بعد الشّمال السّوريّ.. هل تستعدّ تركيا لاجتياح شمال العراق؟
بعيداً من اهتمامات الإعلام العالمي المنشغل بفيروس كورونا، يشهد الشّمال العراقي عمليّات عسكريّة تركيّة جويّة تستهدف مواقع وتحركات لمسلّحي حزب العمال الكردستاني التركي في جبال قنديل، استعداداً لعمليات برية قريبة، بالتنسيق والتعاون المشترك بين الجيش التركي وقوات البشمركة الموالية لمسعود البرزاني، وهو ما فعلته هذه القوات في العديد من المراحل السابقة منذ بداية التسعينيات، عندما وضعت أميركا المنطقة الكردية، شمال خط العرض 36، تحت حماية ما يسمى بقوات المطرقة التي جاءت إلى تركيا في تموز/يوليو 1991.
وقد اكتسب هذا التنسيق والتعاون مضموناً استراتيجياً بعد الحرب بين قوات البشمركة الموالية للبرزاني وتلك الموالية للرئيس الراحل جلال الطالباني، إذ تمكَّن الجيش التركي من إقامة قواعد له في أكثر من 10 نقاط داخل الشمال العراقي، بدعم من البرزاني وقوات المطرقة الأميركية التي غادرت تركيا بعد احتلال العراق في آذار/مارس 2003.
ولم تكتفِ أنقرة بهذا التواجد المحدود، فتوغَّل الجيش التركي براً داخل الشمال العراقي 27 مرة حتى العام 2007، وذلك منذ الاتفاق الذي وقَّعت عليه أنقرة مع بغداد في العام 1987، وسمح بموجبه صدام حسين للقوات التركية بدخول الأراضي العراقية 20 كم، لملاحقة مسلّحي الكردستاني عندما كان منشغلاً بحربه مع إيران.
وتتحجَّج أنقرة بهذا الاتفاق، وتقول إنه ما زال ساري المفعول، كما تتحجَّج باتفاق أضنة مع دمشق في العام 1998، وتقول إنه يسمح لها بملاحقة الإرهابيين (مسلَّحي الكردستاني) في شمال سوريا، وهم غير موجودين على سبيل المثال في إدلب والمنطقة الممتدة منها إلى جرابلس.
ولم تهمل أنقرة طيلة الفترة الماضية، وفي عهد الحكومات السابقة، الاستفادة من ورقة التركمان الذين يتواجدون بشكل مكثف في جميع مناطق الشمال العراقي، وبشكل خاص كركوك والموصل، وهي المناطق التي كانت ضمن ما يُسمى بخارطة الميثاق الوطني (المللي)، التي تحوّلت إلى مصطلح مهمّ في أحاديث الرئيس إردوغان وحساباته الخاصة بسوريا والعراق.
وكانت هذه الخارطة التي رسمت حدود الدولة التركية في العام 1920، تضمّ الشمال السوري من إدلب إلى حلب فالرقة، ومنها إلى الداخل العراقي، لتشمل ما يسمى ولاية الموصل، التي تضم الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك، وأصبحت جزءاً من حدود الجمهورية العراقية بعد الاتفاقية البريطانية التركية في حزيران/يونيو 1926. وتم ضمَّ سنجق هاتاي (لواء إسكندرون) إلى تركيا بعد ذلك بـ12 عاماً، في الاتفاق التركي الفرنسي في العام 1938.
و قد استمرَّت مساعي أنقرة لاستخدام التركمان كورقة للمساومة، تارة مع بغداد، وأخرى مع الأكراد، ثم الأميركيين بعد احتلالهم العراق في العام 2003. وقد زاد ذلك من اهتمامات أنقرة بالشمال العراقي الذي سعى الرئيس الراحل تورغوت أوزال لضمه إلى تركيا في العام 1991.
ولم تهمل أنقرة هذه المنطقة في المراحل التالية، وبشكل خاصّ بعد استلام “العدالة والتنمية” السلطة نهاية العام 2002، والأهمّ من ذلك بعد ما يُسمى بالربيع العربي. وكان التصدّي للدور الإيراني في العراق من أحد أهداف الحسابات التركية المدعومة خليجياً في الشمال العراقي، إن كان عبر مسعود البرزاني أو الفصائل والعشائر والقوى السنية، وأهمها النائب السابق للرئيس العراقي طارق الهاشمي، ومحافظ الموصل السابق أثيل النجيفي، المتّهم بتسليم المدينة لداعش في حزيران/يونيو 2014.
وكان الرّضا العراقيّ نهاية العام 2015 على توغّل الجيش التركي حتى بعشيقة، شرق الموصل، بحجَّة الحرب على داعش ووحدات حماية الشعب الكردية، التحوّل المهّم في الحسابات التركية في الشمال العراقي، مع الفراغ الأمني آنذاك بسبب احتلال داعش للموصل ومناطق واسعة من العراق عموماً.
ولم يخطر على بال أحد من المسؤولين العراقيين اتخاذ الإجراءات العملية لإجبار أنقرة على سحب قواتها من الشمال العراقي عموماً، ما دام الواقع العربي في وضع لا يساعد بغداد على ذلك.
وكانت تركيا أحد المستفيدين من هذا الوضع، مع استمرار التواجد الأميركي هناك بكلّ نتائجه الخطيرة على المعادلات السياسية والأمنية في الداخل العراقي، وخصوصاً بعد اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في 3 كانون الثاني/يناير من قبل الأميركيين، وما لحق به من تحريك للشارع الشعبي بحجَّة الفساد، ليكون ذلك سبباً في الأزمة السياسية التي تريد لها أميركا أن تبقي العراق على ما هو عليه.
كما تريد واشنطن وحليفاتها لهذا الواقع العراقي أن يساعدها على تنفيذ أجندتها لإزعاج إيران وإحراجها وتضييق الحصار عليها، وهو ما تسعى أنقرة للاستفادة منه، على الرغم من أن حسابات واشنطن في الشمال العراقي هي امتداد لحساباتها في شرق الفرات، مع الدعم الأميركي لمسلّحي وحدات حماية الشعب الكردية؛ الذراع السورية للعمال الكردستاني التركي، فأنقرة التي يبدو أنها تراهن على عامل الزمن، تعتقد أنَّ استمرار الوضع على ما هو عليه الآن في العراق وسوريا معاً، سيساعدها على تنفيذ مشاريعها على المدى المتوسط والبعيد، مع استبعاد أيّ تطور محتمل يعرقل أو يمنع هذه المشاريع وحساباتها الأخرى في المنطقة.
وتعتقد أنقرة أنَّ معطيات كلٍّ من الدولتين ما زالت لصالحها، فالجيش التركي يتواجد في سوريا بالتعاون مع المعارضة الإخوانيَّة والفصائل المسلَّحة الموالية لها، وفي العراق هناك العشائر السنّية وبشمركة البرزاني، مع استمرار الخلافات بين الأطراف الشيعية في ما بينها.
وتتحدَّث المعلومات عن توتر خطير محتمل بين قوات البرزاني والقوات الموالية للاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة الرئيس الراحل جلال الطالباني، مع استمرار الفتور بين أنقرة والسليمانية، الأكثر اعتدالاً تجاه قضايا العراق وسوريا والمنطقة. ويفسّر ذلك اتهام البرزاني لمجموعة الطالباني بالخيانة، لأنها تعاونت مع بغداد لإفشال استفتاء الاستقلال نهاية العام 2017.
وينسى البرزاني أنَّ حليفه الاستراتيجي إردوغان هو الطرف الأهم في إفشال هذا الاستفتاء، الذي اعترضت عليه عواصم غربية باتت ترجّح وحدات حماية الشعب الكردية السورية على البرزاني، الذي يرى في عبدالله أوجلان زعيم هذه الوحدات، ويرى في العمال الكردستاني منافساً جدياً له.
وقد تدفع هذه المنافسة البرزاني إلى الحرب ضد الكردستاني التركي في جبال قنديل، لكسب ودّ الرئيس إردوغان من جديد ضد منافسه التاريخي والتقليدي أتباع الطلباني، ومنهم الرئيس العراقي برهم صالح، وزعيم الحزب بافيل نجل الرئيس الطلباني. ويسعى البرزاني لمواجهته عبر شقيقه كوباد، الذي عيَّنه نائباً لرئيس الوزراء في حكومة مسرور البرزاني، نجل مسعود، فيما يبدو واضحاً أن الرئيس إردوغان هو المستفيد الأكبر من كل هذه المعطيات والتناقضات بكلّ تفاصيلها، المعلنة والسرية، وفيها الكثير من المصالح المادية والسياسية والعقائدية التي يعتقد أنه سينجح في استغلالها لتنفيذ مخطَّطاته ومشاريعه في الشمال العراقي في وضعه الصعب والمعقَّد، بعيداً هذه المرة من تدخّلات الرئيس فلاديمير بوتين.
وتبقى “إسرائيل” المستفيد الأوّل من كل هذه التناقضات الداخلية والإقليمية، ما دامت ترى في هذا البلد حدودها الشرقية التي خرج منها النبيّان إبراهيم ويعقوب، ليعبرا الفرات ودجلة إلى أرض كنعان، التي راحت أيضاً ضحية لخلافات وتناقضات عربية وإقليمية.
الميادين نت