«أشباح فرنساوي» رواية سودانية في قلب رواية

يكشف عنوان رواية السوداني منصور الصويم «أشباح فرنساوي» (دار العين للنشر) عن وجود حالة من التداخل بين الواقعي والخيالي، فالمفترض أن يكون شبحياً، يتلازم في النص مع حياة «عوض فرنساوي» التي تبدو أكثر غموضاً وإرباكاً من أن يكشفها راوٍ واحد فقط.

من خلال شخصية محمد لطيف، يمضي الصويم في تجربة سردية مع مجموعة شخوص تتوازى في حركتها الروائية لتبني عوالم متجاورة ضمن منظومة تستمد من فعل الاسترجاع وسيلة للكشف عن أحداث تُزاوج بين العنف والحب، السلطة والقهر، الرغبة في التمسك بالحياة، والعدم.

عوض فرنساوي، محمد لطيف، ساندرا، الرقيب بشير دفع الله، العقيد جاك المدثر، عفاف، نادية ريتشي، كلها شخصيات ينسج من خلالها الصويم عالمه الروائي. يكتب محمد لطيف – وهو شاب مثقف وشاعر يعمل مصحح لغة عربية في جريدة الزمان – حكاية عوض الفرنساوي، ويتداخل في هذه الكتابة الواقع بالمتخيل، حيث يظن لطيف أن حبيبته ساندرا تشبه عفاف حبيبة عوض الفرنساوي «أنت هي وهي أنت… عفاف حبيبة الرقيب بشير، حبيبة الملازم ياسر وسيادة العقيد والبوليس فريني، حبيبتهم كلهم» (ص 63).

تبدأ الرواية مع انشغال محمد لطيف بسيرة عوض فرنساوي، تتكشف حكايته عبر رواة عدة، ومن خلال راو عليم يتتبع حركة الأبطال، ويتكلم بصيغة المخاطب في بعض الفقرات، فيقول: «يقضي محمد لطيف أيامه مشحوناً بك ومعذباً، منذ أن تلقفك هذيانات متشنّجة من فم الرقيب بشير ذات سكرة في يوم خميس بعيد».

هناك إذن راوٍ يسرد القصة وهو الرقيب بشير، على مسامع محمد لطيف، لكنّ لطيف يحوّل الحكاية إلى نص مكتوب، يغير ويبدل في سيرة فرنساوي، حتى تتداخل في ذهنه الحقائق والخيالات والأشباح. ويمكن القول إن وجود رواية داخل الرواية تقنية تظهر بوضوح في «أشباح فرنساوي». فالراوي العليم الذي يراقب محمد لطيف وهو يكتب، يتخلى عن جزء من السرد لتتقدم رواية محمد لطيف إلى الأحداث، وفق رؤيته الخاصة لما سمعه وأراد كتابته عن عوض فرنساوي، ومن ثم ظهور شخصية «ميناس» التي توحي بأنها تريد كتابة رواية عن محمد لطيف وإضافة شخصيات واقعية من حياته.

الفضاء المكاني للأبطال هو «نيالا» – ثاني أكبر مدينة في أقليم دارفور – مدينة عند التخوم القصية ترتبط بالعاصمة عبر خط سكة حديد، «نمت المدينة في شكل تدريجي لتأخذ منحى تنافسياً جاذباً للمغامرين من التجار والموظفين والحالمين والهاربين». وفي مثل هذه المدينة يكون لضباط البوليس سلطة كبيرة، ففي قسم شرطة تكساس في نيالا يظهر العقيد مدثر، والرقيب بشير، والملازم ياسر، وتبدو هذه الأسماء أشبه بحلقات متصلة كل منها تفضي إلى أخرى. تظهر مدينة الخرطوم أيضاً في شكل ضمني من خلال محمد لطيف، وحديثه الواقعي عن مهنة الصحافة.

حضور نسوي

على رغم ازدحام النص بشخصيات ذكورية، عسكرية في معظمها، ظلّ حضور المرأة في النص مؤثراً، وإن كان محدوداً، فالشخصيات النسائية التي تظهر وتختفي على مدار أحداث الرواية تترك بصمة في ذاكرة القارئ، سواء من خلال الأحداث، أو التفاصيل الذاتية الجسدية والنفسية لكل بطلة، كما في شخصية: «ست أبوهم، نادية ريتشي، عفاف، ساندرا، المغنية حنانة، ريمناس».

وغالباً ما يكون ظهور المرأة غير محايد أبداً، كما في غرام العقيد مدثر الجاك بـ «ست أبوهم»، وهي زوجة صاحب مطعم شعبي، امرأة ذهبية تفتنه بجمالها وسحرها، ويفقد بسببها رجولته نتيجة مطارداته لها. ثمة أيضاً شخصية القوادة «نادية ريتشي» ونهايتها المأساوية، كذلك موت المغنية حنانة. في المقابل، يستكمل الرقيب بشير رحلة العقيد جاك في مطاردة النساء، والشرب واللهو في المدينة، وفي الوقت نفسه يرتبط بعلاقة صداقة مع محمد لطيف ويحكي له كل المغامرات التي عاشوها في نيالا.

أما عوض فرنساوي فهو الرجل الغريب، العابر، الآتي من تشاد، يرافق الملازم ياسر في رحلة طويلة. وفي ظلال الغابة الصغيرة تتجه الطلقات نحو فرنساوي. وهو بالنسبة إلى محمد لطيف مجرد صديق شبحي يظهر عند أواخر الأمسيات الضائعة، يتسلل عبر النوم، ينسكب حروفاً وكلمات في الأوراق ويتمدد على شاشات الكمبيوتر.

تنقسم الرواية إلى سبعة عشر فصلاً، يحمل كل فصل عنواناً، وجاءت بعض العناوين كاشفة لمضمون الفصل مثل: «فولدر الأشياء»، الذي يتضمن إشارات لانسحاب محمد لطيف من السرد، وتقدم ميناس، والأهم أيضاً نهاية عوض فرنساوي وتشويه جسده لأنه عرف أكثر مما يجب عن «قسم شرطة تكساس» وما يحدث فيه، بخاصة بعد موت المغنية «حنانة».

أراد منصور الصويم أن يمنح بطله عوض الفرنساوي بعداً أسطورياً، بدأ مع عنوان الرواية، واستكمله في الأجواء العبثية والواقعية في آن، ثم في الكشف عن أعماق النفس البشرية، وتمظهر الذات العنيفة من خلال المنحى التدميري الذي يتخذه بعض الأبطال عبر حضور القتل الوحشي في أكثر من محور؛ فضلاً عن الموازاة بين حضور بطلي العمل: محمد لطيف وعوض فرنساوي.

ثمة إشارات أخرى في العمل ترتبط بالواقع السوداني، الاجتماعي والثقافي، سواء بالحديث الطفيف والمتداخل بين محمد لطيف مع ساندرا، وميناس عن الكتابة، عن الشعر، عن واقع مهنة الصحافة، وتعمد تضييق مساحات الوجود الإبداعي، عن تفشي الفساد، والفروق الطبقية في المجتمع، عن السلطة التي يتم تجييرها لمصلحة أصحابها. هذه التلميحات القليلة بدت كاشفة ومنحت النص ارتباطاً بهوية المكان، وما يتركه من أثر في النتاج الفكري والإبداعي لمثقفيه.

لعلّ الحديث عن النهايات في نص مثل «أشباح فرنساوي» يبدو مهتزاً أيضاً، لأن حلقات السرد المفتوحة تستمر مع قابلية التأويل، في تداخل ما تمت كتابته استلهاماً من حكاية بشير للوقائع، مع ذاكرة محمد لطيف، ومع الأبطال الذين يتكررون بوجوه وأشكال أخرى. ففي حين تبدو ميناس في ختام الرواية هي عفاف، يغدو المتلقي أكثر قبولاً لأن يكون عوض الفرنساوي نموذجاً وليس فرداً، أي أن حكايته قابلة للتكرار، كما هي شخصيات مجموعة العسكريين: «جاك المدثر، بشير، ياسر» مجرد نماذج، سلوكها متشابه مع من سبقها، ومن سوف يليها.

في كتابة الصويم، ثمة حياة حقيقية تتوازى مع النسيج الحكائي. حياة لا يمكن نكران وجودها وديمومة تفاعلها مع أبطال واقعيين. ونجد هذه السمة في كتابة الصويم في روايته «ذاكرة شرير» أيضاً، الحائزة جائزة الطيب صالح عام 2005. واللافت في كتابة الصويم هي مواءمة اللغة بين المضمون والأسلوب. فعلى رغم قساوة عوالمه الروائية وطغيان حالات من التشرد والعبث، العنف والعدمية، لا تتورط اللغة عنده في مفردات تخل بالبناء، أو بالمخيال الحكائي للرواية.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى