ثلاثة مَلفّات خِلافيّة ستَتصدَّر مُباحثات الأمير بن سلمان في القاهِرة.. ما هِي؟
خَرَجَ الرئيس المِصري عبد الفتاح السيسي عن البروتوكول الرَّسمي مَرَّتين، للتّعبير عن حَفاوته بالأمير محمد بن سلمان، وليّ العهد السعودي، الذي بَدأ اليَوْمْ زِيارةً رسميّةً للقاهِرة لمُدَّة ثلاثَة أيّام.
الأولى: عندما كان في اسْتقباله عند سُلَّم الطَّائِرة المَلكيّة عند وصوله إلى مطار القاهِرة، وهي خُطوة لا يَحظى بها إلا مُلوك ورؤساء الدُّول فقط، ممّا يعني أن الرئيس السيسي يَتعامل مع ضيفه السعودي الشَّاب بالطَّريقةِ نفسها التي يَتعامل بِها مع كِبار الزوّار.
الثانية: إصدار المَحكمة الدُّستوريّة العُليا في مِصر حُكمًا بإلغاء جميع الأحكام القضائيّة السَّابقة التي تُؤكِّد مِصريّة جزيرتي “تيران” و”صنافير” في مَدخل خليج العقبة، والتأكيد مُجدّدًا على نَقل السِّيادة السعوديّة إليهما، وجاء هذا الحُكم القضائيّ قبل 24 ساعةً من وصول الأمير بن سلمان إلى مطار القاهِرة.
الرئيس السيسي يُدرِك جيّدًا أن الأمير بن سلمان هو الحاكِم الفِعلي للمملكة العربيّة السعوديّة، وقد يُصبِح مَلِكًا مُتوّجًا في غُضون أشهرٍ قليلة، ولِصِغَر سِنّه (32 عامًا) ربّما يَستمِر في الحُكم لما يَقرُب من نِصف قرن، ولهذا يَحرِص على استغلال هذه الزِّيارة لتَوثيق العلاقات معه، وبَذل كُل جُهود مُمكنة لإرضائِه أملاً في الحُصول على المَزيد من القُروض والاستثمارات التي تُساعد في إخراج مِصر من أزمَتِها الاقتصاديّة الحاليّة.
الإيعاز للمَحكمة الدستوريّة العُليا التي يُعيِّن الرئيس جميع قُضاتها، بإصْدار حُكمها بتَأكيد سُعوديّة جزيرتي “صنافير” و”تيران” قبل وصول الأمير بن سلمان كان خُطوةً مَحسوبةً بعِنايةٍ فائِقة، تَعكِس إدراك الرئيس السيسي لمَدى حساسيّة هذهِ المَسألة بالنِّسبة إلى الأمير الضَّيف.
إذا عُدنا للوراء قليلاً، وبالتَّحديد إلى نيسان (إبريل) عام 2016، عندما قام العاهِل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز بزِيارةٍ رسميّةٍ كانت الأولى إلى مِصر، جرى استقباله بحَفاوةٍ بالِغة، ولكن هذهِ الحَفاوة انقلبت إلى أزمة حادّة في العلاقات بين البَلدين، وانْعكست في حربٍ إعلاميّةٍ شَرِسة، بمُجرّد مُغادرة الضَّيف السعودي الأراضي المِصريّة، والسَّبب إصرار الأمير الشَّاب بن سلمان على إعلان تنازل مِصر عن الجزيرتين، وإعادة السِّيادة السعوديّة عليهما، قبل بِدء والده لتِلك الزِّيارة، وهو طَلب أغضب القِيادة المِصريّة، وجَرح كِبريائها الوَطني، وازداد هذا الجُرح اتّساعًا عندما قرّرت السعوديّة وقف مُساعدتها لمِصر، وجمّدت اتّفاق بتَزويدها 700 ألف طن من النِّفط شَهريًّا لمُدّة خَمس سنوات بِشُروطٍ ماليّةٍ مُخفّفة جِدًّا.
الطَّرفان المِصري والسّعودي باتا أكثر حِرصًا على عدم تِكرار تِلك الأزمة، والمُضي قُدمًا في تَوثيق العلاقات بَينهما، والتَّركيز على تَطوير الإيجابيّات وتَقليص السَّلبيات بَقَدر الإمكان.
مِصر تُريد المَزيد من المُساعدات الماليّة والاسْتثمارات السعوديّة، ومُضي الأخيرة قُدمًا في مَشروع بِناء مِنطقة “نيوم” الحُرّة قُرب الحُدود المِصريّة الأردنيّة السعوديّة التي يَعتبرها الأمير محمد بن سلمان دُرّة تاج رؤيته الاقتصاديّة، ويَرصِد لها مبلغ 500 مليار دولار، ممّا يعني عَشرات الآلاف من فُرص العَمل للشَّباب المِصري العاطِل عن العَمل، مِثلما يُريد الرئيس السيسي دَعم السعوديّة في مَعركته مع أثيوبيا حول سَد النَّهضة.
السعوديّة في المُقابل تُريد ضَم مِصر إلى تحالفِ “دول الاعتدال” الذي تَعكِف على تأسيسه ليَكون في مُواجهة إيران وحِلفها الذي يَضُم كل من العِراق وسورية وحزب الله في لبنان، إلى جانب تيّار “أنصار الله” الحوثي في اليمن، وتَجلّت “نُواة” الحِلف في التكتّل الرُّباعي السعودي المِصري الإماراتي البَحريني في أوْضَح صُورِها في مُقاطعة دولة قطر، ومُحاولة التصدّي للنُّفوذ التركي المُتصاعِد في المِنطقة الشَّرق أوسطيّة، الدَّاعِم لحركة “الإخوان المُسلمين” المُعارِضة للنِّظام في مِصر، وإقامتها، أي تركيا، قواعِد عسكريّة في قطر، والصّومال، وأخيرًا جزيرة سواكِن السودانيّة في البَحر الأحمر، قُرب باب المَندب.
لا شَكْ أن هُناك خِلافات بين الجانبين المِصري والسعودي، تتمحور أبرزها في ثَلاثة ملفّاتٍ أساسيّة، الأوّل سورية، والثّاني اليمن، والثّالث مَسألة الزَّعامة، فمِصر حرصت دائمًا على استمرار جُسورها مع القِيادة السوريّة التي تَعتبرها شرعيّة، على عَكس السعوديّة التي عَمِلت وتَعمل على إسقاط النِّظام وتُموِّل المُعارضة وتُسلِّحها، وتردّدت تقارير إخباريّة عديدة عن إرسال مِصر شُحنات أسلحة لدَعم الجيش العربي السوري، كما استقبلت اللواء علي المملوك، المَسؤول الأمني السوري الأعلى في القاهِرة، ودعمت صِيغة آستانة للتوصّل إلى اتفاقاتِ تَهدئة، وشاركت في جَولاتها بِصِفة مُراقب، بتَرشيحٍ إيرانيّ روسيّ.
أمّا بالنِّسبة إلى المَلف اليمني، فقد تَعثّرت كُل المُحاولات السعوديّة لإقناع مِصر بإرسال قوّات للمُشاركة في الحَرب اليمنيّة إلى جانِب قوّات التّحالف العَربي بِقيادتها، واكتفت مِصر بأن يكون وجودها في التَّحالف العربي شَكليًّا، بإرسال فرقاطتين حربيّتين إلى باب المَندب.
أمّا بالنِّسبة إلى الثالث، أي التّنافس على الزَّعامة لمِحور الاعتدال، فما زالت ناره تحت الرَّماد، فمِصر لا تَقبل أي مُنافسة لها فيه، بينما تعتقد السعوديٍة أنّها الأكثر تأهيلاً لها بحُكم مَوقِعها الاقتصاديّ القويّ، وعُضويّتها في مَنظومة الدُّول العِشرين الأقوى اقتصاديًّا في العالم، ونعتقد أن هذا المَلف سيتم تَجميده في الوَقت الرَّاهِن.
الأمير بن سلمان لم يَكُن راضِيًا مُطلقًا على هذا المَوقِف المِصري المُتمثِّل في عدم المُشاركة بفاعليّة في حَرب اليمن، ولكنّه اضْطر إلى تفهّمه لحاجِته إلى تحالفٍ قويٍّ مع مِصر في مُواجهة الخَطر الإيراني الذي يُهدِّد المملكة وأمنها واستقرارها وزَعامتها، حسب وِجهة نَظره، ولم يَكُن الحال كذلك مع الأُردن الذي اتّخذ مَوْقِفًا مُشابِهًا للمَوقف المِصري.
لا نعتقد أن زِيارة الأمير بن سلمان الأولى إلى القاهِرة كوليّ عَهد ستَنتهي بأزمةٍ مِثل زيارة والِده قبل ثلاثة أعوام تقريبًا، فالطَّرفان في أمس الحاجِة لبَعضهما البَعض، وتداخُل المَصالح يُحتِّم التّغاضي عن بعض الخِلافات من أجل تَوثيق التّحالف بينهما ولو إلى حين، فالعَلاقات المِصريّة السعوديّة ظلّت في حالٍ من المَد والجَذب لعِدّة قُرون، والتوتّر كان الغالِب في جَميع فتراتِها، باستثناء بَعض “الهُدن” التي لم تُعمِّر طويلاً، وانْقلبت إلى حُروب.
الأمير بن سلمان باتَ أكثر مُرونةٍ من السَّابِق ومن غَير المُستبعَد أن تتمخّض زِيارته الحاليّة لمِصر عن المَزيد من المُساعدات والقُروض والاتّفاقات الاقتصاديّة، وهذا ما يُريده الرئيس السيسي، ويَخرُج عن كُل البروتوكولات من أجله، فاسْتقرار مِصر وتجاوز أزماتها الاقتصاديٍة يَحْتل قِمّة أولويّات حُكمِه في الوَقت الرَّاهِن على الأقل، وبعدها لكُل حادثٍ حَديث.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية