هكذا أشعلت واشنطن الحرب الأهليّة [10]: جردة إسرائيليّة أوليّة بتسليحها للميلشيات الانعزاليّة

جاء المبعوث الرئاسي الأميركي دين براون الى بيروت لرفع معنويّات الميليشيات اليمينيّة وتقديم المزيد من العوْن لها. كانت هزيمة الميليشيات خطّاً أميركيّاً أحمر، كما أوضح براون لهم. كما كان لزيارته تأثيرها حتى على الحركة الوطنيّة، وعلى قيادة ياسر عرفات في منظمّة التحرير.

فقد أصدرت الحركة، في وقت كانت قوّاتها تتقدّم على كل الجبهات، بياناً في ١ نيسان أعلنت فيه قبولها الهدنة، بعدما كانت تعارضها. وكانت مهمّة براون الترويج لما كان يُسمّى بـ”المبادرة السوريّة”، أي التمهيد لتدخّل عسكري للنظام السوري، وفرض هدنة (كما أصرّ هنري كيسنجر) لإنقاذ الميليشيات اليمينيّة من الهزيمة.

وقد تحدّث كمال جنبلاط، بودّ، عن لقائه الأوّل مع براون، وقال بعد اللقاء: “فَضْلُ الغرب على العالم أنه اقترح الديمقراطيّة السياسيّة، وأنا غربي في عقلي… تحدّثنا أيضاً عن الحضارة وتأثيرها على الشباب، خصوصاً أفلام العنف والجنس، وضرورة إعادة النظر في التربية والقضايا الثقافيّة” (راجع نص التصريح في أنطوان خويري، “حوادث لبنان”، ١٩٧٦، الجزء الثاني، ص. ٥٠٢ ــــ ٥٠٣). وحاول جنبلاط جس نبض براون حول التأييد الأميركي للتدخّل السوري، لكن الأخير حاول التملّص وتصنّع البراءة. كما تحدّث شارل مالك بإيجابيّة عن مهمّة براون وتبجّح، كعادته، بـ “أنني أعرف مستر براون منذ زمن طويل وتربطني به صداقة وأحترمه كثيراً. والجماعة (الأميركيّون) جديّون في المساعدة ما أمكنهم على حل القضيّة اللبنانيّة” (“حوادث لبنان”، ص. ٥١٥). أما براون فكان صريحاً في موقفه السياسي، فقال بعد لقائه بيار الجميّل “كالعادة، نا والشيخ بيار متفاهمان دائماً” (ص. ٥١٦)، فيما أكّد للمفتي حسن خالد (“المسلمون في لبنان والحرب الأهليّة”، ص. ٢٤٨) أن الحكومة الأميركيّة حثّت الرئيس حافظ الأسد “ليستمر في الجهود السوريّة لإحلال السلام في لبنان”.

لكن بداية إبداء التعاطف من قبل العدوّ الإسرائيلي مع المبادرة السوريّة أقلق كيسنجر الذي خشي من استغلال الأسد الموافقة الإسرائيليّة على المبادرة السوريّة للتصعيد في لبنان (أطروحة غير برغرسون غيز، ص. ٩٩). وعندما سأل جيرالد فورد كيسنجر عن الوضع في لبنان، في اجتماع بينهما في ١٢ نيسان، طمأنه الأخير على المصالح الأميركيّة قائلاً: “يمكن لنا أن نمشي وسط حقل الألغام بسلام”. وأكّد كيسنجر، في شهادة أمام الكونغرس في 14 نيسان، أن التدخّل السوري لا يشكل تهديداً لأمن إسرائيل.

كانت نصيحة براون للقادة الموارنة بأن يكونوا أقوياء (عسكريّاً) كي يكون موقعهم التفاوضي قويّاً (وفهموا إشارته هذه، حسب رواية جوناثان راندل، على أنها تشجيع على قبول التسليح من إسرائيل).

الوثائق الأميركيّة عن زيارة المبعوث الأميركي ولقاءاته تختلف كثيراً عن التصاريح العلنيّة. فقد كانت مواقف الزعماء الموارنة إيجابيّة من زيارة براون الذي كان يحمل فكرة تشكيل قوّة لضبط الأمن تضمّ عناصر من الميليشيات الانعزاليّة والجيش اللبناني وقوّة من تنظيم “الصاعقة”. وكان بيار الجميّل أكثر حماسة للفكرة، وتطوّع بتقديم وحدات من ميليشياه. فيما كان سليمان فرنجيّة مُشكّكاً وإن وافق على الفكرة على مضض. أما كميل شمعون فكان في وارد آخر: كان قلقاً على أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي. إذ تنقل وثيقة أميركيّة عن شمعون قوله سرّاً للمبعوث الأميركي إن السوريّين ينوون إقامة دولة في لبنان تكون “مئة بالمئة معادية لإسرائيل”. لكنه حرص على التأكيد أن “الموارنة لا يمكن لهم أن يحاربوا إسرائيل” لأنهم “يتمتّعون “بعلاقة جيّدة” مع الدولة العبرية. واقترح شمعون إقامة دولة كونفدراليّة في لبنان يكون لها “علم واحد، ولكن بحقوق منفصلة” (ص. ١٨٥ من كتاب ستوكر). وقد ردّ براون بأن الفكرة غير عمليّة لأن هذا يوازي التقسيم، وبأن على المسيحيّين “عندها إيجاد طريقة أخرى لحماية أمنهم”.

وكانت منظمّة التحرير، بشخص شفيق الحوت، تسعى للتخفيف من التصريحات العدائيّة لمهمّة براون الذي أشاد بالدور المعتدل لعرفات. وطالب في برقيّات إلى وزارة الخارجيّة بفتح حوار مع قيادة عرفات مع التذكير أنه هو الذي كان قد طالب عام ١٩٧٣ بفتح الحرب ضد المقاومة الفلسطينيّة في لبنان على غرار “أيلول الأسود”. لكن كيسنجر رفض فتح الحوار.

كانت علاقة الميليشيات اليمينيّة مع العدوّ الإسرائيلي تنمو وتتعاظم. ولم يبحث المسؤولون الأميركيّون (على الأقل على المستوى الديبلوماسي) في العلاقة بين القادة الموارنة والعدوّ الإسرائيلي. أما مستشار فرنجيّة (ومبعوثه لدى السفارة الأميركيّة في بيروت للتواصل السرّي غير الخاضع للأقنية الديبلوماسيّة) لوسيان الدحداح، فقد أبلغ الأميركيّين أن الإسرائيليّين طلبوا من “الوسطاء الموارنة عدم إعلام المسؤولين الأميركيّين” بالعلاقة بينهم. لكنه كان يعلم لأن الأميركيّين كانوا يعرفون عن هذه العلاقة السريّة. وأضاف الدحداح أنه “قام شخصيّاً بإبلاغ السوريّين عن شحنات السلاح من إسرائيل… وأنهم لم يكترثوا للأمر”. (ص. ١٨٤).

أما الإسرائيليّون فقد كانوا يطلعون الحكومة الأميركيّة، بالتفصيل، عن علاقتهم وتسليحهم للميلشيات الانعزاليّة. وهناك وثيقة نُشرت من جملة الوثائق المنشورة عن وزارة الخارجيّة الأميركيّة (نشرها ستوكر على صفحته في موقع جامعته) تتضمن تفاصيل عن الدعم الإسرائيلي للميليشيات الانعزاليّة. وفي هذه الوثيقة (تحمل تصنيف “سرّي للغاية” وتعود لـ ٩ نيسان ١٩٧٦) يصف مسؤولون إسرائيليّون تفاصيل لقاء بينهم وبين ممثّل رسمي عن بيار الجميّل لم يرد اسمه في الوثيقة (يخمّن ستوكر أنه جوزيف أبو خليل) وقادة موارنة آخرين. ويقول ممثّل الجميّل في الاجتماع أن الأخير يرحّب بالاتصال بإسرائيل وأنه مهتم بـ”الاستمرار في الاتصال مع إسرائيل كي يضمن أفعلَ تعاون وتنسيق بين الطرفيْن”. وأضاف أن “حالتهم صعبة للغاية لكنهم في موقع يستطيعون أن يصمدوا فيه”، وأن الوضع العسكريّ “حرج للغاية لأن العدوّ (اليسار اللبناني) يتلقّى تعزيزات بما فيها فلسطينيّون وصوماليّون وآخرون من دول عربيّة”، وأن “السلاح المسلم” يتفوّق على سلاحهم بدرجة كبيرة. وطمأن المسؤول الكتائبي الإسرائيليين بأن لديهم عدداً كبيراً من المتطوّعين، لكنهم “يطلبون بإلحاح سلاحاً ووقوداً وغذاءً”، مؤكداً أنهم سيحقّقون إنجازات عسكريّة فيما لو حصلوا على هذه المساعدات، وأن معنويّاتهم ومعنويّات رجالهم ستقوى. ولاحظ الكتائبيّون، بحسب الرواية الإسرائيليّة في الوثيقة الأميركيّة، أن الموقف الأميركي بات أكثر إيجابيّة نحوهم لكن من دون تعبير عملي.

وأضاف أن “الملك حسين لم يفعل شيئاً للمسيحيّين” بسبب انعدام نفوذه في المنطقة، وأن السوريّين تمنّعوا عن التدخّل العسكري المفتوح لأنهم يخافون من دخول متوازٍ لجيش إسرائيل. وتحدّث ممثّلو بيار الجميّل عن تقسيم لبنان كـ “الحل الواقعي الوحيد”. وعلّق المسؤول الإسرائيلي بالقول على ما ورد: “نشعر أنهم يعلّقون علينا آمالاً عظيمة على الصعيديْن السياسي والعسكري لكننا نحاول تجنّب رفع آمالهم العظيمة”، وأن إسرائيل لم تبلغهم بـ”نيّاتها الجديّة” التي أبلغتها إسرائيل لوزير الخارجيّة “في حال حدوث تدخّل عسكري سوري من جانب واحد”. ويضيف المسؤول الإسرائيلي: “نحن مستمرّون في تزويدهم بالسلاح (بالإضافة إلى السلاح الذي نمدّه لشمعون)،ووعدناهم بمدّهم بالمحروقات والغذاء”. وختم المسؤول الإسرائيلي بالقول: “سنستمرّ في الحفاظ على أعلى مستوى من السريّة في العلاقة مع التنظيمات المسيحيّة”.

وتضم الوثيقة جردة بما قدّمه العدوّ من مساعدات عسكريّة للميليشيات الانعزاليّة في هذه المرحلة المبكرة من الحرب، وقبل صعود حزب الليكود الذي زاد من وتيرة الدعم الإسرائيلي لقوى اليمين الطائفي في لبنان. ووفق هذه الوثيقة كانت المساعدات الإسرائيليّة حتى حينه: ٣٠ مدفع هاون عيار ٥٢ ملم، ٦٠٠ قذيفة مدفع هاون عيار ٥٢ ملم، ٤٤ مدفع هاون عيار ٨٢ ملم، ١٨٠٠ قذيفة هاون عيار ٨٢ ملم، ٩ مدافع هاون عيار ١٦٠ ملم، ٩٠٠ قذيفة هاون عيار ١٦٠ ملم، ١٠٦٠ بندقيّة رشّاش خفيفة (متنوّعة)، ١٥٢٠٠٠٠ وحدة ذخيرة لـ “إل.إم.٦”، ٣٤٥ بندقيّة رشاش متوسّط (متنوّعة)، ١٦ بندقيّة رشاشّ ثقيل (متنوّع)، ٤٥٠٠٠ وحدة ذخيرة لـ”إتش.إم.٦”، ٢٦٠٠ بندقيّة “بال” ومعدّاتها، ١٦٠٠٠٠٠ رصاصة لبنادق “بال”، ١٠٠٠ بنادق ــــ قاذفات مضادة للدروع، ٢٥٣٧ بنادق متنوّعة، ٤ ملايين رصاصة للبنادق، ٢٩٠٠ بندقيّة “إم ــــ ١٦”، ٣٢٥٠٠٠٠ رصاصة لبنادق “إم ــــ ١٦”، قاذفا “أر. بي.جي”، ١٠٨٦ قذيفة “أر. بي. جي”، ٢٤٤ بندقيّة عادمة الارتداد متنوّعة، ٨٠٠٠٠ رصاصة للبنادق العادمة الارتداد، ٤ قاذفات كاتيوشا، ١٠٠ صاروخ من عيار ١٣٠ ملم، ٢٠٠٠ قذيفة من عيار ٢٥ رطلاً، ١٠٠٠ وحدة ذخيرة من عيار ١٢٢ ملم، ١٥٠٠ وحدة ذخيرة من عيار ١٥٥ ملم، ٢٠٠ لغم، ١٠ أطنان “تي.إن.تي”، ١٠٠ قاذفة بازوكا من عيار ٧٣ ملم، ٦٠٠٠ قذيفة بازوكا من عيار ٧٣ ملم، ١٠٠٠ رصاصة لبنادق الصيانة المتدنيّة، ١٦ كاشفة ألغام، ١٥ جهاز اتصال من نوع “إم. كي ٦”، ١٥ ناقلة جند، ٣٣ مدفع من عيار ١٢٠ ملم، و١٥٨٨٠ قذيفة من عيار ١٢٠ ملم. (من المُلفت أن الوثائق المنشورة عن تلك الحقبة كشفت أكثر بكثير مما كشفته الوثائق المنشورة عن حقبات ماضية. والطريف أن الوثيقة التي تحمل الجردة الأولى بالتسليح الإسرائيلي حملت توقيع المسؤول الأميركي المعروف فرانك وزنر الذي أرسله أوباما في أوائل ٢٠١١ مبعوثاً خاصّاً له إلى حسني مبارك عند بداية الانتفاضة المصريّة). ويتضح من هذه الجردة حجم الدعم الإسرائيلي (غير الدعم الأميركي المستقلّ) الذي نالته الميليشيات الانعزاليّة التي كانت تزعم في سنوات الحرب أنها لم تكن تتلقّى الدعم، وأن النسوة كن يبعن حليهن لتمويل المجهود الحربي. وبحلول أيّار ١٩٧٦، بلغ حجم السلاح والذخيرة الإسرائيليّة التي تلقّتها (منحةً) ميليشيات اليمين الانعزالي ١٢٠٠ طن، لكنها دفعت ثمن ٢٠٠٠٠٠ ليتر من المحروقات (من وثيقة أميركيّة يذكرها ستوكر، ص. ٢٦٨).

بدأ كيسنجر بالتعبير عن سروره من مسار الحرب الأهليّة في لبنان. ورأى أنها ستفيد المصالح الإسرائيليّة والأميركيّة معاً، وان النظام السوري سيستولي على منظمّة التحرير على حساب ياسر عرفات وحركة “فتح” (أطروحة بير برغرسون غيز في جامعة أوسلو، ص. ١٠٠). وكانت الحكومة الأميركيّة تحاول اقتراح إنشاء قوّات دوليّة لـ “ستر” (أو لوضع قناع فوق) التدخّل العسكري السوري (وهذا ما حدث في ما بعد عندما غطّت دول الخليج والحكومة الأميركيّة التدخّل العسكري السوري تحت ستار “قوّات الردع العربيّة”).

كانت الحكومة الأميركيّة راضية عن سلوك عرفات المعتدل في الحرب الأهليّة (والتي لا يزال بعض أبواق اليمين المسلم والمسيحي يحمّله المسؤوليّة جوْراً عنها). وقال كيسنجر لبراون إنه يريد إبلاغ عرفات بأن الحكومة الأميركيّة تنوّه بأدائه في لبنان (أثناء زيارة براون وبعدها). وقد عرض براون أن يقوم بإيصال الرسالة عبر غسّان تويني. لكن كيسنجر فضّل قناة التواصل مع منظمّة التحرير عبر المخابرات الأميركيّة (ربما عبر أبو حسن سلامة). وأشادت الرسالة بـ “الدور البنّاء” لعرفات، وأشارت في لغة ضبابيّة كسينجريّة إلى “احتمالات لتنمية حوار أكثر رسميّةً من دون التأثير السلبي على القضايا الأخرى”.(ص. ١٨٩ من ستوكر). وليس هناك من وثيقة حول مآل هذه الرسالة، لكن الأرجح أنها وصلت إلى عنوانها.

وعندما عاد براون إلى لبنان في أوائل أيّار ١٩٧٦، حاول التأثير على موقف جنبلاط المعارض للتدخّل العسكري السوري، وقال له إن مطلبه بالانسحاب الفوري والكامل للقوات السوريّة كشرط لإجراء الانتخابات هو موقف تعطيلي. والغريب أن جنبلاط كان متجاوباً جداً مع براون الذي أتى إلى لبنان لتدعيم موقف الميلشيات الانعزاليّة ولإنقاذها من هجوم يساري لبناني ــــ فلسطيني كاسح. واعترف جنبلاط علناً في تصريحاته أنه قبل بوقف النار تسهيلاً لمهمّة المبعوث الأميركي. لكن لماذا ساعد جنبلاط براون في مهمّته؟ قد يكون السبب ضغط عرفات الذي كان دوماً يخفّف من طموح وجموح قوّات الحركة الوطنيّة في تلك الفترة، والتي كانت قوى “جبهة الرفض” تدعمها. وكان عرفات مهتمّاً بإبداء حسن السلوك إزاء الحكومة الأميركيّة كي يقبض ثمنها حواراً رسميّاً مباشراً معها. لكن قد يكون براون هدّد جنبلاط والحركة الوطنيّة بعمل عسكري أميركي، بعدما خوّله كيسنجر توجيه التهديد لجنبلاط و”اليسار” اللبناني. لكن جنبلاط لم يتحدّث علنا عن تهديد، وليس هناك في الوثائق ما يشير إليه (غير تعليمات كيسنجر إلى براون عن تخويله تهديد جنبلاط وقوى اليسار). وفيما كان جنبلاط إيجابيّاً مع براون إلى درجة أنه قال خطأ إن المبعوث الأميركي أعجب ببرنامج الحركة الوطنيّة، كان رأي براون بجنبلاط شديد السلبيّة. وعندما قال جيرالد فورد عن جنبلاط إنه “ليس مسلماً”، زاد براون على التعليق: “هو درزي منشق. هو مجنون”. (ص. ١٠٤ من أطروحة غير برغرسون غوز).

بذل قادة الموارنة جهداً في الترويج للتدخّل العسكري السوري مع المبعوث الأميركي، خصوصاً أنه لم يكن صريحاً معهم حول نيّات الحكومة الأميركيّة إزاء الموقف السوري. وصارحهم فرنجيّة برأيه بأن عدم دعم الحكومة الأميركيّة للتدخّل العسكري السوري يعني ان “الحل الوحيد هو التقسيم”. أما شربل قسّيس، رئيس الرهبانيّات المارونيّة آنذاك، فتحدّث مع براون “باسم الكنيسة”، وقال: “لعلّ لبنان اختار أصدقاءه خطأً وربما من الأفضل العيش شيوعيّاً على الموت ديمقراطيّاً” (من طرائف تلك اللقاءات ان ميليشيات الموت اليمينيّة كانت تتحدّث مع الغربيّين على أنها هي تمثّل قيم الديمقراطيّة والحريّة). وأخبر مبعوث كتائبي اللقاء أن الأسد أعلم قادة الجبهة اللبنانيّة بأنه لا يستطيع إرسال جيشه إلى لبنان لأن أميركا تمنعه من ذلك.

حاول الدحداح في زيارة سريّة إلى باريس مناقشة الوضع مع المسؤولين الفرنسيّين للحث على مبادرة فرنسيّة مستقّلة. لكن هؤلاء كانوا يحملون انطباعاً سلبيّاً جداً عن فرنجيّة الذي وصفه الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، في زيارة إلى واشنطن في ١٨ أيّار، بأنه “شخص أبله جدّاً وقد ألحق ضرراً” (ص. ١٩٣ من كتاب ستوكر). وصارح ديستان الأميركيّين بأن فرنسا كانت تفكّر في إرسال قوّات من بضعة آلاف إلى لبنان، لكن كيسنجر خشي من أن يؤدّي ذلك إلى إرسال مزيد من القوّات السوريّة إلى لبنان. لكن فكرة التدخّل العسكري الفرنسي لم تلق تجاوباً أوروبيّاً خصوصاً أن دولاً أوروبيّة (منها فرنسا، كما يروي ستوكر) كانت قد أرسلت شحنات جديدة من الأسلحة إلى الميليشيات الانعزاليّة، مما زاد من تصلّبهم.

عقدت “مجموعة العمليّات الخاصّة” في البيت الأبيض اجتماعاً في ٢٢ نيسان. وكان احتدام المعارك مُقلقاً لواشنطن. فقد زادت ثقة الميلشيات اليمينيّة بقدراتها بعد تدفّق التسليح الإسرائيلي والأميركي والأوروبي، صعّدت في المعارضة لتعطيل اتفاق بين عرفات والأسد (بعد اتفاق دمشق)، ومن أجل جرّ تدخّل عسكري غربي أو إسرائيلي في لبنان. وناقش المجتمعون احتمال تدخّل سوفياتي وإسرائيلي في لبنان، كما نوقش أمر نشر قوّات أميركيّة إما كعازل بين القوّات السوريّة والإسرائيليّة أو لردع “تورّط” سوفياتي. وطلب كيسنجر من وزارة الدفاع بحث أمر تدخّل عسكري أميركي في لبنان في حالة تدخّل إسرائيل أو الاتحاد السوفياتي. وحذّر من أنه يريد “دفق قوات (أميركيّة) في المتوسّط لثني السوفيات عن عزمهم”. وعبّر عن خوفه من تحوّل لبنان إلى مستنقع. وزادت شهيّة أميركا للضغط على الأطراف للتوصّل إلى “حل” (بالتعريف الأميركي الذي يحمي مصالح أميركا وإسرائيل واليمين اللبناني). ووافق جنبلاط على لقاء الجميّل للبحث عن حل، كما أن شمعون وعد بتأجيل مشروعه لتقسيم لبنان. وحاولت الحكومة المصرية عرض خدماتها للتدخّل العسكري في لبنان لموازنة التدخّل السوري.

وفي موضوع الانتخابات اللبنانيّة فضّل المبعوث الأميركي الياس سركيس على ريمون إدّه، لكنه لم يقل ذلك علناً واعتبر أن ذلك سيكون بمثابة “قبلة الموت”. فيما حذّر وزير الخارجيّة المصري من انتخاب سركيس بسبب قربه من السوريّين. وطمأن براون جيرالد فورد ومستشاره للأمن القومي أن “الأصوات ستُشترى وتُباع في الانتخابات” في المجلس النيابي (غير برغرسون غيز، ص. ١٠٤). ومما لم يكن معلوماً آنذاك ان ريمون إدّه سعى للحصول على تأييد أميركا والدول الأوروبيّة على ترشيحه الرئاسي من خلال جولة قام بها في هذه الدول في كانون الأول ١٩٧٥. ووصفه تقرير لوزارة الخارجيّة بأنه “معتدل” و”ناقد للطموحات الفلسطينيّة والإسرائيليّة في لبنان”. وصرح إدّه، في لقاء مع جوزيف سيسكو، بآرائه حول الحلّ في لبنان. وقال إن التورّط السوري والفلسطيني، بالإضافة إلى التورّط الليبي والعراقي، يمنع التوافق بين اللبنانيّين. واقترح تدخّلاً عسكريّاً أميركيّا ـــ إسرائيليّاً مشتركاً لطرد القوّات الموالية لسوريا من لبنان، على أن يعقبها تدخّل لقوّات من الأمم المتحدة. (من تقرير عن اللقاء لوزارة الخارجيّة الأميركيّة ورد في أطروحة غير برغرسون غيز، ص. ١٠٤). لكن إدّة اتهم إسرائيل وسوريا (و”دولاً أخرى”) بنيّتها تدمير لبنان. وخفّف إدّه علناً من لهجته ضدّ أميركا بعد اللقاء، لكنه لم يخفّف ضد إسرائيل. ووصفت الخارجيّة الأميركيّة اللقاء مع إدّه بأنه “غير مثمر”.

(يتبع)

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى