إعادة مصر إلى الجمهورية الأولى (يزيد صايغ)

 

يزيد صايغ

بات في حكم المؤكّد أن يصبح وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي، الذي تمت ترقيته إلى رتبة مشير، رئيس مصر المقبل في الانتخابات المقرّر أن تجرى في غضون شهرين من الآن. فقد دفع صعوده السريع من رئيس للاستخبارات العسكرية برتبة لواء قبل ثمانية عشر شهراً فقط، ومناشداته المؤثّرة للجمهور المصري منذ الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في 3 تموز (يوليو) 2013، بالكثيرين إلى تشبيهه بجمال عبدالناصر، المقدم الشاب الذي لعب دوراً محورياً في الإطاحة بالنظام الملكي وإقامة الجمهورية الأولى في مصر في العام 1952، قبل أن يصبح رئيساً في استفتاء أجري في العام 1956.
وبالتالي يبدو تثبيت السيسي باعتباره رمزاً وطنياً من طراز عبدالناصر أمراً مضموناً. وبما أن الجيش رشّحه بصورة رسمية وأعلن الكثير من المرشحين المحتملين أنهم لن يخوضوا الانتخابات ضدّه، سيصبح السيسي رئيساً بما يرقى إلى التزكية، بدلاً من إجراء انتخابات تنافسية حقيقية. وبينما شبّه رئيس الوزراء حازم الببلاوي السيسي بديغول أو أيزنهاور عصري، أعلن وزير الخارجية السابق والمرشح السابق للرئاسة عمرو موسى أن رئاسة السيسي من شأنها أن «تمهّد الطريق لدولة مدنية تقوم على الحقوق والحريات».
كما ألمح موسى إلى مقارنة تاريخية مع عهد عبدالناصر، عندما أضاف أنه في عهد السيسي، «ستبدأ الجمهورية الثالثة في مصر». بيد أن مصر لم تستكمل حتى الآن عملية الانتقال إلى الجمهورية الثانية في مرحلة ما بعد مبارك. فقد تم إفشال هذه العملية بسبب الضعف والانقسامات التي عانت منها الأحزاب المتنافسة بعد شباط (فبراير) 2011، والإدارة الفاشلة وغير الكفية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تولّى الحكم فترة الخمسة عشر شهراً التالية من المرحلة الانتقالية، وعدم قدرة قيادة «الإخوان المسلمين» ومرسي في السنة التالية على فهم حقيقة أن الديموقراطية الوليدة تتطلّب بناء توافق حقيقي، وأخيراً بسبب تدخّل الجيش في تموز (يوليو) 2013.
بدل أن تستكمل طريقها إلى الجمهورية الثالثة، ها هي مصر تسير في الاتجاه المعاكس، وتعود إلى الجمهورية الأولى. فالخطاب الشعبوي حاضر بقوة، حيث وصف المجلس الأعلى للقوات المسلحة في بيانه الصادر بتاريخ 27 كانون الثاني (يناير) ترشيح السيسي بأنه تفويض تم بناءً على طلب «الجماهير». إن اختيار مصطلح «الجماهير» يشير إلى الابتعاد عن الشعار القوي «الشعب يريد …» الذي كان سمة بارزة في انتفاضة 25 يناير. وبدلاً من أن يعيد التشديد على مفهوم الإرادة السيادية للشعب، التي هي في صلب الديموقراطية، عمد الجيش إلى استبداله بمصطلح «الجماهير» الفضفاض وغير المتجانس.
ويبدو واضحاً أن هذا التصرّف من جانب الجيش يمثّل لفتة مقصودة وردّة إلى عهد عبدالناصر، غير أن النتيجة التي ترتّبت على ذلك تمثّلت في إضعاف الحياة السياسية والمجتمع المدني من دون تعزيز الأداء الإداري أو الاقتصادي للدولة.
قد يدّعي السيسي أن له صلة مباشرة مماثلة مع الشعب، إلا أنه يواجه الطريق السياسي المسدود نفسه. وتقتصر حاضنته الاجتماعية الأساسية على تحالف مؤسّسات الدولة – وهي أيضاً أداته السياسية الوحيدة – التي دعمت تسلّمه السلطة: الجيش ووزارة الداخلية والقضاء والدوائر العليا في جهاز الخدمة المدنية. فقد سعى عبدالناصر مراراً وتكراراً لاستكمال اعتماده على مؤسّسات الدولة من طريق خلق أداة سياسية لتعبئة الجماهير، ولكن كل جهوده باءت بالفشل، ابتداء بهيئة التحرير، ثم الاتحاد القومي، وأخيراً الاتحاد الاشتراكي العربي.

لقد جمع السيسي خليطاً من الشركاء السياسيين أمكن من خلاله تشكيل حكومة حازم الببلاوي في منتصف تموز (يوليو) 2013، بيد أن هذا التحالف يظل غير متناسب مثلما كان حال مجلس قيادة الثورة الذي أنشأه تنظيم «الضباط الأحرار» كي يحكم مصر بعد توليه السلطة عام 1952. إذ خسر المجلس، الذي جمع الليبراليين أنصار حرية السوق و «الإخوان المسلمين» والشيوعيين، مكوّناته الرئيسة الواحد تلو الآخر، إلى أن التهمه جمال عبدالناصر ودمّره من الداخل بصورة نهائية في العام 1956-1954.
تمثّل حكومة الببلاوي، بطريقة مماثلة، التقاءً متنافراً لأجندات سياسية ومطالب اجتماعية واقتصادية. وقد تمكنت حتى الآن من التغطية على الخلافات التي تعصف بها من خلال رفع الأجور والإعلان عن استثمارات وإصلاحات جديدة لجذب رؤوس الأموال الأجنبية، غير أن هذا لم يكن ممكناً إلا بفضل 12 بليون دولار من المساعدات المالية والاقتصادية التي قدمتها بلدان عدة من مجلس التعاون الخليجي. ووعدت تلك البلدان بتقديم مساعدات إضافية، لكنها لن تستمرّ في دعم عجز الموازنة والعجز التجاري في مصر إلى أجل غير مسمّى.
تعرّضت مصر للموقف نفسه في منتصف سبعينات القرن الماضي عندما سعى الرئيس المصري آنذاك، أنور السادات، للحصول على مساعدات خليجية بهدف الحفاظ على جهاز الدولة المتضخّم والجيش والمؤسّسات الاقتصادية المملوكة للدولة. في نهاية المطاف، لجأ السادات إلى الولايات المتحدة حيث استخدم اتفاقات كامب ديفيد مع إسرائيل كأداة لضمان تدفّق المساعدات الأميركية بصورة دائمة، ولكن لا تقدم الولايات المتحدة المعونة المباشرة للموازنة أو لدعم الأسعار ولم تعد تمثل مساعداتها سوى نسبة صغيرة من إجمالي الناتج المحلي المصري. فلا تتوافر للسيسي مصادر جديدة يمكنه اللجوء إليها عندما تتباطأ المساعدات الخليجية غير المشروطة أو تتوقف تماماً.
كما أنه لا تتوافر للسيسي الخيارات التي كانت متاحة لعبدالناصر، الذي كان البحث عن رؤوس الأموال هو الدافع الأساس وراء تقلباته الحادّة والمفاجئة على صعيد السياسات الاقتصادية الجديدة. وقد تجلّى ذلك في قوانين الإصلاح الزراعي بعد العام 1952، وحملة التمصير في أواخر الخمسينات، وقوانين التأميم الاشتراكية في العام 1961، بدعم رئيسي من الاتحاد السوفياتي. بيد أن هذه الجرعات من الرأسمال لم تحُلْ دون وقوع مصر في أزمة مالية حرجة في العام 1965.
وفي طبيعة الحال، فإن المشاكل البنيوية العميقة التي تعاني منها مصر لا تزال مستمرة إلى اليوم. إذ تسارعت وتيرة الطفرة الاقتصادية التي شهدتها البلاد بعد العام 2000، في العقد الأخير لحكم مبارك، بسبب المضاربات العقارية وأعمال البناء، لكن لم تواكبها زيادات مماثلة في الإنتاجية أو الكفاءة. وقد وصف معهد التمويل الدولي في أحدث تقرير له حول آفاق الاقتصاد المصري التوقّعات الاقتصادية على المدى الطويل بأنها «غامضة وتنطوي على مخاطر سلبية كبيرة». ولن تنتهج حكومة الببلاوي – أو أي حكومة مستقبلية – سياسة ردّاً على ذلك سوى أن تعمّق أجندة اقتصادية ليبرالية جديدة، غير أن هذا يضايق مصالح أو تطلّعات جمهور أنصار السيسي في دوائر الدولة ومؤسّساتها.
ومع ذلك، فإن القيام بإصلاحات عميقة لإدارات الدولة الضخمة وللشركات التي تملكها أمر ضروري، ومعه أيضاً دمقرطة مجمل هياكل الحكم المحلي. وذلك ليس من أجل ضمان الحصول على الدعم الخارجي وجلب الاستثمارات وحسب، وهي الوصفات الجوهرية في السياسات الليبرالية الجديدة، بل أيضاً لتخفيف الثقل الشديد للإرث السلطوي البيروقراطي على الحياة السياسية والاقتصادية.
لا تسعف هنا حقيقة أن لا السيسي ولا المجلس الأعلى للقوات المسلحة يمتلكان رؤية اقتصادية للبلاد، على عكس الجيش التركي، يصوغان بموجبها ادعاءهما بحقهما وواجبهما في إدارة دفّة الأمور سياسياً وإدارياً. فقد خطّط الجيش التركي، بعد الانقلاب الذي قام به في العام 1980، لإعادة السلطة إلى الأحزاب المدنية المنتخبة ديموقراطياً، ووضع ذلك حيّز التنفيذ في العام 1983. في المقابل، هناك مخاوف من ان تتحول القوات المسلحة المصرية الى صانع للرؤساء، مما يوقع الجيش في فخّ الالتزام بدعم الرئيس، وربط مصيره بحلول مستعصية لا يقدّم أي أجوبة حقيقية لها.
في ظل هذه الظروف، ستواجه مصر استقطاباً سياسياً ومجتمعياً يمتدّ لفترة طويلة مقبلة. غير أن الأسوأ هو أن البلاد تعاني من تآكل ملحوظ في الشرعية الدستورية. فقد تبنّت ثلاثة دساتير في ثلاث سنوات، والكثير من الإعلانات الدستورية، إلا أن أياً منها لم يحلّ حاجتها للانتقال الكامل إلى حياة سياسية ديموقراطية حقاً. وعلى رغم إرث الدولة القوي الذي تتمتّع به، يبدو أن مصر بدأت تنضم إلى مجموعة الدول العربية – بما فيها لبنان والعراق وسورية وليبيا واليمن وفلسطين – التي فقدت الحدّ الأدنى من التوافق المجتمعي على المرجعية الدستورية التي توفّر الآليات والإجراءات اللازمة لتسيير العملية السياسية بشكل سلمي ومضمون.
مهما قال خصومه، ربما لم يكن السيسي ينوي أن يصبح رئيساً منذ البداية. بل يبدو أنه خطط ليجعل من نفسه صانع القرار السياسي الأهم خلف الرئاسة. إلا أنه قام في كل مرحلة باتّخاذ خطوات أدّت إلى تضييق خياراته في المرحلة المقبلة، ولا يمكنه التراجع الآن. وقد أظهر السيسي قدرة على تقليد بريق سلطة عبدالناصر. ومن الواضح أنه مناور بارع وحذر على المستوى التكتيكي، ولكن التساؤلات تدور حول قدرته على رسم أو توقّع نقاط الالتقاء التي ستجبره الديناميات الاجتماعية والاقتصادية والمؤسّسية عندها على الكشف عن نياته.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى