب”، “حديث الصباح والمساء”، كما أن بعضها أيضا يمتح من مفردة واحدة يترك لها وحدها مسئولية تحديد الرؤية وفرض المعنى المبثوث داخل جسم النص ونسيجه ومفرداته مثل “السكرية”، و”السراب”، “والشحاذ”، و”الحرافيش”، و”الطريق”، و”ميرامار”، و”المرايا” وبعضها يجئ حاملا معه جينات تشكله من خلال بؤرة الحدث، وطبيعة الشخصية المتحركة داخل هذه النصوص، ومركزية الرؤية التي أرتآها الكاتب لحدود النص مثل روايات “القاهرة الجديدة”، “قصر الشوق”، “حضرة المحترم”، “قلب الليل”، “عصر الحب”، “التنظيم السرى”، “باقى من الزمن ساعة”، “يوم قتل الزعيم”، “أفراح القبة”، “العائش في الحقيقة”، “حكايات حارتنا”، و”حب تحت المطر”.
كما تأتي بعض العناوين وكأنها تحمل في نسيج متونها أبعادا تراثية تبدو واضحة من مفردات العنوان نفسه مثل “الحرافيش”، و”رحلة ابن فطومة”، و”ليالي ألف ليلة”، وإنتاجية الدلالة في هذه العناوين تكمن في طرحها للمعنى المكثف والذي يشبه جبل الثلج العائم، الذي لا يظهر منه سوى جزء صغير بينما باقى الركام يختفي تحت سطح الماء.
ولعل بواكير أعمال نجيب محفوظ الروائية، وهي المرحلة الفرعونية بعناوينها “عبث الأقدار”، و”رادوبيس”، و”كفاح طيبة”، كانت تمثل حالة من حالات الإبداع الخاص في هذه المرحلة المبكرة من عمر نجيب محفوظ، حتى إنه قال عندما عرض أولى رواياته الفرعونية على أستاذه سلامه موسى: “إلى أن أعطيته رواية “خوفو” قال لي: هذه رواية في مستوى يمكن أن ينشر، لكن اسم “خوفو” لم يعجبه، رغم أن له ابنا اسمه “خوفو”، واقترح علىّ أن أسميها “عبث الأقدار”، وقدر نشرها لي في كتاب وزّعه على المشتركين في المجلة الجديدة”.(4) .
ولأن نجيب محفوظ كان محتفيا دائما بالمكان، وكانت الحارة المصرية وملحقاتها في حى الجمالية بمدينة القاهرة هي المكان الأثير لديه والذي أخذ منه موضوعات رواياته لتفاعله الذاتي ولمعايشته لهذا المكان في سنين عمره المختلفة، لذا فإن المكان بشعبيته وسماته الخاصة كان حاضرا في عناوين بعض هذه الروايات وكانت نصوص المرحلة الاجتماعية تمتح من عصب هذا المكان وبؤرته شكلا وموضوعا، ففي الثلاثية – وحكايتها للنشر معروفة – بأجزائها الثلاثة “بين القصرين، قصر الشوق، السكرية”، كما نجده أيضا حاضرا في روايات “زقاق المدق”، و”خان الخليلى”، ومقهى الكرنك، ومقهى قشتمر، كذلك استخدمه في عوامة ثرثرة فوق النيل، وبنسيون “ميرامار” في الإسكندرية كل هذه الأماكن جعلها نجيب محفوظ عناوين لبعض أعماله الروائية، وأدار من خلالها رؤيته لواقع الحياة الاجتماعية والسياسية في حياة شخوصها ووقائع الأحداث الحادثة فيها، والملاحظ في رواية المكان عند نجيب محفوظ أن العتبة الأولية – وهي العنوان- دائما ما تلتحم بالوصف المحدد للمكان الواقعة فيه الأحداث، والتحام العنوان بالاستهلال من السمات التي جاءت عليها النصوص التي أخذت عنوان المكان عتبة أولى لها.
في رواية “زقاق المدق” يبدأ الكاتب استهلاله بتقديم تاريخ الزقاق وأصوله: “تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود الغابرة” (5)، وفي رواية “ميرامار” يستهل الكاتب بهذا المونولوج الصغير على لسان عامر وجدي أول شخصيات الرواية المتعددة الأصوات: “الإسكندرية أخيرا.. الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع”. ثم ما يلبث أن يستأنف وصفه لهذه العمارة التي يقبع فيها البنسيون.. “العمارة الضخمة الشاهقة تطالعك كوجه قديم، يستقر في ذاكرتك فأنت تعرفه ولكنه ينظر إلى لا شيء في لا مبالاة فلا يعرفك”. (6).
كما كانت الثلاثية بأقسامها الثلاث وعناوينها المتباينة الآخذة من عصب المكان في حي الجمالية؛ أسماؤها وأحداثها وشخوصها هي من روايات الأجيال الممتدة الحدث كما هو معروف، الزمان في كل قسم فيها له مرحلة محددة يتحلق حولها، وتدور الأحداث فيها في مراحل زمنية متفاوتة، ومن ثم فالعنوان الذي أخذ تسميته من هذا المكان يرتبط بهذه المرحلة الزمنية الدائرة في صلبها أحداث كل نص من نصوصها الثلاثة، وهي حسبما حددها الكاتب، وأبان أحداثها ووقائعها وشخوصها:
بين القصرين أكتوبر/تشرين الأول 1917 – أبريل/نيسان 1919
قصر الشوق يوليو/تموز 1924 – أغسطس/آب 1927
السكرية يناير/كانون الثاني 1935 – صيف 1944
والعنوان الرئيسي للثلاثية يكاد يكون هو “بين القصرين” حيث تبدأ منه نقطة الانطلاق الحقيقية للنص بأكمله، أما “قصر الشوق”، و”السكرية” فهما استكمال للعنوان الرئيسي، ولعل مفتتحي قصر الشوق والسكرية وبدايتهما الاستهلالية يعبّران عن تواتر للأحداث واستكمالا لها في مراحل زمنية مختلفة يظهر ذلك من قراءة بداياتهما، باعتبار أن هناك ماضيا لغويا لهما متواجد في الجزء الأول، فنص “بين القصرين” بمفتتحه الخاص هو الذي حدد من خلال الأماكن الثلاثة الرؤية العامة التي وضعها الكاتب ليحرك من خلالهما بقية الأحداث، ولعل ديمومة الحدث الحاصلة في كل قسم من أقسام الثلاثية في هذه الفترات الزمنية الثلاثة كما حددتها الدكتورة سيزا قاسم في كتابها “بناء الرواية.. دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ” يعطينا ملمحا موضوعيا للعنوان الذي أطلقه نجيب محفوظ على كل قسم من أقسام الثلاثية، فهذه الأماكن الثلاثة “بين القصرين”، “قصر الشوق”، “السكرية” علاوة على أنها أسماء أماكن محددة في حى الجمالية، فأنها في نفس الوقت تعتبر أزمنة محددة ثلاثة تتعايش وتتفاعل فيها الأحداث وتتمدد على المكان ملامح ما أراد الكاتب أن يقوله: “ويفسر هذا الاستقلال النسبي للوحدات القصصية الثلاثة عدم حرص نجيب محفوظ على تحديد فترات الزمن المنقضية بين الفصول. حيث إن كل حادثة فيها زمانها المنفصل الخاص الذي يستقل عن مسار الزمن العام للرواية.
وتمثل أقصوصة مستقلة يربط بينها وبين الأقاصيص الأخرى الشخصيات المشتركة والإطار العام للرواية” (7)، وهذا هو ما جعل الثلاثية من الأعمال التي شيدت عالم نجيب محفوظ بسحر تسميتها وخلود شخصياتها وروعة بنائها وسمو الرؤى المتحلقة حولها النصوص الثلاثة المشكلة لهذا السفر الروائى الكبير.
ولعل “عصب الموضوعية في الثلاثية هو تصميم الكاتب على تتبع أصول وجوده ومسالك تطوره، فلا يقف الكاتب عند عرض انحلال إرث الماضي ومجتمع السطوة الأبوية وانما يذهب في ذلك إلى محاولة تخطي جيله وحدود بيئة انتمائه الأصلي” (8).
وباستقراء نصية العنوان في بعض روايات نجيب محفوظ نجد أن عملية التوازي النصي بين العنوان والعمل الروائي تكمن في تداخل عنصري اللغة من العنوان إلى المتن الروائي، من خلال أي إشارة أو علامة أو أيقونة سيميائية دالة تحدد معنى العنوان داخل مضمون النص. فالعنوان في رواية “بداية ونهاية” حسب ما هو مدون وحسب ما ارتآه الكاتب حول هذا المفتتح يحمل مفارقة ثنائية في المعنى، هو يحمل في مفردتيه ثنائية الموت بنوعيه الموت الطبيعى والانتحار الذاتي، هو أيضا يحمل ثنائية الحياة ببدايتها ونهايتها، و: “وعلاقة العنوان بالنص تحقق مسألتين: الأولى، نمو النص انطلاقا من بذرة وعاها الكاتب بدقة وهو ما دعوناه بالدينامية، الثانية، دورية الحكاية حيث البداية تعكس النهاية وتؤكدها، الأولى مرآة للثانية، والثانية استمرارية للأولى”. (9)
ولعل “خان الخليلي” وهو من أحياء القاهرة المعزية العريقة، ومن الأماكن المحببة إلى نجيب محفوظ، وارتباطه به له سحره الذي لم يقاوم أبدا، لذا فقد استخدمه نجيب محفوظ كغطاء ووعاء لإحدى رواياته، وكان أطلق على عنوان الرواية تسمية “خان الخليلى” وهي من الأعمال الاجتماعية التي خلد فيها نجيب محفوظ شخصيات بعينها كان أولها شخصية أحمد عاكف الذي قال عنه محمد مندور حين تصدى لقراءة هذا النص: “البرجوازي الصغير أحمد أفندي عاكف، الذي لقيه الاستاذ نجيب محفوظ في خان الخليلي فالتقط لنا صورته الجسمية والنفسية بل والاجتماعية أيضا، وذلك لا لأنه بطل من أبطال تلك الطبقة الوسطى، التى يسمونها في أوروبا بالبرجوازية الصغيرة، بعد أن حلت البرجوازية الكبيرة ذات الثراء الواسع، الذي ترده الصناعة والتجارة، محل الارستقراطية القديمة التي كانت تقوم على الدم الأزرق أو إقطاع الأرض” (10).
تاريخ الزقاق وأصوله
كما نجد أيضا أن عنوان رواية “السمان والخريف” بما يتضمنه النص من أحداث وإشارات سيميائية رامزة تدل على معنى المعنى الذي وجهه الكاتب ناحية العنوان، فالعنوان: “فيه إشارة رامزة لمحور الأحداث ونتائجها حيال الشخصيات والوقائع والرؤى المتواجدة داخل نسيج النص، فالسمان في رحلته الموسمية يهاجر من الشمال إلى الإسكندرية ولكنه بعد رحلة شاقة يظن بعدها الوصول إلى شاطئ الأمان، تكون نهاية الرحلة أن يتهاوى ويسقط، “تتلقاه الشباك فيتهاوى صيدا سهلا” (الرواية) فهي تشبه ماضي عيسى الدباغ وحاضره، إذ بدأ جهادا طويلا ظن معه أنه سيعبر من خلاله إلى مستقبل باهر، ولكن الحاضر حمل معه نهاية محزنة لماضيه، إذ تمكن من تصيّد أخطائه فقضى على صفحة جهاده بأكملها”، (11) ولعل السمان الذي تهاوى بعد رحلته الطويلة المجهدة قد صنع هذا الخريف الحاضر والذي رمز إلى أحداث لم تكن متوقعه، ولم يحسب حساباتها في هذا النص، فمع هذا السقوط المدوي لعيسى الدباغ بدأ صعود آخر بنفس الكيفية لحسن الدباغ ابنه ومن نفس الطريق الذي سلكه عيسى (السمان) في مسيرته الحياتية الشائكة.
كما أريد بهذا العنوان أيضا أن يدل على نفس الهجرة المادية والمعنوية التي قام بها البطل بحثا عن ذلك الدفء الذاتي بعد أن غمر الصقيع كامل حياته بغتة، فضلا عما يوحى به الخريف من عرى للأشجار واصفرار لأوراقها وذبول لملامحها، إنها صورة جاءت في بؤرة هذه العتبة المتميزة لتؤكد ذلك التداعي الذي حل ببطل الرواية كما تتهاوى أسراب السما “إلى مصير محتوم عقب رحلة شاقة مليئة بالبطولة الخيالية” على حد تعبير الكاتب نفسه”.
وفي رواية “الشحاذ” يختار الكاتب هذا العنوان كدلالة عن المفردة المعبرة: “عن تسّول الحقيقة، بعد افتقار النفس والاحساس بالخواء حيث فرغت من جوهرها الأصيل. إذ بدأ “عمر الحمزاوى شاعرا حالما، ثم صار ثائرا متطرفا، ثم انقلب إلى برجوازي راكد” (12) . والعنوان في رواية “الشحاذ” هو مفردة تعبر عن زخم العلاقة الناشئة بين الذات وبين مستويات الحكي النابعة من وقائع ما حدث داخل النص: “فعمر الحمزاوي في أصوله وتكوينه ومراحل تطوره وحالته الراهنة بما فيها من قلق وتدهور وفقدان للمعنى وتخبطه وأيضا مصيره القادم، كما يتصوره الكاتب، في هذا كله يقدم لنا التجسيد الرامز للطبقة البرجوازية في مصر. وهذا الالتصاق يتضح من الخلفية التاريخية الخاصة لعمر والخلفية التاريخية لهذه الطبقة”. (13) لذا جاء العنوان متطابقا من مقتضى الحال داخل النص، ومثل في عتبته الأولى مرحلة مهمة من مراحل التأصيل في البناء الفني للنص.
كما جاء عنوان رواية “اللص والكلاب” بمثابة نقض لرواية “أولاد حارتنا” التي صودرت قبل صدور اللص والكلاب مباشرة، ولم يسمح بنشرها في مصر بعد أن نُشرت بجريدة الأهرام في بعض أعداد سبتمبر 1959. العنوان مباشر ودال على ما حوته الرواية من أحداث، ومفردتاه تشيران إلى مجازات تطول الشخوص المتحلق حولها النص بأحداثه وتأويلاته المختلفة، وقد وضع الكاتب مفردة اللص في مواجهة مفردة الكلاب كإشارة لهذه المواجهة الصدامية التي حدثت داخل النص بأحداثها المعروفة، اللص هو سعيد مهران البطل المأزوم، الذي سرق لأول مرة لكى يمرّض أمه في وقت تنكر له الجميع، وصور له صديقه ومعلمه ومثله الأعلى رؤوف صفوان شرعية هذه السرقة، والكلاب هم الخونة الذين تداخلت حياتهم مع حياة سعيد مهران زوجته نبوية صبيه عليش بما فيهم رؤوف علوان نفسه، إن هذه المقابلة التى وضعت سعيد مهران في مواجهة بعض شخصيات النص، وفي موقف العداء لهم، يمليه العنوان من خلال المعنى الصادر عن كل مفردة، فاللص بمعناه المطلق المعروف له دلالة إيحائية عن شخصية لها أبعاد أخلاقية وسمات خاصة، والكلاب هو معنى مجازي حين أضيف إليه مفردة اللص فأصبحت المواجهة والصدام قائما لا محالة بين اللص والكلاب في هذه الساحة الأخلاقية من النص.
وفي رواية “ثرثرة فوق النيل” يواصل نجيب محفوظ استكمال إشكالية أزمة المثقف الفرد تجاه واقعه والواقع العام المحيط بدءا من “اللص والكلاب” ومراحل النمو والتواصل لهذه الأزمة وتلك الإشكالية عبر روايات “السمان والخريف”، و”الشحاذ”، و”ثرثرة فوق النيل” إلى أن تنتهى بعد ذلك فى “ميرامار” وقد ظهرت هذه الإشكالية من خلال زوايا مختلفة وعروض متباينة في هذه النصوص. ولا شك أن تباين العنوان ودوره في تبئير الرؤية التي أوضحها الكاتب في كل من هذه النصوص قد استمد خطوطه من ذات بؤرة الرؤية التي وضعها نجيب محفوظ في عرضه لملامح الشخصيات والأحداث والرؤى في كل نص من هذه النصوص وعلائقها المتحلقة حول طريقة رسمها وتشكلها والأزمة الحقيقية التي وجدت نفسها إزاءها، وكانت مفردات العنوان في كل نص تعبّر تماما عما يريد الكاتب توصيله إلى المتلقي، إلا أنه في سيموطيقا العنوان في رواية “ثرثرة فوق النيل” تذهب الرؤية إلى أبعد من هذه الثرثرة التي دارت في العوامة، حيث انتهت هذه الثرثرة بقدرية الفلاح الذي قتل وذهب ضحية “ثرثرة المثقفين” كإشكالية جديدة طرحها نجيب محفوظ ضمن طرحه لقضايا واقع المثقفين: “فهل كان هذا الرجل البسيط يتصور أن يقتل بفعل طائش لأناس لم يراهم ولم يروه”. وينقل لنا الكاتب تيار شعور أنيس زكى المجسد لفلسفة القدر وغموضها: “فهو يغمض عينيه ولكنه يرى الشيخ الأسود وهو يطير في الهواء. ترى أما زال يتألم؟ ألم يعرف لماذا وكيف قتل؟ أو لماذا وجد؟ أم انتهى إلى الأبد؟..” (14).
وقد تحدث عن هذه القدرية العديد من النقاد إلا أن هناك تساؤلا يطرح نفسه إزاء هذا الموقف، هل ترميز الواقع فى هذه الثرثرة التي كانت تدور فوق النيل، والتي أدت بطبيعة الحال إلى نشوء هذه القدرية التي أودت بحياة أحد الفلاحين وكأنها الأزمة الحقيقة للواقع الذي كان آنئذ. والذي أدى بطبيعة الحال أيضا إلى قدرية عامة طالت الناس في كل مكان وفى كل مقدراتهم الخاصة والعامة.
أما في رواية “أولاد حارتنا” فيكمن العنوان في إطار تلك النزعة الفلسفية التي أراد نجيب محفوظ أن يبدع بها جانبا موازيا لمدارك الحياة على إطلاقها في صورتها التي جاءت عليها في هذا السفر الضخم ومحاولة وضع قضية البشرية وعلاقتها بكينونة الحياة في إطارها الرمزي مستخدما في ذلك شخصيات واقعية موحية بالدلالة والتأويل.. وهذا النص الروائي المميز عند نجيب محفوظ قد طاله الجدل والدراسات والبحوث على كافة الأصعدة: “ومع أن أكثر الباحثين انصرف لدراسة القسم الأخير الذي انفرد به عرفه، فإن “أولاد حارتنا” كل منسجم بعضه مع البعض الأخر، ويقوم بتركيبها بناء متماسك لا يمكن النظر إلى جانب دون الآخر فحينئذ تختلف الرؤية التي يمكن تكوينها عن هذا العمل المتميّز والذي هو حلقة من حلقات استعراض تاريخ البشر لطرح رؤية خاصة يتبناها المؤلف وتنال اهتمامه. ومن ثم فإنها تمتد في جذورها تجاه الأعمال السابقة، ونجد صداها في الأعمال التالية” (15) من هنا جاء الاحتفاء بهذا العنوان اللافت المكّون من مفردتين تؤصل واقعية المشهد من الناحية الموضوعية بينما الترميز والاستيهام يقبعان داخل جسم النص وإيقاعاته المتواترة حول الرؤية التي أرادها الكاتب، ولعل عنوان النص يمتح من الحارة الشعبية، ولكنه ينسحب في رؤيته إلى الوجود على اطلاقه: “فبعض العناوين الأدبية تتكون من كلمة تنطوى على افتقار ذاتي إلى ما يخصصها، إن وصفا وإن إضافة. مثل هذه العناوين تلعب أعمالها الأدبية عمل الصفة أو المضاف إليه، فيصبح للعنوان – والحال هذه – موقعان سيميوطيقيان: موقع تؤسسه نصيته المستقلة كعنوان، وآخر يؤسسه عمله المعنون به، إذ يخصصه أو يفسره في كل لحظة من لحظاته” (16).
وهذا الرأى يعضده تبني العنوان لمجريات النص الروائي، ومن ثم يحق اعتبار العنوان في النص المميز له عن بقية النصوص المتواجدة بجانبه، ينسحب هذا الرأى على عالم نجيب محفوظ بعناوينه المتباينة والمحققة لمعنى المعنى في زخم هذا العالم الروائي، حيث حقق العنوان في هذا العالم رؤية طالت كل نص على حدة وحددت من خلال ذلك معايير منحت كل نص أبعادا الخاصة. “ولعل الافتتاحية التي يستهل بها محفوظ روايته، حيث نصادف بشخصية غريبة على عالمه الواقعي، شخصية “كاتب” جمع “حكايات الحارة” التى يرويها الرواة وسجلها كتابه، شخصية تشبه أنصاف المثقفين الذين جمعوا الأدب الشفاهى الشعبي على مر القرون، إذن الرواية تقدم نفسها بوصفها مجموعة روايات (17) من هنا أيضا نجد أن الحارة وما تحويه من حكايات رويت على ألسنة أولادها وساكنيها هى التى أوحت إلى الكاتب بهذا العنوان، الذى ترجم بعد ذلك حين ترجمت الرواية إلى الإنجليزية إلى “أولاد الجبلاوى” نسبة إلى الشخصية الرئيسة في الرواية، وهي شخصية الجبلاوي ساكن الحارة.
وفي “ملحمة الحرافيش” يبدو هذا العنوان الغريب متوافقا مع سحر الموضوع وقدرة القص على إعادة خلق العالم وتشكيله في مخيلة القارئ، وتعتبر الرواية من أهم الأعمال الروائية التي صدرت في عقد السبعينيات من القرن الماضى كرؤية خالصة لإشكالية العدل الاجتماعي، والرواية تستخدم بواطن القص في “ألف ليلة وليلة” حيث تتوالد وتتناسل حكاياتها من الأخرى، وحيث البنية الروائية تمتح من أسطورة الفتوات في عصرهم الذهبى، الجدود والأحفاد، ولا شك أن تشعب الرواية من الناحية الفنية والبنائية قد جعل عنوانها متطابقا في مفردة واحدة سبقتها مفردة “ملحمة” في محاولة لتصنيف هذا السفر الروائي الرائع الذي بدأه نجيب محفوظ بحكاية عاشور الناجي ضمن الملاحم الشعبية، مستهلا حكايته بهذا العبارة الموحية ذات الدلالة والتي تمهد لظهور ملامح وظلال الحرافيش إلى النور: “في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاني والمسرات الموعودة لحارتنا” (18)، كان هذا الاستهلال الشعري في البنية الأولى لنص الحرافيش هو بمثابة ميثاق ضمني لمسيرة البداية الواردة بعد العنوان مباشرة والتي انتهت بحكاية التوت والنبوت وهي الحكاية العاشرة والأخيرة التي اختتم بها الكاتب ملحمته الرائعة بهذه الومضات المكثفة من القص الشعبي المتواتر في تشكله والمتضمن قضايا وإشكاليات الموت والعدل والحرية من خلال الجدود والأحفاد في أسرة عاشور الناجى المليئة بحرافيش آخر الزمان.
أحداث ورؤى
كما نجد أيضا في رواية “رحلة ابن فطومة” وهي من الأعمال التي تمثل في مسيرة نجيب محفوظ حالة خاصة من حالات استلهام تراث الرحلات خاصة ما نجده عند ابن جبير ورحلة ابن بطوطة، ولعل نجيب محفوظ قد استقى عنوان هذه الرواية من سلفه الطنجي ابن بطوطة، فهناك شبه تناص بين الرحلتين، “رحلة ابن بطوطة”، و”رحلة ابن فطومة”، ولعل الإشارة الدلالية المتواجدة في عنوان نص نجيب محفوظ يحيلنا إلى استرجاع رحلات ابن بطوطة حيث نجد ثمة تشابه بينهما في الشكل التراثي، وفي الرؤية النصية التي عوّل عليها كل منهما استنباط سرد يستهدف المكان والشخوص وتلاحم الاثنين في سيرة واحدة تمتح من الواقع والطبيعة والوصف سردا له مذاقه الخاص في التلقي والتأويل.
وإذا أخذنا رواية “حضرة المحترم” كمثال لرؤية نجيب محفوظ في عناوين بعض الروايات التي احتفى فيها بعنصر الشخصية وتعددها مثل “حضرة المحترم”، و”أفراح القبة”، و”عصر الحب” نجد أن هذه الرواية يثير العنوان فيها نوعا من التلاقى بين مفردتيه الأثيرتين وبين الشخصية المنوط بها هذا الوصف وهي شخصية “عثمان بيومي” الشخصية المحورية في الرواية والذي دخل الوظيفة شابا فقيرا معدما يتيما لا يحمل من الشهادات سوى الثانوية، وعلاقته بشخص المدير تبدو وكأنها علاقة مقدسة فهو ينظر إليه بخشوع ورهبة واضطراب، كانت هذه نظرته إلى مقام المدير العام المحترم جدا والذى يمثل بالنسبة له المثل الأعلى في الحياة، وتنتهي حياة عثمان بيومي وهو على فراش الموت، وقد أصبح مديرا عاما للمصلحة التي يعمل بها، بين هذين الزمنين، تجرى الأفعال وردودها في كافة الاتجاهات الوظيفية والعاطفية، وتغلب على عنصر الفعل عامل الإرادة والتصميم، هو ينظر إلى الأمور نظرة ذاتية تحكمها المصلحة والمنفعة ورواية حضرة المحترم هي رواية الشخصية لذا كان العنوان بسحره الخاص وقيمته المعنوية قد منح عثمان بيومي هذا صفة حضرة المحترم.
من هذا العرض للعنوان في عالم نجيب محفوظ نجد أن طبيعة العنوان في هذه النصوص يكتسب نفسه كوحدة اتصالية مائزة تشكل وجودا لظاهرة هذا الكاتب المائز في الرواية العربية والعالمية، وبرغم الصلة الرابطة بين العنوان والنص في عالمه الروائي فأننا نجد أن سحر الكلمة في عناوين نجيب محفوظ وجماليات هذه العناوين قد صنعت لنفسها أبعادا خاصة ميزت هذه المسيرة الروائية عن غيرها بهذا التميز الذي طال النص المحفوظي، وهذه الذائقة التي تغيرت عند المتلقي في كل أنحاء الوطن العربي حين قرأ هذه الروايات وعرف نصوصها من خلال العنوان أولا ثم من خلال المتن في المرحلة الأخيرة للقراءة.
الإحالات
01 U. Eco. Lector in fibula. Grasset 1985 p.32
02 العنوان وسيموطيقا الاتصال الأدبى، د. محمد فكري الجزار، دراسات أدبية.. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998 ص 137.
03 براعة الاستهلال في صناعة العنوان، الموقف الأدبى، دمشق، ع 313، مايو 1997.
04 “نجيب محفوظ والرواية التاريخية: د. صلاح فضل”، الرواية والتاريخ، مجموعة باحثين، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والتراث، قطر، 2006 ص 189.
05 زقاق المدق (رواية) ، مكتبة مصر، د. ت ص 5.
06 ميرامار (رواية)، مكتبة مصر، د.ت ص 7.
07 بناء الرواية.. دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ، د. سيزا أحمد قاسم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984 ص 68.
08 قصة الأجيال بين توماس مان ونجيب محفوظ د. ناجى نجيب، نجيب محفوظ نوبل 1988، كتاب تذكارى، وزارة الثقافة، القاهرة، 1988 ص 173.
09 بداية ونهاية.. قراءة وتحليل، سعيد الحنصالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1995 ص .19
10 “البرجوازي الصغير”، محمد مندور، عبقرية المجهود.. مندور ناقدا للقصة والرواية، يوسف القعيد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005 ص 377.
11 الرمزية في أدب نجيب محفوظ، فاطمة الزهراء محمد سعيد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981 ص 179.
12 الرمزية في أدب نجيب محفوظ ص 204، والفقرة بين القوسين نقلا عن قراءة الرواية للدكتور محمود الربيعى ص77.
13 الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ، د. سليمان الشطى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2004 ص 252.
14 ثرثرة فوق النيل (رواية)، مكتبة مصر، القاهرة، د . ت ص 162.
15 الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ، د.سليمان الشطى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2004 ص 186.
16 العنوان وسميوطيقا الاتصال الأدبي، ص 125.
17 الكاتب السلطة والتاريخ.. قراءة في أولاد حارتنا، د. ريشار جاكمون، أخبار الأدب، القاهرة، ع 511، 27 أبريل 2003.
18 ملحمة الحرافيش (رواية)، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت ص 7.
ميدل إيست أونلاين