القرن الأول بعد بياتريس” عالم من دون الأنثى
ترمز المرأة في حضارات بعض الشعوب إلى الخصب والإنبعاث وإستمرارية الحياة، كما فاقت الرجل قداسةً وتقديراً. غير أنَّ هذه الحالة لا تدوم جراء تغييرات في البنية الإجتماعية والإقتصادية بحيث يتراجع دور المرأة وتهيمن النظرة الذكورية على التاريخ. ومنذ ذاك الوقت لم تتوقف الحروب والنزاعات. هنا نتساءل ماذا يكون شكل الحياة إذا إندثر جنس النساء؟ كيف يُمكن معالجة الإختلال في التوازن السكاني بين الجنسين؟ هذا ما يناقشه المفكر والروائي اللبناني أمين معلوف في روايته “القرن الأول بعد بياتريس”، دار الفارابي.
يتناولُ معلوف مخاطر عودة الأفكار البالية في عصر التطوّر العلمي المُتسارع، كما يلتفتُ إلى مسألة توظيف الإنجازات العلمية لأغراض غير إنسانية، ولا تغيب إشكالية الهوية والعلاقات بين الشرق والغرب في هذا العملِ فضلاً عن مقاربة عاهة الإستبداد المزمنة في الشرق والنظرة الإستعلائية لدى الغربيين.
تتحوّلُ هذه الأطروحات إلى ثيمات أساسية في تلافيف هذه الرواية. إضافة إلى وجود معجم لغوي خاص بعالم الحشرات. وبذلك يكون الطابع الفكري غالباً على سيرورة الأحداث مع الإحتفاظ بعنصر التشويق الذي يُعَدّ حجر الزاوية في كلّ عمل روائي.
يُحاول الراوي وهو عالم متخصص في الحشرات إقناع المتلقي بأنَّه موضوعي في عرض مادته المَحكية، بل يصرّح بأنَّ كلّ ما تقع عليه عين القارئ هو عبارة عن تسجيل الأحداث في مُفكرة كُتِب فيها تاريخ ولادة بياتريس.
إرتباط بياتريس بمرسي وهو من أصل مصري يحمل دلالات موحية بأنّ الشرخ الحضارى مهما كان كبيراً فلا ينعدم الأمل بإيجاد قنوات للتواصل بين الشرق والغرب إذ تبدأ الرواية بإنعقاد مؤتمر علمي حول حشرة الجعران ودراسة الأسباب وراء إهتمام الفراعنة بهذه الحشرة دون غيرها. ويكشف أحدُ المشاركين من الدانمارك عن وجود وصفة باسم “فول الجعران” تباع في شوارع القاهرة. كما تُذكر داخل المؤتمر صفات حشرة الجُعَل بحيثُ لا يُسْتَبْعَد أن تكون ملهمة بفكرة بناء الإهرامات.
وما أن يعرض العالم الدانماركي نموذجاً عن الوصفة حتى يبادرَ الساردُ بشرائها ويلجأ الناس لتناول الوصفة لما لها من دور وتأثير في تنشيط الفحولة والإعتقاد بأنّ مَن يتعاطى المسحوق تُكافأ رجولته بمولود ذكر. للوهلة الأولى تبدو هذه الآراء مزحة أو شائعة أو تدجيلاً غير أنّ هذا الأمر يتحوّل إلى ظاهرة تهدّد تركيبة المُجتمعات.
مبعدما تتقصّى كلارنس صديقة الراوي ظاهرة حرق النساء في الهند خصوصاً في مدينة بومباي تكتشف مُعطيات جديدة منها بيع مادة بمواصفات فول الجعران، كما تؤكد لها امرأة طاعنة في السن راحت حفيدتها ضحية التقاليد الموروثة بأنّ كارثة حرق النساء لا تتكرّر لأنّ الأنثى قررت مقاطعة العالم وسيصبحُ المواليدُ كلهم من الذكوروهي تُراجعُ المركز الطبي الذي لا تلدُ فيه النساء إلّا ذكوراً. لكنّ كلّ هذه المؤشرات لا تقنع هيئة التحرير في الصحيفة بضرورة التوقف عند هذه الظاهرة. ومن ثَمَّ تدخل المجتمعات المتقدمة على الخط عندما يطوّر أحد العلماء باسم فولبو هذه المادة إذ تغزو الأسواق من دون أن تتنبّه السلطات إلى تداعياتها المأساوية
.كما يجرّب المختصون لقاحاً ضدّ ولادة الإناث لدى الأبقار. في هذا المُناخ المُعادي للأنوثة تُبصرُ بياتريس النور إذ تقضي كلارنس فترة ما بعد الولادة بالإستماع لما يتلقاه والد بياتريس من الراوي حول ظاهرة الإنجاب الإنتقائي. يؤطر الراوي هذه التطوّرات بإستعادة ما شهدته البشرية من المآسي نتيجةً لسوء استخدام العلم. إذ يُحيلك إلى التأثير التدميري للعلم في فترات الحرب.
وذلك لا يختلف عن إجهاض النسوة لحملهنّ في الهند عندما يُحَدّد لهنّ الطب جنس الجنين بأنه الأنثى. كما لا تفوت الراوي الإشارة إلى إحتمال تحويل هذه المادة إلى أداة للحرب بين الإثنيات المتناحرة، وبذلك يميط صاحب “سمرقند” اللثام عن عودة النزعات البدائية لدى الكائن البشري على عكس ما توقعه الراوي بأنّ الألفية الجديدة ستحمل بذرة الحلّ لمشكلات كثيرة، فإنّ حجم المخاطر تكبُر وستستفحلُ الأزمات.
تتوالد المشكلات ولا تجدي مساعي شبكة العقلاء نفعاً في إعادة التوازن إلى الهندسة السُكانية. ولا يسع المتلقي وهو يتابع تسلسل الأحداث إلّا أن يُسْقط ما يقرأه على واقعه خصوصاً واقع ما بعد الإنتفاضات العربية وزعزعة الأنظمة السياسية، وإستحكام حالة الخوف المتبادل بين الأفراد والمُجتمعات. تفهم من الوقائع بأنّ مسؤولية الإنحطاط القيمي لا يتحمّلها طرف واحد بل كلا الطرفين، الجنوب والشمال مساهمان فيما يسود من الإنهيارات المتتالية.
شخصيات “القرن الأول بعد بياتريس” مرسومة وفقاً لما يقتضيه مشروع أمين معلوف الفكري، إذ إنّ الأخير يركز على مسألة التواصل الحضاري بين الشرق والغرب في أعماله الروائية، ولا يقبع أبطاله في زنزانة الهويات المغلقة، بل تتوسّع شبكة علاقاتها الحضارية وتظل الفضاءات مفتوحةً أمامها للبحث عن رهانات جديدة.
هنا في خضمّ موجات التطرّف والأطروحات العنصرية والمُطالبة بعدم الإهتمام بمشكلات الجنوب يُوجد مَن يفكر من منطلق إنساني إذ يدحض عمانوئيل ليف وهو إحدى شخصيات الرواية الآراء التي تذهب بأنّ كوكب الأرض لا يتحمّل الإكتظاظ السكاني، مؤكداً على أنّ المشكلة تتمثل في تضخم الأنانية والأحقاد والعنصرية.
كما يشير إلى أنّ الأديان بأسرها لم تستطِع إستئصال جرثومة الحقد لدى الإنسان. يستشف المتلقي تقارباً بين آراد لييف وما ينطلق منه أمين معلوف في كتابه “الهويات القاتلة” لمُعالجة إشكالية الهوية والتطرّف الدينى. زدْ على ذلك فإنّ إرتباط بياتريس بمرسي وهو من أصل مصري يحمل دلالات موحية بأنّ الشرخ الحضارى مهما كان كبيراً فلا ينعدم الأمل بإيجاد قنوات للتواصل بين الشرق والغرب.
عُرف عن أمين معلوف إستلهام مادة أعماله من التاريخ. وذلك ما تراه أيضاً من معلومات تاريخية في رواية “القرن الأول بعد بياتريس”، غير أنّ ما يميّز هذا العمل هو الملمح التنبّؤي والفكري الذي يشدّك إلى عالمه، وما تستخلصه من هذه الرواية، أنّ الإنسان هو الذي يصنع تاريخه لكن ليس على دراية بما يصنع على حدّ قول كارل ماركس.
ميدل ايست اون لاين