تقنيات سينمائيّة تعبر إلى «إنترنت المستقبل»: ما هي؟
الأرجح أنّ الصرخة التي أطلقها الممثل البريطاني ستيفن فراي بضرورة تبني التقنيات المتطوّرة وتجاوز حاجز الخوف من التقدّم التقني صوب مرحلة «إنترنت المستقبل» Internet of Future، تصح أكثر ما يكون في فن السينما. وعلت تلك الصرخة في سياق كلمة ألقاها فراي ضمن «مهرجان هاي فراي للفنون والآداب» الذي استضافته مقاطعة «ويلز» البريطانية أخيراً. (أنظر «الحياة» في 30 أيار- مايو 2017). وإضافة إلى كونه ممثلاً كوميديّاً، يشتهر فراي (مواليد 1958) بكونه كاتباً ومقدماً لبرامج تلفزيونيّة وناشطاً اجتماعياً وسياسيّاً، بل يترأس مؤسّسة «مايند» (الدماغ) التي تولي أهمية كبيرة لمعطيات التقدّم في التقنيات المعاصرة التي تتطوّر بسرعة مستندة إلى قوة التطوّر في الذكاء الاصطناعي للكومبيوتر وشبكات الاتصالات المتطوّرة.
وفي كلمته، خلص فراي إلى ملاحظة مفادها أن عالم السياسة يسير بطيئاً مقارنة بتقنيات الذكاء الاصطناعي المنتشرة في الحياة اليوميّة للناس.
العودة إلى «الفأر المجنون»
ملاحظة فراي تكتسب أبعاداً أخرى، إذا وضعت تحت مجهر آخر: سرعة التفاعل بين تقنيات السينما من جهة، والتقنيات المتقدّمة في المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة.
ومن دون مجازفة كبرى، من المستطاع القول إن لا مساحة تعبّر عن التفاعل الفوّار بين الفن السابع والتقنيات الذكيّة للكومبيوتر، أكثر من… «ميكي ماوس»! واستطراداً، جاءت كلمة الممثل فراي قبل أيام قليلة من احتفال شركة «ديزني» للرسوم المتحرّكة بالذكرى 83 لولادة شخصيّة «دونالد داك» التي تشارك «ميكي ماوس» في الشهرة أيضاً (أنظر «الحياة» في 6 حزيران- يونيو 2017).
يقترب الفأر المجنون «ميكي ماوس» حثيثاً من تسعيناته، لكنه يبقي طفلاً. ويصح القول أيضاً أنّه تحوّل كثيراً وتبدّل، لكنه استطاع أن يبدّل تقنيات السينما والتلفزة، بل فنوناً أساسيّة في صنع المحتوى البصريّ كلّه.
في البداية، لم يستطع فيلمان سينمائيان صامتان («الخطة المجنونة» و «غالوبان غوشو») استيلاد شخصية «ميكي ماوس» في المخيلات عام 1928. واقتضى الأمر تدخّل التكنولوجيا لكي تُنجز تلك الولادة الأسطورية. وفي تلك السنة عينها، استخدم مُبتكر أفلام الكارتون والت ديزني (احتفل العالم بمئوية ولادته في كانون الأول- ديسمبر 2001) تقنية الصوت في إخراج فيلم «المَركب البُخاري ويلي»، الذي أطلق «ميكي ماوس» إلى العيون ليصبح الشخصية الخياليّة غير البشرية الأولى في الفن السابع. ومن نجاحه، انطلقت أفلام الكرتون وشخصيات «ديزني» ثم حدائقها التي راجت عالمياً. ومع ثورة المعلوماتيّة وتقنياتها، ولدت أنسالاً لفأر الرسوم المتحرّكة التوهيميّة. وتحديداً، ابتكرت التكنولوجيا الرقميّة أفلام الإحياء بالكومبيوتر («كومبيوتر إنيماشين» Computer Animation Films) التي أغنت الترفيه الإلكتروني وألعابه، وهي أيضاً طوّرت الفن السابع نفسه بطريقة جذرية.
عودة الديناصور وغياب الممثل البشري
في تلك المساحة، وصل الأمر إحدى ذراه الشاهقة مع فيلم «بيوولف» Beowulf الذي صنعه في 2007 المخرج روبرت زيميكيس الفائق الشغف بأشرطة الخيال العلمي وتقنياتها، وهو اشتهر بسلسلة أفلام «جيوراسيك بارك» المتمحورة حول أخيلة الديناصورات المتنوّعة. وصنع زيميك شخصيات «بيوولف» بأسلوب المحاكاة الافتراضية الثلاثية الأبعاد، وبالاستغناء عن البشر (الممثلين) إلا في… الصوت! وآنذاك، بدت الأمور كأنها دارت دورة لولبيّة شبه كاملة لأنها عادت إلى نقطة أعلى كثيراً في التقنية والفن، لكنها ذكّرت بكثافة بنقطة انطلاق تلك التقنيات: «المركب البُخاري ويلي».
وبتأمّل مترابط لمسار التقنيات البصريّة، يغدو ممكناً القول أنّ «ميكي ماوس» هو شخصية سينمائيّة لم يمثّلها جسد إنساني، بل صُنِع بالرسوم التي تُخطّ بالقلم على الورق، إضافة لكونه شخصية خياليّة محضة. وسواء بالمعنى التقني الضيّق أو بالمعنى الفكري الأوسع، فإن «ميكي ماوس» لم يظهر بولادة رقمية والأهم أنه ليس افتراضياً بالمعنى الذي يحمله مفهوم الافتراض «فيرتشيوال» Virtual الذي يقف في القلب من أعمال الكومبيوتر. وربما يطول النقاش عن الفارق بين الخيالي والافتراضي، ويكفي القول هنا أنهما عالمان مختلفان بأكثر حتى من الفارق بين الفيلم الروائي وأشرطة الرسوم المتحرّكة.
ويلفت أيضاً أن هناك شخصيات خياليّة للرسوم المتحرّكة ولدت بلمسة نسوية» «سندريلا» في عام 1922، ثم «آليس في بلاد العجائب» في العام نفسه.
إذاً، من المستطاع القول أنّ الرسوم المتحرّكة من صنع الخيال المحض، واستقت أفلامها الطويلة الأولى من حكايات الأطفال («الجميلة والوحش» 1959، و «كتاب الغابة» 1942، و «مئة كلب وكلب دلميشين» 1961…)، وصنعت برسوم الخيال ونُفّذت بشخصيات خيالية يُعتبر «ميكي ماوس» رمزاً مكثّفاً لها. وبفضل تضافر تلك العناصر التي تجمع الخيال والتقنية سويّة، استطاعت مساحة الترفيه الطفولي المرئي- المسموع أن تتمدّد عبر شاشات السينما والتلفزيون (ثم الكومبيوتر والهاتف الذكي) منذ قرابة 9 عقود. وترافق ذلك أيضاً مع تحوّل الأشرطة من الأبيض والأسود إلى الملوّن. ونمت أجيال على ذلك الخيال الذي صنع جسراً بين الأجداد والأحفاد، بل لربما ربط أجيالاً مقبلة أيضاً.
الفأرة والأرنب والسينما
ينافس الأرنب الشهير «روجر رابت» الفأر «ميكي ماوس» في الشعبيّة والانتشار والترسخ في المخيلات العامة للترفيه البصري. ولعب دوراً مهماً في الرسوم المتحرّكة وعلاقاتها المتشابكة مع الكومبيوتر.
وفي العام 1988 ظهر شريط «من نصب مكيدة للأرنب روجر» Who Framed Roger Rabbit، وصنعه المخرج روبرت زيميكس الذي أخرج بعده بعقدين تقريباً فيلم «بيوولف»! واستخدم فيلم «من نصب مكيدة للأرنب روجر» شخصية من أفلام الكرتون وجعله يمثّل بين ممثلين بشر. وحينها، حدس كثيرون أنهم بصدد تحوّل نوعي في الفن السابع وتقنيات المحتوى البصري كلها.
ويمكن الاستمرار في الاستعارة للقول أن الحاسوب أطاح بذلك البطل الذي قاد الانقلاب أيضاً، كما هو مألوف في انقلابات البشر وثوراتهم. إذ ضحى الكومبيوتر بالأرنب الخيالي (بعد «قتله» الفأر الخيالي) ليصنع فناً جديداً هو الأشرطة المصنوعة بالتقنيات الافتراضيّة للكومبيوتر.
واستطاع ذلك النوع المستجد من فن الرسوم المتحرّكة الدخول إلى صلب الفن السابع، بل أشّر عليه رمزياً منافسة فيلم «حورية البحر» (1989) لأفلام البشر، وهو نال جائزة أوسكار أفضل موسيقى وغناء، إضافة إلى نيله جوائز مسابقات «غرامي» و «غولدن غلوبس» عن تلك الفئة أيضاً.
وكرّست أفلام الإحياء بالكومبيوتر مكانة شركات معلوماتية متخصصة في التقنيات الرقميّة متّصلة بصنع المحتوى البصري، كشركة «بيكسار» Pixar التي أطلقت تقنية الإحياء المُجسّم بالكومبيوتر عبر فيلم «توي ستوري». وصنعت تلك الشركة مجموعة من الأشرطة الإحيائيّة التي نالت أوسكارات سينمائية كـ «توي ستوري» الذي نال أوسكاراً عن مؤثراته الخاصة، و «مونسترز» (2001). ونجح شريطها «البحث عن نيمو» (2003) في التأشير على اعتراف هوليوود بخصائص تلك الأفلام بوصفها فناً نوعيّاً خاصاً، بأنّ نال أوسكاراً استُحدث آنذاك خصيصاً لتلك الفئة. وبعدها، سجّل شريط «انكريدابلز» (2004) أنه رُشّح لأربع جوائز أوسكار!
وفي العام 2006، تكرس الزواج بين أفلام الكرتون وأشرطة الإحياء المُجسّم بالكومبيوتر. وبدا أن الفأر «ميكي ماوس» حقّق أخيراً نصراً كبيراً على الحاسوب الذي بدّله وغيره مراراً. إذ اشترت شركة «ديزني» (التي كرّسته بطلاً للخيال في رسوم الوهم ثم في افتراضية الكومبيوتر) شركة «بيكسار» وأدمجتها في استوديواتها.
ما هي أشرطة الإحياء بالكومبيوتر؟
مع التقدّم في تقنيات الكومبيوتر، ظهرت أفلام الكرتون من النوع الذي سُميّ «الأفلام الإحيائية بالكومبيوتر» Computer Animated Films التي تألّقت بين أواخر القرن العشرين وبدايات القرن 21. ووصلت إلى العالم العربي عبر أفلام كـ «كتاب الغابة» و «الملك الأسد» و «حورية البحر» و «أنتز» و «بونوكيو» و «مولان» و «علاء الدين» وغيرها. وترافقت تلك الموجة مع تصاعد دخول الكومبيوتر ومؤثراته وتقنياته وأفكاره إلى السينما، بطرق يصعب حصرها. ولا بد من توضيح مفاده أنّ التعريف الدقيق لمصطلح «أفلام الإحياء بالكومبيوتر» ينطبق على تلك الأشرطة التي تصنع شخصياتها بالأبعاد ثلاثية المُجسّمَة تحديداً، بل إنّ ذلك ما يصنع الفارق الذي يميّزها عن أفلام الكرتون التي يُستَعمَل الكومبيوتر في تطوير مشهدياتها وبصرياتها ومؤثراتها.
في مثل توضيحي، ثمة فارق قوي بين فيلم «توي ستوري» Toy Story الذي ينطبق عليه التعريف الفعلي لفيلم الإحياء المُجسّم بالكومبيوتر، وبين «حورية البحر» Mermaid الذي هو فيلم كرتون استُعمل الكومبيوتر في تدعيم مشهدياته.
ولذا، يُنظر إلى «توي ستوري» (صنعه المهندس المعلوماتي والمخرج جون ليسستر في شركة «بيكسار» Pixar وأُطلق في 22 تشرين الثاني- نوفمبر 1995) باعتباره أول فيلم إحياء بالكومبيوتر بشخصيات ثلاثية الأبعاد في تاريخ السينما.
ثم تصاعد أمر التلاقي بين خيال السينما والعالم الافتراضي للكومبيوتر. وولدت فكرة الفيلم السينمائي المصنوع بشخصيات الكومبيوتر بحيث تستطيع أن تعطي ملامح وأداء إنسانيين، بالاستغناء عن البشر في التمثيل. وأطلق سبيلبيرغ وعداً بأنه سيرفع أفلام الإحيائية إلى مرتبة الفيلم السينمائي الروائي. ولم تستطع ثلاثية أفلام «شريك» Shrek أن تفي بذلك الوعد.
صحيفة الحياة اللندنية