تفاصيل صغيرة تليق بحضرة الحرب
منذُ أن حلّتِ الحربُ أولى جدائلها، وأنا أرتبُ تفاصيلي الصغيرةَ كما يليقُ بهذه العروسِ الفاتنة ..
في البدء ارتديتُ ثياباً واقيةً من الرصاص، فلا شيء اتقيهِ إلا الرصاص، أما البرد ُ فأنا أجبنُ من أن احتالَ عليه، يهزمني مع أولِ زخةِ مطر ، ومع أولِ إنذارٍ يبشرُ بقدوم العاصفة ..
لاحقاً تناولتُ طعامي بأطباق معدنيةٍ خالصة، واحتسيتُ ” مشروبَ الطاقةِ ” بطاسِ الرعبةِ النحاسيّة ، وذلكَ بعد أن أنفقتُ كلّ ما جنيتُهُ طيلةَ غارتينِ على الزجاج ، والقلبُ حافٍ كعادةِ القلوبِ في زمانِ الحرب ، فضلاً عن خوفي من كلّ شيءٍ قابلٍ للكسر ..
واظبتُ كلَّ صبحٍ على إعادةِ كتابةِ وصيتي الصغيرة ، وصيتي الصغيرةِ جداً :
( إذا مُتُّ بتهمةٍ مجهولةٍ، فلتدفنوني يميناً إلى جانبِ قبرِ أبي .. أما إذا مُتُّ بقذيفةٍ مجهولةٍ ، فلتدفنوني يساراً – حيثُ القلب – إلى جانبِ قبر أمي .. ولتضعوا على قبري زهورَ البيلسان بدلاً من تلك الزهور التقليدية التي تشبه إلى حدّ ما زهورَ الدفلى ، هذا إنْ وجدتُم مساحةً تليقُ بقبري وعفونة جسدي ..)
ثمّ وبعدَ أن وجدتُ جداراً شاغراً ،جداراً صغيراً أعلقُ عليهِ كلّ خبراتي العلمية ، قمتُ على الفور بإماطةِ الأذى عن الطريقِ المؤديةِ إلى عملي الجديد كـ” بائعٍ للخبز ” .. لقد أزلتُ من طريقي هذه كلّ الحجارةِ بحجميها الكبير والمتوسط .. أزلتُ كذلك ركامَ المنازل التي دمرتها طائرة السوخوي الحمقاء .. أزلتُ كلّ ما يمكنه أن يُؤذي نعومة جسدي وأظافري ، فأنا حقيقةً لا أعرفُ اللحظةَ التي سأغدو فيها انبطاحياً وراقصاً ماهراً فيما يُسمى بــ ” الدبكة العامرة ” ..
عوّدتُ روحي على الأشياءِ المفتوحةِ على مصراعيها دوماً ، ففي الحربِ لا يمكنكَ أن تتركَ شيئاً مغلقاً إلا أنت .. نوافذُ المنزلِ هرباً من الصدمةِ الأولى ، علبةُ الإسعافِ الأولي استعداداً لأولِ نزيف ، حقيبةُ الثيابِ تحضيراً لنزوحٍ سريع ، الأوراقُ الثبوتية لحاجزٍ طيّارٍ ، خارطةُ المفاهيمِ أمامَ أولِ تغييرِ في المصالح ..
أخيراً ، تحضرتُ لأيّ موتٍ محتمل ، استأجرتُ منذُ ريحٍ عتيقةٍ خيمةً للعزاء ، وأعددتُ القهوةَ المرّة كبديلٍ دوريٍّ عن الشاي ، ارتديتُ الأسودَ مع كلّ كرنفال ، وتمرنتُ كثيراً على البكاءِ مع انعدامِ الرغبة ، وبكيتُ حقاً .. ” الموتُ ليس صديقي ، لكني أعتدتُ عليه ، اعتيادي على محصّلِ الضرائبِ وجابي الماء ” يقول صلاح الحسن شريكي في ذاتِ الحرب .. استعرتُ من حزننا الطويل عباراتٍ بسيطة ، وظّفتها في خدمة ِ الفرح ، وفرحتُ مجازاً كعادة الشعراءِ في بلادٍ يتحولُ الموتُ فيها إلى حفلِ زفاف .. ومارستُ رغماً عن أنفِ البندقية جريمةَ الأحلام .