رحلة إلى الأناضول: في حضرة مولانا جلال الدين
مصطفى اللباد – تجسد هضبة الأناضول مفتاح خزائن الجغرافيا التركية، وهي فوق ذلك عرش الوجدان التركي ثقافياً وحضارياً؛ فيما تمثل مناطق الساحل الغربي من بورصة إلى إزمير كنوز الفرش وبوابة تركيا المائية. من عند الشمال الشرقي وعلى تخوم البحر الأسود جاءت تاريخياً الأخطار الروسية، وهناك تنفتح كتب التاريخ التركية على ملامح ومظلوميات وتوليفة أعراق مثل الشركس واللاظ والجورجيين والأرمن، لعبت أدواراً متفاوتة في تاريخ تركيا الوسيط والحديث. كانت اسطنبول، وما زالت، بمثابة بايزيد الوقت وجنيد الزمان لتركيا، أي مركز السلاطين والحكام وباب تركيا العالي.
بعد هذه المقدمة الضرورية لروح الجغرافيا التركية، يمكننا أن نفهم الأهمية الفائقة للأناضول، بكل المعاني، فلا تزيغ الأبصار بأنوار اسطنبول وأبهتها أو انفتاح بورصة وإزمير وهويتهما البحرية الخالصة، وهي إذ لا تقلل بحال من شأنهما، فإنها تقدم الأناضول على ما سواه في السياق التركي الجغرافي والتاريخي لتقترب منه أملاً في فهم أعمق لتركيا ووجدانها. يكتفي زوار تركيا في العادة بالإطلال على معالم اسطنبول السياحية، وفي أحسن الأحوال يجازفون بزيارة إلى العاصمة السياسية أنقرة. والأخيرة وإن كانت العاصمة السياسية منذ قيام الجمهورية العام 1923، ومستقر السفارات الأجنبية، إلا أنها قليلة التأثير في وجدان تركيا، لافتقارها إلى الجذور التي تربطها بالامتدادات التاريخية لتركيا الحالية.
الأناضول وتشكله التاريخي
أطلق اسم آسيا الصغرى في العصور الغابرة على تلك المنطقة الجغرافية الممتدة بين البحار من الجهات الأربع: من بحر إيجه غرباً إلى نهر الفرات شرقاً، ومن البحر الأبيض المتوسط جنوباً إلى البحر الأسود شمالاً. تقع الكتلة السكانية الأكبر في المدن الكبرى التركية، إلا أن موزاييك الأعراق المكونة للشعب التركي الحالي تعايشت سوياً في الأناضول طيلة حقب زمانية مختلفة (كالأكراد والألبان والأرمن والعرب والأراميين والبوشناق والبلغار واليونانيين). تقلبت السيطرة على الأناضول من الرومان إلى البيزنطيين، وبعدهما من السلاجقة إلى المغول فالعثمانيين، وأخيراً من السلطنة إلى الجمهورية. تبدلت أشكال الحكم وأديانه، وبقيت هضبة الأناضول مفتاحاً للجغرافيا التركية بعد تبدل الأحوال، وخزاناً بشرياً للمدن الكبرى اسطنبول وأنقره وإزمير، ومدداً للفتوحات العسكرية والتوسعات العمرانية والاقتصادية داخل تركيا وخارجها.
تأخذك تضاريس هضبة الأناضول بجمالها الساحر، فهي ليست شاهقة كجبال لبنان ولا شديدة الاخضرار كجبال الوسط الأوروبي، ليست صخرية تماماً كجبال المغرب العربي وليست قاحلة كجبال سيناء. هي بين ذلك كله. يمتد الطريق السريع من إزمير غرباً وحتى ديار بكر شرقاً، وبينهما تتصل سلسلة الجبال نصف الصخرية الخضراء، المزروعة بمئات ملايين الشجيرات. تميز عيناك بسهولة أشجار الصنوبر والأرز والسرو، وعشرات الأنهار الصغيرة، ويتكرر عليك على مدار ساعات الرحلة الطويلة نمط عيش واحد. تلمح بسهولة مظاهر التقدم الحديث من الوسائل الزراعية المتقدمة، والمستشفيات الجامعية والعامة في كل مدينة صغيرة، وتألف تجاور أنماط معيشة مختلفة في قالب واحد: المستشفيات المتطورة ومحطات الباصات النظيفة والمنظمة، مع بائعي الخضروات والفواكه المنتشرين على طول الطريق.
يستلفت انتباهك غياب الكثافة البشرية عن الحقول المرسومة بعناية تحت سفوح الهضاب إلى جوار الأنهار وحتى أسفلت الطريق، ولا تعدم رؤية البيوت الحديثة التشييد ذات الطراز الواحد وإن كانت قليلة السكان وتحوطها أشجار الفواكه كالدراق والإجاص والمشمش. تعلم لاحقاً أن الهجرة الداخلية للمدن الكبرى والخارجية لدول أوروبا الغربية أوشكت على إفراغ الأناضول من كثافته البشرية، ولكن تلك قصة أخرى.
من كوتاهية إلى قونية
تصل كوتاهية بعد رحلة ثلاث ساعات بالباص من أنقره. تركت فيها قشرة السياسة والانتخابات الرئاسية خلفك متوجهاً إلى قلب الأناضول. هنا تعاقب تاريخياً الحثيون والفرس والإغريق والرومان والبيزنطيون والسلاجقة والأرمن والعثمانيون، في ما يشبه الحتمية. وهنا وطن السلطان العثماني سليم الأول مبلطي القيشاني الذين أسرهم من تبريز في كوتاهية، فأبدعوا وسلالاتهم وما زالوا فنوناً تخلب الألباب، وتميز كوتاهية فنياً وتجارياً عن غيرها من مدن الأناضول. هنا أيضاً في كوتاهية الواقعة إلى الغرب من الأناضول وقع السلطان محمود الثاني مضطراً وثيقة صلح كوتاهية عام 1833 مع إبراهيم باشا ابن محمد علي حاكم مصر، مقراً فيها بتبعية الشام وأضنة والحجاز وجزيرة كريت للقاهرة، بعدما انتصر المصريون على الجيوش العثمانية في نصيبين أولاً ثم قونية ثانياً، فانفتح الطريق أمام الجيش المصري إلى اسطنبول.
اخترت تعقب رحلة إبراهيم باشا في الاتجاه المعاكس، من كوتاهية حيث انتهى، إلى قونية حيث انتصر على الجيوش العثمانية بقيادة الاستراتيجي الألماني الشهير فون مولتكه وقتذاك. لم يكن التاريخ الحربي لمصر وعلاقاتها مع تركيا الباعث الوحيد للرحلة، بل أيضاً الإبحار في عمق الأناضول وصولاً إلى زيارة حضرت مولانا سلطان العاشقين جلال الدين الرومي في قونية.
في حضرة مولانا
بعد استراحة طويلة في أفيون قره حصار، تصل أخيراً إلى قونية في حضرة مولانا جلال الدين. تترك أغراضك في الفندق بسرعة وتهرول للزيارة، تقف تحت القبة الخضراء أمام الضريح من الخارج وقد كتب عليه بالفارسية: «كعبة العشاق باشد ببه اين مقام هر كه ناقص آمد اينجا تمام»، التي ترجمتها «أنت هنا في كعبة العشاق.. وما يهب الناقصين كمالهم». تدلف إلى الضريح، بعد أن تترك السياسة والانتخابات الرئاسية التركية عند الباب، مثلما تتحلل من أعباء التاريخ تاركاً إياه لذاكرة المجتهدين وأوراق الكتب والأرشيف. تجلس بجوار الضريح وتفكر في الزيارة وكرامات مولانا، تقلب في «ديوان شمس تبريزي» معشوق مولانا ومفجر طاقاته والذي أطلق جلال الدين اسمه على ديوانه الأحب، فتقع عيناك على بيت من الشعر يلخص حالك، وكانت ترجمته كما يلي: «ما دمت جالساً إلى جوار لام اسم ا…، فلا أفكر في جاه أو سلطنة، تكفيني دولة العشق منصباً وجاهاً».
ولد جلال الدين الرومي عام 1207 في بلخ القريبة وجدانياً وثقافياً وجغرافياً من سمرقند وبخارى. كانت بلخ مركزاً مهماً من مراكز التصوف الإسلامي، وتمتعت بجو روحاني خاص كونها بؤرة انصهار التعاليم البوذية والإسلامية. من وقتها وقبل ذلك حتى، اشتعلت المعارك الفكرية بين علماء الظاهر والفلسفة مثل فخر الدين الرازي وعلماء الباطن والعرفان من محيي الدين بن عربي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي. عاش مولانا في قونية حتى التقى شمس الدين التبريزي، فانقلبت حياته رأساً على عقب وفجر طاقاته، فكان أن ترك الفتيا والقضاء وتوجه بكلياته إلى التأويل والعرفان. يقول مولانا في مقدمة كتابه «مثنوي»: هذا كتاب المثنوي وهو أصل من أصول الدين في كشف أسرار الوصول واليقين، وهو الفقه الأكبر، وشرع الأزهر وبرهان الدين الأظهر، وهو كنيل مصر شراب للصابرين وحسرة على آل فرعون والكافرين، والجرعة تدل على الغدير والحفنة تدل على البيدر الكبير. أبدع مولانا في وحدة الوجود ووحدة الشهود، وطاول مقامات عرفانية سامقة يستلزم الإبحار في معانيها، الغوص في بواطن معانيها.
قبيل انتهاء الزيارة، تقع عيناك على بيت آخر من أشعار مولانا فكأنه يودعك بمدده الممتد: «قدم هذه الخمرة الروحية من حانات المعاني.. واجعل ناطقة الروح تطير بعيداً.. فجواد نطقي لا يجد الميدان».
بعد حياة حافلة، مات مولانا جلال الدين سلطان العاشقين وقطب السالكين عام 1273، فصلى عليه صدر الدين القونوي وشارك في جنازته أحبار اليهود وقساوسة النصارى ورهبان البوذية. بعدها حزن عليه قطه الأليف وامتنع عن الطعام والشراب، وعندما مات كفنته ملكة خاتون، ابنة مولانا، ودفنته إلى جوار أبيها.
ما أبعد المسلمين الآن عن مولانا والعرفان والسلام الروحي بين البشر والمخلوقات وعلاقتهم جميعاً ببعضهم البعض وبخالق الوجود، وبالفعل لكم تضيق العبارة بعد الزيارة. في النهاية تعود بالطائرة إلى اسطنبول ومنها إلى القاهرة، ولا تنس في ما بين ذلك أن تذهب لوداع مولانا عند حديقة الأماني ومهوى السالكين إلى الحرية… في «جيزي بارك»!
صحيفة السفير اللبنانية