تجربة الهند وأميركا في إدارة علاقات باردة
كشف مؤرخ هندي عن أن حكومة الهند فكرت العام 2003 في المشاركة في الحلف الذي شكلته الولايات المتحدة لشن حرب ضد العراق. قال إن الفكرة طرحت على الولايات المتحدة التي رحبت بها واعتبرتها خطوة استثنائية تدعم الحلف والحرب معاً. لكن لم تمض أيام إلا وسحبت الهند فكرتها من على بساط المفاوضات، وكانت حجتها أن الرأي الغالب بين نخبة السياسة الخارجية الهندية رفض الفكرة واعتبرها خروجا لا يمكن تبريره عن التزام الهند احترام الأمم المتحدة والعمل الجماعي الدولي، واعتناقها مبدأ عدم الانحياز.
جاءت هذه الشهـادة من جانب المـؤرخ الهـندي رودرا شـودري لتؤكـد حقيـقة كدنـا في مصر والعالم العربي ننساها، وهي أن للسياسة الخارجيـة مبادئ، بعضها قابل للتطوير، وبعضها عنيد وصامد في مقاومة تقلبات الأنظمة الحاكمة وصراعـات الأجهزة وجشع جماعات الضغط وصعود الدول وانحدارها. كنا، خلال أيـام قليـلة مـرت الشـهر الماضـي، شهودا على تطور هام في العلاقة بين الولايـات المتحدة والهند، تمثل بالزيارة التي قام بهـا ناريندرا مودي الرئيس الهندي الجديد إلى الولايات المتحدة. التقى رئيسان، أحدهما قادم للتـو من غيـاهب التطـرف الديـني والعنـف السياسـي، متمـتع بشعبية غامرة ومتصاعدة، ومطمئنا إلى سنوات عديدة في الحكم استنادا إلى أغلبـية برلمانـية كبـيرة، وممثلا لدولة أجمعت قطاعاتهـا وتياراتها على حق الهند في أن تصعد إلى مصاف الدول العظمى.
الثاني رئيس يستعد للرحيل، خارج لتوه من فترة تكومت خلالها قرارات سياسية متعثرة الولادة وضعيفة البنية. يقود نظام حكم يسعى بصعوبة شديدة لإقناع بعض قطاعـات وتـيارات بلاده أن أمـيركا على طريق الانحـدار، ولكن تستحق أن تمارس دور الدولة القائد طالما لم يظـهر لتـولي القيادة أو حتى المشاركة فيها، دولة أخرى تستحق هذا الدور ومستعدة لتحـمل مسؤوليـته. قلـيلون بين محللي السياسة الخارجية استـطاعوا سبر أغوار هذه التجربة النادرة وتحليل سلوكيات القائمين عليها، تجربة دولة عظمى اكتشفت عناصرُ في نخبتها الحاكمة حقيقةَ أنها دخلت طريق الانحدار.
الاثنان: الزعيم القادم من التطرف والزعيم الجاهز للرحيل يعرفان حق المعرفة أن سمة الديموقراطية والانتخابات الحرة التي تتميز بهما الدولتان، لم تمنع نشوب خلافات عديدة بينهما على امتداد أكثر من ثلاثة أرباع القرن. وقد بـدا واضحـا خـلال هـذه الزيارة أنه ليس في نية الطرفين التمرد على هذا الوضع، بقدر اتفاقهما على تطويره من دون تغيير معالمه الرئيسية ومنها برودة العـلاقة. يعنى هذا مثلا أن تتنازل أميركا عـن موقفـها المعادي لشخـص رئيس الجمهورية الهندية، وهو الممنـوع منذ سـنوات من دخول أميركا بسبب تسـتره على مجـزرة في ولاية غوغارات التي كان يتولى الحكم فيها. يعني أيضا أن حكومة الرئيـس مـودي لن تتخلى في وقت قريب عن سياستها «السلبية» دوما تجاه الشرق الأوسط، أي لن تخضع لضغوط أميركية تطالبها بالتدخل وسيطا أو حليفا أو مشاركا في أزمات المنطقة.
كانت الهند، وما زالت في ظل حكومة التشدد الهندوسي، حريصة على أن تكون علاقاتها هادئة مع مصادر النفط والغاز على ناصيتَي الخليج، أي ايران والدول العربية الخليجية. هي حريصة أيضا على عدم الدخول في مواجهات «دينية» مع المسلمين خارج شبه جزيرة الهند، فمصالحها في أفغانستان تجعلها حساسة تجاه أي دور سياسي تقوم به في المستقبل يحرمها من فرصة إعادة فرض هيمنتها على أفغانستان، وهي الهيمنة الموروثة عن حكومة التاج البريطاني في القرن التاسع عشر.
يعرف المتابع لشؤون الهند، أن الحزب الذي حمل السيد مودي إلى الرئاسة يعج بتيارات عنصرية ومتشـددة، ولكن أيضا بتـيارات «واقعـية» تريـد إقناع الدول الأجنبية بأن «هندوسـية» الحـزب معتدلة، وأنه يمكن لواشنطن الاعتماد عليهم إن أرادت أن يتحقق في شبه جزيرة الهند استقرار سياسي ونهضة اقتصـادية. لم يكـن مفاجئا أن ترتفع قبل الزيارة أصـوات في أميركـا تحـذر من نوايا الرئيس الجـديد الذي ما زال يعتمد على العناصر الدينية الأشد تطرفاً، وهي العنـاصر التي ترفع شعار «الهند الكبرى»، أي الهند التي تضم نيبال وسيريلانكا وبنغلاديش وباكستان وربما أفغانستان أيضاً، إن سمحت الظروف مستقبلا في روسيا والصـين. هؤلاء يـنادون بأن الهنـدوسـية دين وثقافة وتاريخ ويتعين على العالم الخارجي الاعتراف بها. سمعتهـم وهم يلقنون الشـباب الهندي في الداخل والخارج شعار «الماضي الزاهر طريق المستقبل الزاهر». شعار لا يبتعد كثيرا عن شعارات مماثلة في الشرق الأوسط اهلكت الحاضر والماضي معاً، وتكاد تئد المستقبل وهو في المهد رضيع وضعيف.
كان الرئيس مـودي خـلال الزيـارة واضـحاً في عرض سياسـات بلاده في ظل رئاسـة الهندوسية. أكد انه لن يشارك في أي جهد دولي لـعزل إيـران، ولن يغامر بسياسة نشطة أو ايجابية في الشرق الأوسط حيث ملايين الهنود يعملون أو يعيشون، وحيث الاعصاب مشدودة خاصة بكل ما يتعلق بالأديان. نقل أيضا إلى واشنطن رغبة الهند المتواصلة منح أميركا تأشيرات دخول لشباب من الهنود يريدون أن يتعلموا أو يحصلوا على مهارات معينة، فالتجربة الهندية في هذا المجال كانت ممتازة سواء عندما عاد المبعوثون إلى الهند أو استوطنوا الخارج. راح أيضا يطالب بتعاون سلمى نووي. فهو يعرف، مثلما عرف الإيرانيون، أن التقدم العلمي لن يتحقق بالسرعة الواجبة إلا عن طريق خبرات وتجارب في حقل العلاقات النووية. وفي النهاية، لم يختلف الرئيس الهندي عن أي رئيس من دول الجنوب يزور أميركا، حين أصر على أهمية بيع السلاح المتقدم إلى الهند.
أتصور أن النجاح الذي حققه منظـمو احتفال الجالية الهندية في أميركا بالرئيـس مـودي في ميـدان ماديـسون بنيويـورك، يعنـي أمورا كثيرة ليس أقلـها شأنا، تأكـيد ما تردد من قبل عن أن الهنود لجأوا إلى الخبرة الإسرائيلية في تشكيل جماعات ضغط مواليـة لإسـرائيل، تعتمـد أسـاساً على الجالية اليهودية ولكن أيضا على الشركات الكبرى والأفراد من أصحاب المصالح في الشرق الأوسط ومتخصصين أكاديميين وعسكريين متقاعدين.
نجاح الاحتفال تنظيما وحضوراً يعنى أيضاً أن روحا جديدة تهيمن الآن على أبناء الجالية الهندية في الغرب عموما وأميركا خصوصا، وبما يعني أن حكومة مودي استطاعت أن تكسب ثقة الهنود في الخارج في أن تفلح في استعادة «كرامة» الإنسان الهندي في الداخل، وبالتالي كرامة الهندي في الخارج، وانها سوف تنقل الهند اقتصاديا وثقافيا من حال فساد طاحن وفوضى اخلاقية وانهيار في القيم إلى حال مختلف.
قد لا يكون ناريندرا مودي الزعيم الذي يتمناه «الثوريون العرب» رئيسا للهند في الظرف الانتقالي الراهن في الشرق الأوسط بسبب تطرفه الديني، ولكن المؤكد أنه نجح في عرض نفـسه نموذجـا لحاكم دولة كـبيرة من دول الجنـوب الناهـض يرتدي قميصا بسيطا من القطن، ولا يأكل إلا في ما ندر، وغير فاسد. حاكم قرر أن يعتنق مبادئ في السياسة الخارجية كانت من الأسس التي رفعت الهند وغيرها ذات يـوم إلى مـواقع الـتأثير والنفوذ في عالم السياسات الدولية. أتصور أن الفضل هنا، أي في قرار مودي التمسك بمـبادئ مـوروثـة فـي صنع السياسة الخارجية، يعود إلى صلابة وحكمة النخبة الإدارية الهندية التي ما زالت تؤكد بين الحين والآخر قدرتها على أن تفرض بعض تقاليدها وخبرتها على حكام الهند أيا كانت خلفياتهم.
صحيفة الشروق المصرية