صناعة الانهيار في لبنان
ثلاثون سنة سارت خلالها الدولة اللبنانية من إعادة الإعمار التي تلت الحرب الأهليّة إلى الانهيار الاقتصادي والمالي الذي تشهده اليوم. أية خيارات اتخذت؟ ومتى كان يجب التحوّل في النموذج الاقتصاديّ؟
بنيت السياسة الاقتصادية في لبنان بعد الحرب الأهلية على قواعد تخدم اتجاهين رئيسيين شكّلا ضرورتين حيويتين عند توقيت إطلاقهما. كان الاتجاه الأول متمثلاً بضرورات إعادة الإعمار في بلدٍ مزقته الحرب الأهلية، وعاش في السنوات السبع الأخيرة منها انهياراً اقتصادياً كبيراً، ترافق مع اشتداد وتيرة المعارك العسكرية التي قضت على ما كان قد تبقّى من بنية الاقتصاد الذي تراكم في السنوات الثلاثين السابقة لاندلاع الحرب. وقد احتاج هذا الاتجاه إلى موارد مالية كبيرة تفوق ما كان متوفراً في ادخارات اللبنانيين في ذلك الوقت.
أما الاتجاه الثاني، فكان متمثلاً بتثبيت استقرار الاقتصاد الكلي، وكان تثبيت سعر صرف العملة المحلية الوسيلة المختارة للمساعدة على تحقيق هذا الاستقرار. وعلى الرغم من تحقيق هذه الرؤية أهدافها بنجاح ملموس، فقد بقيت مضامينها العميقة مسكونةً بمكامن ضعفٍ تُخلخل توازن الاقتصاد الكلي، تركّزت في عنواني العجز المزمن في الموازنة العامة والميزان الجاري.
لقد تمكّنت هذه السّياسة من الحفاظ على استدامة التدفقات المالية التي تخدم تمويل العجز في الميزان الجاري، وهو ما اعتبر دليلاً كافياً على جاذبية البلاد والثقة بها من قبل مجتمع الدائنين بكلّ أطرافه، والّذين تنوّعت بهم مصادر هذا التمويل.
ورغم ذلك، لم تكن قدرة المنتجات المحلية على إيجاد ميزات تنافسية في الخارج متوافقةً مع السهولة النسبية التي كانت تؤتى بها التدفقات المالية من الخارج، فطبيعة الأخيرة لم تسهم بالحدّ المطلوب في تقوية النموذج الاقتصادي المنتج للعمل ولمقومات الاستدامة.
ومع الحاجة الماسّة للحفاظ على كمٍ معين من التدفّقات بغرض تمويل العجز، ارتفعت ضرورات السياسة النقدية المناسبة لذلك فوق ضرورات إدارة المالية العامة أولاً، ثم فوق إدارة الاقتصاد الكلي بصورة أكثر تناسباً من ناحيتي الإدارة الحالية وقتها والتخطيط المستقبلي.
من هنا، نشأ تعارض طويل الأمد بين القدرة الوافرة على جذب استثمارات المحافظ لتمويل الدين العام، وعدم وفرة ظروف جذب التدفقات الاستثمارية التي يمكن أن تسهم في تحقيق تراكم رأس المال الاقتصادي المولّد لفرص العمل ولعوامل استدامة النمو الاقتصادي المتنوع الأبعاد.
لقد ساهم العجز المستدام في الموازنة العامة ووتيرة نموّ الدين العام، وخصوصاً في السنوات الخمس عشرة الأخيرة في توهين استقرار الاقتصاد الكلي الذي يحمل في مضامينه وتراكماته مكامن ضعف أخرى بخلاف تلك التي أشرنا إليها. وقد أثبتت تطورات السنة الأخيرة أن تعثّر القدرة على الاقتراض، إضافة إلى عوامل أخرى، أدى إلى تعثر المالية العامة عن سداد موجبات خدمة الدين، وذلك بصورة تعاكس ما كان يحدث خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إذ وضعت السياسة النقدية كل وسائلها (على محدوديتها) في خدمة توفير القدرة على الإيفاء بالالتزامات المرتبطة بخدمة الدين وحماية القدرة على المزيد من الاقتراض، الأمر الذي تحقق طوال الفترة الماضية، لكن بكلفة باهظة تتمثل بتراكم أصل الدين وارتفاع كلفة خدمته من جهة، وهدر فرص إدارة سياسةٍ مالية تتضمّن لرؤية اقتصادية كلية واعية للمستقبل من جهة ثانية.
لقد نزفت البلاد فرصاً هائلة في بناء اقتصاد مولد لفرص العمل، ونمو حقيقي يتراكم ليشكل نموذجاً اقتصادياً ضامناً للتناغم الاجتماعي، وتبادل المنفعة صعوداً وهبوطاً بوئام ويسر. أما ما حدث، فهو تسخير السياسة النقدية لخدمة استقرار مالي ونقدي محدود التأثير في الاقتصاد الكلي، الأمر الذي أدى إلى تجفيف ميكانيكيات تبادل المنافع بين أطراف العمليات الاقتصادية، فزادت الفجوات في المداخيل بينهم، وتحفزت التوترات الاجتماعية، وفقد التناغم بين أطراف العملية الاقتصادية بكل أشكالها.
لقد فقدت السّياسات النقدية متانتها في لحظة اختلال الظروف المحيطة بإدارة هذه الدوامة التي عملت لسنواتٍ طويلة. ورغم أنّ الكثير من هذه الظروف يرتبط بمجالات غير اقتصادية أو مالية أو نقدية، فإنّ هشاشة النموذج بانت في لحظة واحدة، وتمّ افتضاح الاختلالات التي كان يستبطنها، مع تراجع السياسة الضامنة للاستدامة في المال والنقد، ثم في ضمان أمن المجتمع.
لقد خدمت السياسة النقدية المرتفعة كأولوية أولى فوق إدارة المالية العامة للاقتصاد الكلي للبلاد في مرحلة ما قبل العام 2005. وبعد ذلك، كان الاستمرار في هذه السياسة شبيهاً بلحس المبرد الذي يتغذى صاحبه على النزيف المتزايد في قدراته، مع عدم قدرته على التوقف، نظراً إلى المخاطر الكبيرة لهذا التوقف.
ومع تلك النجاحات المحدّدة ضمن مرحلة زمنية محدودة، كانت حركة التضخّم تستتر وتختمر خلف المزيد من الاستدانة لتغذية خدمة الدين والاستهلاك، ولم تظهر نسب التضخم في المؤشرات السنوية، لكنها كانت تلحظ في رصد تفاعلات المجتمع الذي زادت حدة توتراته ذات المنشأ الاقتصادي ومؤشرات اختلال توازن متغيراته الكلية.
لقد نمت موجودات المصارف وميزانياتها على قاعدة أولوية السياسة النقدية وأدواتها المتبعة لجذب الرساميل التي غذت بدرجة عالية حركة الاقتراض، من دون أن تسمح نسبة الفوائد المرتفعة بأن يسهم هذا الإقراض بالقدر الكافي في تغذية عملية الإنتاج والبناء الاقتصادي المستدام.
وعلى مستوى الانعكاسات الاجتماعية لهذه السياسة، فإن النتائج تشير إلى المقدمات، إذ لم يؤدِ النمو الاقتصادي الذي وصل في سنوات عديدة خلال المرحلة الماضية إلى مستوى عالٍ مقارنة بالنسب العالمية في حينها إلى تحسن معايير العيش ومؤشراته، وارتفاع مستوى حياة اللبنانيين، بل استمر نزيف الطاقات الوطنية إلى الخارج، مع نسب بطالة بقيت عالية طوال سنوات النمو المفترض.
لم يتحقّق تراكم لرأس المال المنتج في الاقتصاد الوطني، وفي سبيل خدمة الهدف الأسمى وهو ثبات سعر صرف الليرة اللبنانية لغاية ما في المرحلة الأولى، وبحكم قواعد لحس المبرد في المرحلة الثانية بعد 2005، لم تعد المنتجات اللبنانية قادرة على المحافظة على أسواقها في عالم شديد التنافس. لقد ساهم ارتفاع كلفة الإنتاج إلى انحدار في تنافسيته، بينما ركّزت الدعاية الرسمية لفترة طويلة على تمجيد عملية الدوران في حلقة مفرغة تريح الإدارة السياسية من مسؤولياتها المرتبطة بإحداث التحول في النموذج الاقتصادي، من خلال التخطيط لإدارة مختلفة للاقتصاد الكلي (مختلفة عن عدم الإدارة التي كانت سائدة).
إنَّ النموذج الاقتصادي الذي خدم بصورةٍ فاعلة مرحلة إعادة الإعمار بداية التسعينيات، ثم بدأ بفقدان ميزاته بعد العام 1998، وانتهت فاعليته مع نهاية العام 2004، تحول بعد العام 2005 إلى دوران في دولاب الملاهي بينما كانت البلاد تحترق، ولهو دعائي على طريقة “Extravaganza” العديمة المسؤولية تارةً، وصراعات سياسية مدمرة تارةً أخرى.
اليوم، تبدو الحاجة أكثر إلحاحاً من أي وقتٍ مضى إلى التخطيط الاقتصادي البعيد بمسؤولية وعمق، وباتخاذ القيم المضافة التي تختزنها البلاد بعين الاعتبار، وخلق ميزاتٍ أخرى في عملية النظر إلى المستقبل.
إنّ الحقائق المرتبطة بوضع لبنان تجعل من كل خطوة يتخذها خطوةً مهمة، فكلّ قرار يمكن أن يصنع الفارق، وكل قدرة يمكن أن تشكّل فرصة، وكل اختراع يمكن أن يحدث تحولاً، لكن جمع ذلك في طريق واحد لبلد نحو البحث عن موقعه المستقبل وعن شكل هذا المستقبل، لا بد من أن يكون ضمن تخطيط دالٍّ وواعٍ وذي معنى.
إن النمو الذي تحتاجه البلاد متعدد الأبعاد ومتّسق بالأبعاد البازغة عالمياً للنمو في هذا العصر. إذاً، لا بدّ من أن ندخل العصر، وأن نعرف من أين ندخله، وبأيّ هوية، وأية قيم مضافة نمتلك، ولا بد أيضاً من أن يُرى النمو في تفاصيل الحياة اليومية، وأن يُلمس ويُقاس، فما هو حقيقي في الاقتصاد يمكن قياسه، ويمكن عيشه أيضاً، وهو، ما لم يُقس أو يعَش، لا يعدو كونه اقتصاداً حبيس الحواسيب وأذهان المنظرين المنفصلين عن إدراك ما يحكون عنه.
إنَّ النموذج المطلوب للمستقبل هو اقتصاد يقوم على القدرات البشرية والقطاعات المولدة للطاقة الفكرية بالدرجة الأولى، والقابلة لإحداث تراكم في رأس المال البشري المنتج لأدوات المستقبل وأدواره، وإلا فإن حجز مكان هناك سيكون مسألة صعبة.
الميادين نت