إعادة الهيكلة: لماذا لا يتغير أي شيء؟ (ميشيل كيلو)

ميشيل كيلو

 

لم يقلع «المجلس الوطني السوري» طيلة عام من وجوده عن إعطاء الوعد تلو الوعد بإجراء عملية إعادة هيكلة تطاول بنيته وتركيبته، وتجعله مؤهلا للتعبير عن قطاعات واسعة من المعارضة والرأي العام السوري، واكثر تمثيلا للسوريين، دون ان يفي بوعده او يفعل شيئا يستحق الذكر في هذه الاتجاه.
وقد عبرت وعود إعادة الهيكلة عن وعي المجلس بأنه لا يمثل الثورة والشعب، ويدرك انه لم يعد مقبولا لدى قطاعات واسعة من مواطني سوريا، وأن من ظلوا خارجه ليسوا نكرات لا شأن لهم، كما قال ناطقون باسمه مرات كثيرة خلال أشهر الإقصاء والمكابرة الاولى، التي انخرط بعض قادة المجلس فيها، وجعلتهم يزعمون ان المجلس يمثل 85 % من اجمالي المعارضة السورية في كل مكان، لذلك لا يستقيم العمل الوطني بغيابهم، ولا يستطيع المجلس القفز عن وجودهم وأدوارهم، بل انه يفقد دون دخولهم اليه جزءا من طابعه التمثيلي وفاعليته، ويصير عمليا ناقص حضور ورمزية.
لكن إعادة الهيكلة لم تتم لأسباب كثيرة منها أن من وصلوا إلى رئاسة المجلس يدينون بمواقعهم لظروف لا علاقة لها اطلاقا بتوازنات القوى داخل الساحة السورية، ويعلمون أنه لن يكون لهم شأن داخلي يذكر في حال خرجوا أو أخرجوا من مواقعهم فيه، وأن إحضارهم اليه كان فرصتهم الوحيدة للدخول الى الحراك والثورة وللسيطرة شيئا فشيئا عليهما، فإن هم خرجوا او أخرجوا منه كانت نهايتهم كأشخاص وكساسة يحتلون مواقع قيادية في هيئة عامة، كان من الصعب إن لم يكن من المحال وصولهم إليها بغير الايدي التي أتت بهم إلى حيث صاروا زعماء وأصحاب نفوذ وجاه، يستقبلهم قادة العالم في سياق تكاذب دولي، جعل منهم ممثلين شرعيين للشعب السوري وقادة حتميين له بعد إسقاط النظام، فهم هكذا في الطريق إلى أعلى المراتب واعظم المواقع في سوريا القادمة، التي لم يقدموا لها اية تضحيات ولم يدافعوا عنها طيلة نيف وثلاثين عاما، ولا يمتلكون ما يتطلبه وصولهم إلى قيادتها من قدرات ومؤهلات وخبرات.
هذه الحال، لعبت دورا مفتاحيا في منع ما كان الممسكون بالمجلس الوطني يعدون به من إعادة هيكلته، وحالت دون إدخال دماء جديدة إليه، وفرضت عليه آليات معينة في العمل وضعته بين أيدي قلة تنتمي الى اتجاه مذهبي محدد، مغلق وكاره لاي توجه ديموقراطي، وعازف عن التعامل بندية واحترام مع أي تيار او تجمع قد ينافسه اليوم على الشعب ومستقبلا على السلطة. على هذه الخلفية، تراه يصارع الجميع بوسائل وأساليب خفية ومكائد ظاهرة لا تعف عن انتهاك أي جانب من جوانب العمل السياسي الشرعي والمدني، القائم على أسس من احترام الآخر والتعامل معه بمعايير الندية. لا عجب أن التوجه الرئيس الذي اعتمده هؤلاء انصب على الإقصاء كوسيلة لإنكار وجود القوى السياسية الديموقراطية والعلمانية التام، أو لإبعادها عن المجلس في بداية تكونه، وعن الحياة السياسية عموما بعد بدء نشاطه الميداني، الأمر الذي ترجم نفسه إلى يافطات مدفوعة الأجر تخِّون كل من لا ينضوي تحت سلطانهم ويخضع لأهوائهم وأمزجتهم، ويوافق على القصص التي فبركوها لستر تخاذلهم خلال عقود طويلة عن القيام بأي دور ظاهر أو خفي في سوريا، بما في ذلك غيابهم عن مرحلة الإعداد للثورة، وتقاعسهم عن الالتحاق بها منذ بداياتها، لسبب بسيط، هو أنه لم يكن لهم أي وجود منظم أو خفي داخل صفوف من قاموا بها. لا عجب ايضا ان هؤلاء ابتدعوا تكتيكات تقوم على المراوغة والافساد بقصد السيطرة على قرار حلفائهم في المجلس، وإحراق أوراق المعارضين خارجه، بربط سياسات المعارضين إلى أية جهة انتسبوا بمكانتهم الخاصة ودورهم فيه، لذلك تكرر ما كنا قد عرفناه في أحزابنا طيلة تاريخنا الحديث من ترجيح اهمية ومكانة الاشخاص على أية اعتبارات تنظيمية او سياسية، وارتباط التنظيم أو الحزب بأشخاص معينين لا يتبدلون او يتغيرون يضعون أيديهم عليه من مواقعهم في قمته. هل من المعقول ان يسمح هذا الجو بإصلاح المجلس أو بإعادة هيكلته بطرق تخرجه من احتجاز دفع إليه، وحرص الإسلاميون على بقائه فيه، وعلى تعطيل خروج الحراك الوطني المعارض بأسره منه، إن كان سيقلص دورهم ويقوض ولو من بعيد هيمنتهم. تقول الخبرة إن هذا لم يكن ممكنا، وإن التنظيمات التي تبتلى به تخضع غالبا لاعتبارات جزئية خاصة ببعض مكوناتها، لذلك يقتصر معظم نشاطها على الدوران في حلقة مفرغة ذات اتجاه هابط في آن معا، في حين يقابل أي جهد تجديدي بردات فعل لا عقلانية تغلب عليها المزايدة والانفعال، تتهم اصحابه بالخيانة وبالتخلي عن قضية الشعب.
بسبب هذه العقلية وما املته من ممارسات، لم تكن إعادة الهيكلة ممكنة حتى بنصف نجاح، رغم أهميتها لمجمل العمل الوطني، وما قدم على دربها من وعود متكررة. والواقع أن إعادة الهيكلة لم تكن تحتمل معنيين، فهي إما أن تعيد إنتاج توازن حقيقي بين الواقع على الأرض من جهة، وإما تمثيل مختلف الكتل في المجلس الوطني من جهة ثانية، وتنهي الاختلال الحاصل بينهما لصالح إسلاميين ليس لهم في الواقع السوري ربع ما أعطاهم إياه المجلس، أو أن لا تكون إعادة هيكلة، بل ضربا من الاحتيال على الحقائق، يستمر معه التفاوت الصارخ بين واقع الارض وواقع المجلس، الذي كان اسلاميو المجلس حريصين على ردمه من خلال ممارسات ميدانية لا تفرق بين الحلال والحرام، أملوا أن تحسن وضعهم بسرعة، وأن تمكنهم من سد الهوة بين حالهم الذاتية والموضوعية، لكنها اتت في النهاية بعكس ما أملوه وتطلعوا إليه.
كان المنتفعون من وضع المجلس غير السوي يريدون إعادة هيكلة لا تغير شيئا من توازناته القائمة، التي تشكلت في غفلة من الزمن وبتدخلات خارجية مفضوحة وأعطتهم أكثر بكثير مما يمثلون ويستحقون، لذلك لم تتم ولو من بعيد، رغم ما مورس من فنون وألاعيب احتيالية في كل اتجاه وموقف، لإعادة إنتاج الأمر القائم بشخوصه وتوجهاته وبرامجه، والحيلولة دون وقوع أي تغيير في هذه المجالات الثلاثة، بينما يفترض ان هدف الإعادة الوحيد يقتصر على إحداث هذا التغيير دون سواه. الا يفسر هذا لماذا كثرت الوعود دون ان يتم أي عمل حقيقي لتحقيقها، رغم تكرار الحديث عنها خلال قرابة عام هو كل عمر المجلس؟ ألا يثبت أيضا صوابية ما وجه إليه من نقد وتجريح على يد عشرات ومئات الأشخاص، الذين خرجوا منه غاضبين، او انتسبوا إليه وعلقوا آمالا عراضا عليه، ثم خاب أملهم من مسيرته الفعلية وقيادته، ووجدوا أنفسهم عاطلين تماما عن العمل داخله، لا دور لهم غير أن يكونوا «كمالة عدد»: ارقاما لا فاعلية ولا شغل او وزن لها، تحتسب دون أن يحسب لها حساب، او يسمح لها بالمبادرة إلى القيام بأية افعال، مهما كان نوعها او كانت وجهتها، امضت فترة عضويتها فيه وهي تجأر بالشكوى من ممارساته وقياداته.
أخيرا، وعندما قيل إن المجلس أعاد هيكلته، تبين أن ما وقع كان تكرارا لما دأبت قيادته على فعله، ويتلخص في ضم أعضاء جدد إليه يحلون محل الذين تركوه، لكن بعضهم يستقيل منه بعد ساعات من دخولهم إليه، في حين يغادره بعض قدامى أعضائه، في اعقاب انتخابات معلبة مليئة بالتطبيقات التآمرية، يسقط خلالها مرشح لا يحصل على غير سبعة أصوات من كتلته، لكن يدا حانية تعينه في الايام التالية رئيسا للمجلس بقوة «ديموقراطية المكائد»، التي تسيره. هذه الشرشحة لم تحل بين قادة المجلس وبين القول: إنه الحاضنة الوحيدة للعمل الثوري الذي يصدر أو يمكن أن يصدر عن أي سوري من أي تيار أو توجه كان، ولم تمنع رئيسه الجديد من تأكيد أن التفاهم على الجسم السياسي، الذي اقترحه الاستاذ رياض سيف، يتطلب أسابيع، ثم ينضم مجلسه إلى الائتلاف بعد ساعة واحدة فقط من تصريحه، في دليل جديد على ما له من مكانة ونفوذ فيه، وبعد أن هدد القطريون القادرون والمقررون من أعضائه بكشف فضائح قادتهم المالية وانشطتهم الخفية، وافهموهم أن الائتلاف هو إعادة الهيكلة المطلوبة، التي لن تغير شيئا على أرض الواقع، وتقدم مخرجا لهم من أزمتهم التي صارت قديمة ومزمنة خلال عمر مجلسهم القصير الذي لا يتعدى العام الواحد!
ما قيمة إعادة هيكلة لا تغير شيئا في جسم سياسي فقد ثقة الشارع ودخل في عداء مستحكم مع بقية أطراف المعارضة، اقتصرت مهمته على تعطيل أي فعل يستهدف الخروج من مأزق أدخل العمل الوطني إليه عن سابق عمد وتصميم، بعد أن شق صفوف المعارضة والشعب، ولاقى في منتصف الطريق سياسات النظام لوضع المسألة السورية بين أيدي القوى الخارجية؟ وما قيمة إعادة هيكلة لا تعيد النظر في قيادة وبرامج وتوجهات عمل أثبت فشله طيلة نيف وعام، يتطلب أي شعور بالمسؤولية مراجعته والإقرار بإخفاقه والتخلي عنه؟ أخيرا، ما قيمة أي وعد بإعادة الهيكلة، إذا كان سيعيد إنتاج الأوضاع التي كان يعد بالتخلي عنها، لكن القائمين عليه بذلوا قصارى جهدهم كي يحافظوا عليها، بالصورة التي ترفضها أغلبية السوريين؟
كانت المعارضة قد بدأت تطوي صفحة المجلس الوطني، قبل اجتماعات القاهرة في تموز من العام الحالي. وكان العالم قد بدأ يطوي صفحة المجلس قبل ظهور «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، فهل يعيد الجسم السياسي الجديد إنتاج المجلس في صيغة جديدة، ويقدم له رأسه على طبق من فضة، أم يتولى إدارة شؤون سورية المدنية والعسكرية بروحية التوافق التي تمليها طبيعته كائتلاف لن ينجح إن لم يكن حاضنة وطنية يجد كل سوري نفسه فيها، فننتقل عندئذ من إعادة هيكلة كاذبة لمجلس فاشل، إلى إعادة إنتاج ناجعة وجدية لعمل وطني يريده الشعب ويضحي من اجله، ويأمل السوريون أن يقصر فترة آلامهم ويعبر عن تطلعهم إلى جسم سياسي يعبر فعلا عنهم، ليس فقط كي يتخلصوا من مجلس ألحق بهم ضررا فادحا في كل مجال، وإنما كذلك من أجل انقاذ وطنهم ودولتهم ومجتمعهم؟!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى