“وِردْ الليل” لمحمد شويحنة… صناعة الاستبداد (انور محمد)

 

انور محمد

أكثر ما يُثير في رواية محمد شويحنة الجديدة "وِردْ الليل" (دار نون، حلب) بطلها "مطيع العبَّادي" فهو العنين لكنَّه يرى نفسه الفحل، وهو الأمِّي المتعلِّم المتشوِّع المتصوِّف الإخواني، حسب ما يلزم. وكأنَّه فقدَ بوصلته، ولا يعرف إن كان سيموت من أجل سوريا أو من أجل الحزب الشيوعي، كرمى عيني (أروى)، أو من أجل جماعة "الإخوان المسلمين". يمكنك أن تنسحب من الأحزاب، تغادرها لأنَّها كيانات سياسية، لكن سوريا كيف تقدم طلب انسحابك منها، ولمن؟ وأنتَ في ذروة الصراع ما بين السلطة بقلاعها الأمنية وترساناتها العسكرية، وبين معارضيها من "الإخوان المسلمين" والشيوعيين وقوى سياسية أخرى؟
مطيع العبَّادي مأساته أنَّه صاحب عقيدة هشَّة، فهو يمسك كأستاذ مدرسة ابتدائي بالسيف الثيوقراطي ليقصَّ البوط الأوتوقراطي. ولا يمنع أن يحب (أروى) الشيوعية التي كان سينتسب للحزب بسببها لولا أن باغته الرفيق عمر وتزوَّجها، وهو العنين الذي لم يستطع أن يفضَّ بكارة (سعاد) التي بقيت عنده أشهراً، ثمَّ جنَّت وطلَّقها مرغماً وهي لا تزال بكراً. مطيع العبادي وهو العرفاني الإخواني كان يموِّه/ يضلِّل أجهزة الأمن بالجلوس في مقهى السعد حيث يجتمع المثقفون الشيوعيون ليخبِّئ إخوانيته، وكان جباناً لم يقدر أن يصطدم مع السلطة التي سجنته سنين طويلة على ذمة الإخوان، ولا أن يصطدم مع غرائزه وعواطفه فبقي خصياً. إنَّ فكره الديني لم يكن أكثر من ثمرة لجلساته العرفانية في زاوية شيخه (حسيب)، هذه الزاوية التي يستذكرون فيها الله كل يوم خميس في بيت بمقبرة الصالحين بحلب، يسبحونه ذلك لتحقيق حب الله/ ليس الحب العقلي/ النقدي البحثي عن المعرفة، بل سعياً نحو السعادة الروحية.
الروائي محمد شويحنة وإن لم يقدِّم بطله محمد العبَّادي على أنَه مثقف إسلامي، إلاَّ إنَّه لم يرنا أنَّه عندما كان يُعتقل من قبل أجهزة الأمن السورية أنَّه اصطدم معها باعتباره صاحبَ أو انَّه كان يؤسِّس لوعي إسلامي شعبي، أو لرؤية عقلانية نقدية، أو لظلامية سلفية متطرِّفة. لقد كان شخصاً ملتبساً كما عنوان الرواية. ملتبساً مريداً ببَّغاءً حين هو وشيخه حسيب خلعا لباسهما إلاَّ من السروال الداخلي في جامع العثمانية، وصارا يجريان في الأسواق المحيطة به مثل المجانين؟!!
محمد شويحنة يوثِّق، يؤرِّخ، ينتقد مرحلة مفصلية من أخطر المراحل التي مرَّت فيها سوريا في بداية الثمانينيات من القرن الماضي: السلطة والمعارضة الإخوانية في صراع دموي كما يحدث الآن منذ آذار 2011 وحتى الآن. صراعٌ يهدم، يدمِّر، يحرق، يفعل كل شيء باسم (الدين والثورة والحرية) ولا علاقة لهذه الأقانيم الثلاثة بما يجري حقيقة على أرض الواقع. مطيع العبَّادي الذي كان خصياً ولم يفض بكارة سعاد وكانت عقدته الحياتية.
مطيع بقي صغيراً، بقي مهزوزاً لأنَّه كان يدافع عن ذاته وليس عن دينه، كان يربي (مستبداً) في أعماقه، يمجِّده مريدوه، وباسم اجتماعهم على الوِرد يستسلمون له كما حال الشعوب العربية مع حكَّامها تسلِّم أو لا تسلَم. غير أنَّه يفيق، يحس بعد أن تداهم السلطة زاويته فتذروها كالهشيم، ومن ثمَّ يفتضح أمر إبراهيم ورفاقه عندما تقع عين "المختار" على الأسلحة بخصورهم، فيُخبر السلطة، ويتمُّ قتلهم، ويُقتاد مطيع إلى السجن فيرى الرفيق عمر الشيوعي نزيلاً مثله، وتبدأ أحلام اليقظة تشتغل، فيرى ممَّا يرى شيخ أشياخه الإمام (الدندراوي) وقد حضر إليه يسأله: إيش بيك يا عبَّادي؟! فيجيبه: جتلونا يا شيخ، إيش نسوِّي؟ فيرد الدندراوي: النوبة الجاي نجتلهم. ولعلَّ هذا أعظم ما في الرواية، وهو ما أراد أن يقوله محمد شويحنة، ولكن من دون أن ننسى أنَّ الغلبة للأقوى، وأنَّ تاريخنا العربي والإسلامي هو تاريخ يسقي جذور التسلط والاستبداد، ويرعى القهر والطغيان، وقد غلَّف خطابه بلحاء قدسي ما أن تقشره حتى تُكفَّر ويُستباح دمك.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى