لماذا نُناشِد سعد الحريري الأخْذ بنَصيحَة السيِّد نصر الله بأسْرعِ وَقتٍ مُمكِن وقَبل فَوات الأوَان بشَأن مُقاطَعَتِه سورية؟

لم يَكُن الأمين العام لحِزب الله السيد حسن نصر الله مُتواضِعًا فقط، بل حَكيمًا أيضًا، عندما لم يَنزَلق إلى المُهاتَرات، ويَرُد بقُوّةٍ على السيد سعد الحريري، رئيس وزراء لُبنان المُكلَّف، الذي أغلَق كُل الأبواب أمام أيِّ عَودَةٍ للعَلاقات بين لُبنان وسورية في رَفضٍ صَريحٍ واستفزازيّ لكُل المُطالبين بتَضمُّن البَيان الوزاريّ للحُكومة تأكيدًا على عَودَة العَلاقات مع الجارِ والشَّقيق السُّوريّ.

السيد نصر الله كان مُصيبًا، وقارِئًا جيّدًا للسَّاحة السياسيّة اللبنانيّة، بَل وشخصيّة السيد الحريري نفسه، عندما طالَبه، في خِطابِه الذي ألقاهُ أمس في ذِكرى انتصار حرب تموز (يوليو) عام 2006، بل نَصحَه، ودُون أن يُسمّيه، بأن لا يُلزِم نفسه بمَواقِف قد يتراجَع عنها في المُستَقبل القريب، في إشارةٍ واضِحةٍ إلى رَفْضِه أيَّ تقارُبٍ مع سورية.

في عِلم السِّياسة، لا مَجال للعِناد الشَّخصيّ، والتَّقيُّد بمَواقِف افتراضيّة إلزاميّة، خاصَّةً عِندما يكون السِّياسي يعيش في مِنطَقةٍ سَريعة المُتغيّرات مِثل الشرق الأوسط، وبَلدٍ مِثل لُبنان تَحديدًا، فالواقعيّة، أو البراغماتيّة السياسيّة، لا تَقبَل بأحكامِ إغلاق الأبواب، والمَصالِح تتغيّر وكذلك مَواقِف السِّياسيين.

لا نَعرِف على ماذا يُراهِن السيد سعد الحريري عندما يقول في لِقاءٍ مع الصِّحافيين في دارَتِه أنّه يَرفُض بشِدَّةٍ عَودة العلاقات بين لبنان وسورية، ويَذهَب إلى ما هو أبعَد من ذلك بتَشديدِه، بنَزَقٍ مَلحوظٍ، أنّ هَذهِ المَسألة “أمْرٌ لا نِقاش فيه”.

ربّما نَفهَم لو أنّ السيد الحريري اتَّخَذ هذا المَوقِف قبل خَمسِ سَنواتٍ مَثلاً، عندما كانَت الحُكومة السوريّة مُحاصَرةً في دِمشق، ولا تُسيطِر على مُعظَم أراضيها، وتُواجِه مُؤامَرةً لإسقاط دَولتها ورئيسها، تُشارِك فيها 60 دولة على رأسِها الولايات المتحدة الأمريكيّة ومُعظَم الدول الأُوروبيّة والخليجيّة، ولكن أن يتَّخِذ هذا المَوقِف “المُتغَطرس” الآن، في وَقتٍ تَستعيد فيه الدولة السوريّة عافَيتها، وسِيادَتها على أكثرِ مِن 85 بالمِئة من أراضيها، فهذا أمرٌ يتَنافى مع المَنطق والعَقل مَعًا، ولا نُريد أن نقول أكثَر من ذلك.

المُؤامَرة التي كانت تَستهدِف سورية ووحدتها الترابيّة والديموغرافيّة فَشِلت، وكذلك حال كُل المُنخَرطين فيها، وباتَ طابور الذين يُريدون إعادَة فتح سفاراتِهم في العاصِمة السوريّة دِمشق طَويلاً جِدًّا، ويَصِل إلى بيروت، ونَستغرِب أن السيد الحريري لا يَعرِف هَذهِ الحَقائِق التي لا تَغيب عن ذِهن أصغَر تلاميذ السِّياسة في لُبنان.

المِحوَر الذي يُراهِن عليه السيد الحريري انهزَم وباتَ يَلعَق جِراح هزيمته، وبَدأ أعضاؤه يَنسَحِبون من المَشهد الواحِد تِلو الآخر، وعلى رأسِ هؤلاء المملكة العربيّة السعوديّة التي أنفَقت مِليارات الدولارات في الحَرب السوريّة، وبَدأت لَهجة الإعلام السُّعودي تتغيّر مِئَة وثمانين دَرجةً تقريبًا تُجاه سورية، ولم يَعُد وزير خارجيّتها السيد عادل الجبير يَتلفَّظ باسْمِها، ناهِيك عن ترديد عبارته المَشهورة بأنّه يَجِب على الرئيس الأسد أن يرحَل سِلمًا أو حَربًا، والحالُ نَفسه يُقال أيضًا عن دولة قطر، ويَكفي الإشارة إلى قناة “الجزيرة” التي بَثَّت خِطاب السيد نصر الله حَيًّا على شاشَتها أمس، فمَن كان يَتوقَّع هذا قَبل عام؟

السيد الحريري يَنسَى، أو يتَناسى، مَجموعةً من الحَقائِق، أبرزها أن ثلاثة أرباع الشَّعب اللُّبناني تقريبًا، بِما في ذلك التَّحالُف الثُّلاثي الأقوَى في البِلاد الذي يَضُم “حزب الله” وحركة “أمل” و”التيّار الوطني الحر” مع عَودة العلاقات مع سورية وفي أسْرعِ وَقتٍ مُمكِن لاعتباراتِ التَّاريخ والجُغرافيا والمَصير المُشتَرك، وثانيها أنّ هُناك مِليون مُواطن سوري في لُبنان، أي رُبع السُّكّان تَقريبًا، إن لم يَكُن أكثَر، وثالِثها أنّ حاجَة لُبنان إلى سورية القَويّة المُتعافِية أكبَر بكَثير من حاجَتها إليه، سِياسيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا أيضًا.

لُبنان يَحتاج إلى سِياسيين وقِيادات يَمْلِكون رؤيةً بعيدة ويَضعون على قِمّة أولويّاتِهم إخراجه من هَذهِ الأزَمَة، وتَشكيل حُكومة تَوافُق في أسْرعِ وَقتٍ مُمكِن، ويبدو أنّ السيد الحريري ليس من بين هَذهِ الفِئة، ومَواقِفه هَذهِ تَصُب في خانَة “تأزيم” الأزَمة، وإطالَة حالة الشَّلل السِّياسيّ التي تَعيشها البِلاد، وليس البَحث عن حُلول.

لم نَسمَع أنّ سورية وَجَّهت دَعوةً للسيد الحريري لزِيارَتها حتى يقول للصِّحافيين قبل أُسبوعَين، “بأنّه مِن المُستحيل أن يزور سورية لا فِي وقتٍ قَريبٍ أو بَعيد، حتّى وإن انقَلَبت كُل المُعادَلات، وإذا اقتَضت مصلحة لُبنان هَذهِ الزِّيارة فابْحَثوا عن شَخصٍ غَيري”، ونَعتقِد أنّ حالةَ ضَبط النَّفس التي تتمتَّع بِها القِيادة السوريّة، وتَحول دُونَ الإقدام على رَدٍّ مُفحِم على هَذهِ الأقوال الاستفزازيّة لن تَطول.

مَصلَحة لُبنان وأزَماتِه الاقتصاديّة (الدين العام زادَ عن مِئة مِليون دولار ورائِحَة أكوام القُمامة تَزْكُم الأُنوف)، يَتطلَّب وجود رئيس وزراء يتحلَّى بأعْلَى قَدَرٍ مُمكنٍ من المَسؤوليّة ويكون وَلاؤه للُبنان فقط، ويَحتَكِم إلى مُؤسَّساتِه وإملاءاتِ شَعبِه، ويَعرِف كيف يتعاطَى مع المُتغيّرات المَحليّة والإقليميّة والدوليّة بدِرايةٍ وحِنكةٍ، ونَشُك أن هَذهِ المُواصَفات تتوفَّر في السيد الحريري، بالقِياس إلى مَواقِفه المُعلَنةِ هَذِه”

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى