حكاية قبقاب أبي الذي احتفظت به فرنسا!
لم أكن أعرف أن أبي كان يمشي في شوارع دمشق بالقبقاب، فقد عرفتُه أنيقا مرتبا يبدل أطقمه وربطات عنقه وقمصانه الناصعة بين يوم وآخر، وإذا ما سمعت عن شكل آخر يمشي فيه، فمن الصعب أن أصدق الحكاية!
أعطته مهنة التدريس احتراما من كثيرين في محيطنا حيث نعيش، وبين زملائه حيث يعمل، وبين أقاربنا الكثيرين المنتشرين بين الريف والمدينة، لأن المعلم كان يُعتبر في بلادنا واحدا من أهم الشخصيات التي تؤثر في حياة الفرد نظرا لما يقدمه له على صعيد التربية والعلم والمعرفة!
وصورة القبقاب في حياتنا تحملُ مدلولات أخرى غير تلك التي أرادها أبي من قصته، كالمشي في البيت العربي القديم، وملاحقة قصص غوار الطوشة، والذهاب إلى قصة “شجرة الدر”، لمن قرأ شيئا في التاريخ، وهي المرأة التي حكمت مصر ثمانين يوما، والتي ضربتها النسوة في مصر بقاقيب الحمام حتى الموت!
لم أتصور واقعية الحكاية التي حكاها أبي، وهو يريدني أن أعرف أنه واحد من السوريين الذين هتفوا ضد الاستعمار الفرنسي، لكني إلى الآن أجهل حقيقة الدافع الذي جاء به إلى جادة عطا الأيوبي في الجسر الأبيض بقبقابه في مطلع أربعينيات القرن الماضي، اللهم إلا إذا كان ينوي زيارة مقام (الشيخ تقالة) والمعروف ب (الشيخ العفيف) الموجود ضريحه داخل الجامع القريب من المكان.
كان جامع العفيف من مساجد الصالحية الشهيرة، وكان يتجمع فيه بعض معتنقي الصوفية، والتي أرجح أن أبي كان معجبا بهم وبشيء من طريقتهم التي كانت سائدة في عدد من أحياء الشام الشهيرة..
خرجتُ وأبي من بيتنا في الجسر الأبيض، كنتُ قد جئتُ بنتيجة نهاية العام في الصف الثالث الابتدائي، محملا بالدرجة الأولى وبهديّة ثمينة هي عبارة عن قلم حبر نسميه “ستيلو” قدّمته لي معلمةُ الصف، فقدمتُه أنا لأبي.
ولكي يشعرني أبي بأهمية جهودي المدرسية، وبتقديره لنتيجتي، طلبَ مني أن أرافقه في جولة مسائية في المنطقة القريبة من بيتنا، وقد وصلنا خلالها إلى جوار جامع العفيف قبالة السفارة الفرنسية وكان الجامعُ يبعد عن بيتنا عدة مئات من الأمتار.
كان موقع السفارة الفرنسية هو نفسه الموقع القديم لمقر المندوب السامي للاستعمار الفرنسي، أي أن المكان الذي وصلتُ إليه أنا وأبي كان الموقع الأبرز لقيادة القوات الفرنسية التي أخبرني أبي بقصة قبقابه فيها!
قال لي أبي ، وهو ينظر إلى جدار السفارة المرتفع :
ــ الله زمان .. فقد كان المندوب السامي الفرنسي يقيم هنا حيث السفارة اليوم!
وأضاف بحركة جادة مفتخرا :
ــ هنا أضعت قبقابي !
ولم أفهم قصده، فسألته مستفسرا :
ــ أي قبقاب؟!
غصّت الكلمات في حلقه. ربما كان يريد أن يضحكني، أو ربما كان يريد أن يعتز بما فعله، لكن الكلمات تعثرت في فمه، ثم حكى القصة بصعوبة :
ــ في ذلك الوقت، شاهدتُ أنا وبعض التلاميذ، المدرعات الفرنسية تمر قرب جامع الشيخ تقالة، فهتفنا باللغة الفرنسية ضد الاستعمار. لم يبال الجنودُ الفرنسيون بهتافاتنا . كان الهتاف يحمل معنى واحدا : تسقط فرنسا . يسقط الاستعمار الفرنسي!
وأضاف أبي وهو يختنق بعبرات تدفقت من عينيه:
ــ كان الفقر منتشرا في حياتنا، وكنا نحن تلاميذ المدارس الداخلية نحتذي القباقيب، وأنا كنتُ من بينهم أرتدي قبقابا قدمته لي المدرسة. لم أكن أحمل شيئا في يدي لأرمي به الجنود الفرنسيين الذين يمرون بالعربات المدرعة، فوجدت نفسي، أخلع فردة القبقاب من قدمي وأرمي بها أحد الجنود في مدرعة مرت قربي، ثم خلعت الثانية ورميتُها نحو آخر، فعلق القبقاب بها، وسريعا أمسكها الجندي الفرنسي وتحفظ عليها، وراح يشتمني بصوت عال، ويقول :
ــ لن أعيدها لك حتى تُحيّي فرنسا .
فصرخت ردا عليه :
ــ تسقط فرنسا!
فأعاد الكرة :
ــ لن أعيدها لك إلاّ إذا ناديت تحيا فرنسا !
فكررت هتافي :
ــ تسقط فرنسا !
وكانت المدرعة تبتعد، وقبقابي فيها تحفظ عليه الجندي الفرنسي، فصرتُ أركض حافيا ألاحقه ، وقد انضم إليّ تلاميذ سوريون آخرون ، وشاركوني بالهتاف :
ــ تسقط فرنسا .. يسقط الاستعمار الفرنسي!