إردوغان والسيسي.. صراع الدور والموقع والقنوات المائية

 

بدأت علاقات الأتراك مع مصر بعد انتصار السلطان العثماني سليم ذو الأصل التركي على المماليك في معركة الريدانية في 22 كانون الثاني/يناير 1517 فدخل القاهرة وعاد منها إلى اسطنبول خليفة للمسلمين.

من دون العودة إلى التاريخ القديم، شهدت العلاقات التركية- المصرية بعد ذلك التاريخ العديد من مراحل المدّ والجَزْر التي انتهت بموقفٍ عدائي تركي تجاه المدّ القومي العربي بعد ثورة 23 تموز/ يونيو 1953.

سبق ذلك انضمام تركيا إلى الحلف الأطلسي في 28 شباط/فبراير 1952، تبعها انضمامها إلى حلف بغداد عام 1955 حيث كان عدنان مندريس الذي حكم تركيا للفترة 1950-1960 حليفاً استراتيجياً لأميركا والغرب و”إسرائيل” ضد التيار القومي الناصري في مصر وسوريا التي حشدت تركيا صيف 1957 على حدودها قوات كبيرة وزرعت على طول هذه الحدود مليون لغم أرضي.

ومن دون أن نتجاهل “المنافسة” المُثيرة بين النهج العِلماني للجمهورية التركية التي تأسَّست عام 1923 والفكر الإسلامي المُتمثّل في حركة الإخوان المسلمين التي تأسَّست بعد 5 سنوات من ولادة جمهورية أتاتورك الذي أراد الغرب لنهجه المُعادي للاستعمار أن يصبح هدفاً مباشراً لحركة الإخوان وكافة التيارات الإسلامية.

هذه التيارات كانت وما زالت السلاح الأقوى في جميع مشاريع ومُخطّطات الغرب الخاصة بالعالَمين العربي والإسلامي حتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي أعلنه الإسلاميون عدواً لدوداً لهم.

وجاء استلام “العدالة والتنمية” للسلطة في تشرين الثاني/نوفمبر   2002 مناسبة ليدفع الغرب إلى الاستعجال في وضع وتطبيق خطط جديدة ومنها مشروع “الشرق الأوسط الكبير” ومن بعده “الربيع العربي”.

المشروع الأخير سعى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عبره إلى تحقيق أحلامه في إحياء ذكريات السلطنة والخلافة العثمانية التي انطلقت من القاهرة عام 1517، كما انطلق الشعور الإسلامي الجديد من القاهرة بعد أن استلم الإخوان المسلمين السلطة في حزيران/يونيو 2012.

عدّ إردوغان هذا الانتصار فرصة تاريخية لإحياء ذكريات السلطان سليم فسمّى الجسر المُعلّق الثالث في اسطنبول باسمه في 29 أيار/مايو 2013، التاريخ الذي يصادف الذكرى 560 لدخول محمّد الفاتح اسطنبول.

ولم تدم فرحة إردوغان طويلاً فقد أطاح العسكر بالرئيس محمد مرسي فأراد أن يعوِّض خسارته الفادِحة هناك بدخول الجيش التركي إلى جرابلس السورية في 24 آب/أغسطس 2016، أي في الذكرى الـ 500 لمعركة مرج دابق التي دخل بعدها السلطان سليم سوريا فصلّى في الجامع الأموي.

وجاء دعم السعودية ومعها الإمارات للرئيس السيسي وإعلان الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً ليضع التنافُس التركي- المصري أمام تحديات جديدة بعد أن احتضنت تركيا قيادات ومسؤولي وكوادر الإخوان السياسية والإعلامية والمالية في اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية.

وكان آل سعود قد تمرّدوا على هذه الخلافة منذ عام 1880 كما عادوا كل مَن يُعادي أميركا بعد اللقاء التاريخي بين فرانكلين روزفلت وعبد العزيز آل سعود في 14 شباط/فبراير 1945.

أصبحت السعودية بأموالها ومذهبها الوهّابي الراعي الأساس لكل حركات الإسلام السياسي المعتدل كالإخوان، والمتطرّف المسلّح كالقاعدة وطالبان، وبعد ذلك داعش والنصرة وأمثالها.

انتقل العداء والتنافُس التركي- المصري بعد انقلاب السيسي إلى ساحاتٍ عربيةٍ وغير عربية. قدَّمت تركيا ومعها قطر كافة أنواع الدعم للمجموعات الإخوانية في ليبيا، فيما أيّدت مصر ومعها السعودية والإمارات الجنرال خليفة حفتر الذي يُقاتل هذه المجموعات. بالمقابل لم  تتأخّر القاهرة في التنسيق والتعاون مع اليونان وقبرص عدوتي تركيا في ما يتعلّق بموضوع الغاز شرق البحر الأبيض المتوسّط، واكتسب هذا التعاون لاحقاً طابعاً سياسياً وعسكرياً يستهدف أنقرة بشكلٍ غير مباشر.

ومع امتداد ساحات التنافُس والعداء بين القاهرة وأنقرة لتشمل المنطقة العربية وإفريقيا وأميركا وأوروبا، باعتبار أن مصر ترى في نفسها زعيمة للعالم العربي ودولة مهمة إسلامياً وإفريقياً، رأى إردوغان في نفسه زعيماً إسلامياً وتصرّف كوريث للإمبراطورية العثمانية التي حكمت الجغرافيا العربية أكثر  من 400 عام، وكانت مصر ضمن هذه الجغرافيا بالإضافة إلى الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي في آسيا الوسطى والقوقاز وأخرى ذات حكم ذاتي داخل حدود روسيا الحالية.

لم يبق هذا العداء والتنافُس بين الطرفين في إطار الدول بل تحوَّل إلى مُنافسة شخصية بين إردوغان والسيسي، وكل منهما يريد أن يقول لشعبه والعالم  أجمع أنه زعيم تاريخي بإنجازاته العظيمة.

في 27 نيسان/أبريل 2011 تطرّق إردوغان لأول مرة إلى ما أسماه بـ”قناة اسطنبول” وأعلن أنها ستربط البحر الأسود ببحر مرمرة، وستكون موازية لمضيق البوسفور الذي تمرّ عبره اليوم حوالى 45 ألف سفينة سنوياً، فيما كان يقتصر هذا العدد على نحو ألفي سفينة عندما تمّ التوقيع على اتفاقية مونترو التي اعترفت لجميع السفن الأجنبية بحرية المرور المُطلَق من المضيق، وهو الممر الوحيد للسفن الحربية الروسية إلى مياه الأبيض المتوسّط.

وعلى رغم مرور ثماني سنوات على إعلان إردوغان عن هذا المشروع، إلا أن الحظ لم يحالفه في تنفيذه، وهو بطول 42،5 كم ويقع حوالى 30 كم منه غرب مضيق البوسفور.

قبل أيام عاد إردوغان وتحدَّث عن المشروع، فيما قال رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو إنه سيعرقله كونه يشكِّل خطراً كبيراً بسبب مروره من منطقة الغابات التي تغذّي اسطنبول بالأوكسيجين والمياه الجوفية.

وعبَّر خبراء الجيولوجيا عن قلقهم من احتمالات أن تؤثّر عمليات الحفر على حركة الزلازل التي تهدِّد المدينة أساساً، فيما استبعد الخبراء الاقتصاديون أن تحقّق القناة الجديدة دخلاً إضافياً للدولة التركية، لأن عدد ناقلات النفط والغاز التي تمر من البوسفور بدأ يتراجع تحت تأثير أنابيب الطاقة التي تمّ مدّها من روسيا وأذربيجان إلى تركيا ومنها إلى أوروبا.

وبمعزل عن مستقبل النقاش الدائر بين إردوغان ومعارضيه، فقد بادر عدو إردوغان اللدود عبدالفتاح السيسي إلى حفر قناة جديدة بجانب قناة السويس الحالية وتمّ افتتاحها في آب/أغسطس 2015 وهي بطول 37 كم بتكلفة 8 مليارات دولار، مقارنة بـ 10 مليارات دولار كلفة قناة اسطنبول.

ومن المتوقّع أن تصل إيرادات القناة المصرية السنوية إلى نحو 14 مليار دولار عام 2023 مقابل حوالى 5 مليارات دولار عام 2015. وستوفّر التفريعة الجديدة من قناة السويس أكثر من مليون فرصة عمل لأنها تتضمّن 42 مشروعاً تنموياً، منها على سبيل المثال بناء خمسة أنفاق أسفل قناة السويس ستكون مخصصة للسيارات والقطارات، عدا عن بناء مجمّعات سكنية وصناعية وزراعية ومطارات وموانئ ومحطّات للطاقة.

ويخطّط إردوغان لتنفيذ مشاريع مُماثلة على ضفتيّ القناة الجديدة، قيل إن السلطان سليمان القانوني كان يفكّر فيها عام 1550، فيما بدأ التشييد الأول لقناة السويس بين دلتا النيل والبحر الأحمر خلال القرن 13 الميلادي لكنه لم يستمر لأسباب عديدة.

وفي كل الأحوال وأي تكن ساحات التنافس بين القاهرة وأنقرة أو بين إردوغان وعدوه السيسي، فقد بات واضحاً أن القاسم المشترك بينهما هو رغبتهما في البقاء بالسلطة لأطول فترة ممكنة، بعد أن تمكنا من السيطرة على جميع مؤسّسات ومرافق الدولة كالجيش والأمن والمخابرات والقضاء، والأهم الإعلام، الذي يصوّر زعيمه ليس فقط كقائد عظيم بل زعيماً تاريخياً، أحدهما وريث الفراعنة والآخر وريث العثمانيين الأوائل والجُدُد.

وشكّلت الجغرافيا حليفاً طبيعياً لمصالح إردوغان فهو يسيطر على مضيقيّ البوسفور والدردنيل، فيما أراد أسلاف السيسي أن ينافسوا أسلاف غريمه، لذا عمدوا إلى حفر قناة السويس الأولى عام 1869 ليقولوا للجميع إن مصر لا تقلّ أهمية عن تركيا. الأخيرة تربط بين البحر الأسود وبحر مرمرة، فيما باتت الأولى تربط بين البحر المتوسط والبحر الأحمر.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى