لماذا تدفع المُناورات الإسرائيليّة الأضخم التي تبدأ الأحد السيّد نصر الله …
هذا الصّمود الرائع والمُشرّف لأهلنا المُرابطين في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، ليس دِفاعًا عن بضعة بيوت في حيّ الشيخ جراح، أو لإعادة فتح ساحة بيت العامود، أو حتى اقتِحام المسجد الأقصى، وإنّما هي “المُفجّر” لاحتِقانٍ مُتضخّم ومُتراكم في حربِ صراع هُويّات، هُويّة يهوديّة صهيونيّة عُنصريّة مُحتلّة مُتغطرسة، وهُويّة عربيّة إسلاميّة عُنوانها الحِفاظ على إرثٍ تاريخيّ يمتدّ لآلاف السّنين، ومُقدّسات يجب أن تعود لسيادة أصحابها كريمةً مُصانة.
عندما يتدفّق 70 ألفًا للصّلاة في المسجد الأقصى ومُحيطه الطّاهر، في تحدٍّ بُطوليّ للاحتِلال، فهذا التحدّي هو الدّفاع عن الهُويّة، والتّأكيد على فشل كُل أحلام اليقظة حول توحيد المدينة المقدّسة، وإسقاط الهُويّة العربيّة والإسلاميّة عنها بشكلٍ نهائيّ، بقرارٍ من ترامب وكوشنر، وتواطؤ من قبل بعض المُستَسلمين العرب، فهؤلاء لا يَعرِفون التّاريخ، ولا يَعرِفون جينات المُقاومة والبأس والكرامة والصّبر الاستِراتيجي طويل النّفس لأهل الرّباط.
الانفجار قادمٌ حتمًا، وما نراه حاليًّا هو مُجرّد دُخان لهبه، ومن راهنوا على سُلطةٍ مُتواطئةٍ خانعة، والرّشاوى الماليّة وسياسات التّجويع أمَلًا في التّركيع، سيَكتَشِفون قريبًا جدًّا كم كانوا مُخطِئين، فالسّلطة باتت في العِناية المركّزة، تعيش أيّامها الأخيرة، بعد الضّربتين القاضيتين التي تلقّتها في الأيّام القليلة الماضية، الأولى إلغاء الانتخابات خوفًا من الهزيمة، والثّانية انتِفاضة القدس الثّالثة التي لا تستطيع قوّاتها العميلة إجهاضها.
الأيّام القليلة القادمة ستشهد عمليّة فرز واضحة المعالم، بين العشريّة السّوداء وما اتّسمت به من الذّل والمهانة، ومُؤامرات تفكيك الدّول ونشر الفوضى الدمويّة فيها، وبين العشريّة البيضاء المُفعَمة بالأمل والكرامة والإباء والمُقاومة، وعُنوانها الأبرز انتِصار محور المُقاومة وفشَل المشروع الأمريكي الإسرائيلي.
***
لا نَستبعِد العديد من المُفاجآت والتّغييرات في قواعد الاشتِباك، وانقلاب المُعادلات، ونحن لا نتحدّث من مُنطلق التّمنّيات، وإنّما استِنادًا على وقائع ملموسة على الأرض نُوجِزها في النّقاط التّالية:
أوّلًا: تزعّم بنيامين نِتنياهو اجتِماعًا طارئًا مساء اليوم السبت للقادة العسكريين والأمنيين الكِبار، وأعضاء الحُكومة الأمنيّة المُصغّرة، لبحث التّهديدات الوجوديّة التي تُواجِه “إسرائيل” ارتِكازًا على انتفاضة القدس ووضع خطط لمُواجهتها ومُحاولة إجهاضها.
ثانيًا: بدء غدًا الأحد مُناورات عسكريّة تشترك فيها جميع الأسلحة الإسرائيليّة بريّة وبحريّة وجويّة، تُعتَبر الأضخم في تاريخ دولة الاحتِلال، وقد تستمرّ لعدّة أسابيع.
ثالثًا: إعلان السيّد حسن نصر الله حالة الاستِعداد القُصوى في صُفوف قوات “حزب الله” استِعدادًا لأيّ طارئ اعتبارًا من صباح الغد، وتحذيره مثلما جاء في خطابه الذي ألقاه أمس الجمعة بمُناسبة يوم القدس العالمي من أيّ خطأ، أو مُغامرة، أو عُدوان، يُقدِم عليه جيش الاحتِلال أثناء المُناورات، سيتم الرّد عليه بقوّةٍ وحزم، مِثل هذا التّحذيرات وما صاحبها من إعلان حالة التأهّب، لا يُمكن أن يُقدِم عليها سيّد المُقاومة دون وجود معلومات شِبه مُؤكّدة لديه عن احتماليّة أن تكون هذه المُناورات غِطاءً لعُدوانٍ على لبنان أو اجتِياح لسورية، وربّما قصف إيران أيضًا، أو جميع هذه الاحتِمالات.
رابعًا: تتحدّث تقارير إسرائيليّة صحافيّة عن حشد أحزاب المُعارضة اليمينيّة أكثر من 30 ألف مُستوطن مُتطرّف لاقتِحام المسجد الأقصى بعد غدٍ الاثنين مُحاكاةً لما فعله إرييل شارون عام 2000، وهو الاقتِحام الذي فجّر الانتِفاضة المُسلّحة الثّانية التي استمرّت عدّة سنوات وأرعبت دولة الاحتِلال ومُستوطنيها، وأدّت إلى هزّ أمنها واستِقرارها وهُروب الاستِثمارات وآلاف المُستوطنين.
خامسًا: التّلاحم بين فصائل المُقاومة في قِطاع غزّة مع انتِفاضة الأقصى والمُرابطين في المدينة المُقدّسة، وحيّ الشيخ جراح، وخُروج محمد الضيف قائد كتائب القسّام الجناح العسكري لحركة “حماس” ببيانٍ غير مسبوق يُهَدِّد فيه برَدٍّ مُزَلزِلٍ على أيّ اعتِداء على حُماة الأقصى، وضحايا البلطجة الإسرائيليّة في حي الشيخ الجراح، واقدام زياد النخالة، زعيم حركة “الجِهاد الإسلامي”، على خُطوةٍ مُماثلة، يُؤكّد أنّ أهل الرباط لن يكونوا وحدهم في ميدان المُواجهة، وهذان الرّجلان إذا قالا نفّذا دون تردّد.
سادسًا: أكثر ما يُقلِق الإسرائيليين هذه الأيّام تَعانُق صواريخ المُقاومة مع انتِفاضة القدس وانتِقالها إلى الضفّة الغربيّة مع ضعف قبضة السّلطة، وتَصاعُد الغضب الشّعبيّ ضدّها، وتنسيقها الأمنيّ مع الاحتِلال، واتّساع حالة الانقِسام والتّشرذم داخِل حركة “فتح”، حزب السّلطة، خاصّةً بعد تورّط أجهزتها الأمنيّة في تسليم منتصر شلبي مُنفّذ عمليّة حاجز زعترة جنوب نابلس ضدّ قوّات الاحتِلال، وجرح ثلاثة منهم بإصابات خطرة، فالأسلحة الناريّة موجودة بكَثرةٍ في الضفّة، وكذلك في مناطق 1948، وجيل الانتِفاضة الثّالثة في حال تَصاعُدها لا يُؤمِن بالمُقاومة الشعبيّة السلميّة مثلما تُفيد مُعظم المُؤشّرات المُتوفّرة حاليًّا.
سابعًا: كشفت حالة انهِيار الجسر أثناء احتِفالات صاخبة ليهود مُتديّنين فيما يُعرَف بحادثة “مورون” التي قُتِل فيها 45 مُستوطنًا وإصابة 120 آخَرين، أنّ جُهوزيّة الجبهة الداخليّة لمُواجهة الأحداث الخطيرة شِبه معدومة، والحال سيَكون أسوأ في حال نُشوب حُروبٍ قصيرةٍ أو طويلة، أو هجمات صاروخيّة دقيقة في العُمُق الإسرائيلي.
ثامنًا: شهدت الجبهة الداخليّة الإسرائيليّة في الأسابيع القليلة الماضية عدّة حوادث غامضة، مِثل انفِجار في مصنع لمُحرّكات الصّواريخ في الرّملة، وحريقين ضخمين واحد قُرب مطار اللّد، والثّاني في ميناء حيفا، وتسرّب غاز أمونيا من مُستودعات الميناء نفسه، ناهِيك عن الصّاروخ السّوري وانفِجاره قُرب ديمونا، هذه الحوادث لم تكن عرضيّةً، والتّكتّم عليها وأسبابها ما زال مُستَمرًّا، وحتّى لو كانت عرضيّةً فهي دليل على أنّ إسرائيل باتت “جُمهوريّة مَوز” فِعلًا.
تاسعًا: التّضامن المُطلَق من قِبَل السيّد علي خامنئي المُرشد الأعلى مع الانتِفاضة الفِلسطينيّة، وتأكيده في كلمته التي ألقاها بلُغةٍ عربيّةٍ فُصحَى بمُناسبة يوم القُدس العالمي “أنّ الشّعب الفِلسطيني كانَ يُقاوِم بالحِجارة والآن بالصّواريخ” مُشَدِّدًا على أنّ العدّ التّنازليّ لانهِيار إسرائيل قد بدَأ، وهذا التّضامن له معاني عديدة من زعيم دولة هي المصدر الرّئيسي لأسلحة وصواريخ فصائل المُقاومة في قِطاع غزّة، وهدف حرسها الثّوري الأوّل نقل المُقاومة المُسلّحة إلى الضفّة.
عاشِرًا: إيران حليفة المُقاومة وزعيمة مِحوَرها ستَكون الرّابح الأكبر في العشريّة القادمة بالنّظر إلى كسب ودّها من قِبَل أمريكا والحِوار السّعودي معها، فإذا توصّلت إلى اتّفاقٍ يُعيد الحياة للاتّفاق النّووي، فإنّ هذا يعني إنهاء الحِصار ورفع الحظر عن 90 مِليار من أموالها، وعن صادراتها النفطيّة، وهذا يعني ازدِهارها وحُلفاءها ماليًّا واقتِصاديًّا وعسكريًّا، أمّا إذا فَشِلَت المُفاوضات فهذا يعني رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من 90 بالمِئة، والمُضُي قُدُمًا في حِلفها الرّباعي الاستِراتيجي مع الصّين وروسيا وكوريا الشماليّة.
حالة التّوتّر في منطقة الشّرق الأوسط انتقلت من مِنطقة الخليج إلى شرق المتوسّط، وإعادة التّركيز على القضيّة المركزيّة الأُولى وهي الصّراع العربي الإسرائيلي، بعد تهميش استمرّ عشر سنوات، أثناء ما يُسمّى بالرّبيع العربي، وما تخلّلها من تطبيعٍ وصفقة قرن، فإدارة بايدن وصلت إلى قناعةٍ بأنّ إيران لا يُمكِن هزيمتها عسكريًّا، وإن كان ذلك مُمكِنًا فسيكون مُكلِفًا جدًّا، ولهذا عادت إلى سياسة الاحتِواء، وليس المُواجهة، الأمر الذي يعني أنّ استراتيجيّة نِتنياهو إلى جرّ أمريكا وأوروبا إلى حربٍ ضدّ إيران قد فَشِلَت، وحلّ محلّها حالة العُزلة والنّبذ التي يعيشها حاليًّا.
في ظِل ما تقدّم لا نَستبعِد أن يُقدِم نِتنياهو المهزوم المعزول الذي قد يقضي أعوامه الأخيرة خلف القُضبان، على غلطة عُمره الأكبر، والذّهاب إلى حربٍ كُبرى أو صُغرى، الأولى ضدّ إيران والثّانية ضدّ قِطاع غزّة أو جنوب لبنان لخلط الأوراق ومُحاولة إنقاذ نفسه، وإطالة فترة بقائه في الحُكم.
***
خِتامًا نقول إذا كانت حركة الجهاد الإسلامي قد أطلقت 400 صاروخ وقذيفة على مُدُن ومُستوطنات غِلاف غزّة وتل أبيب، شلّت حياة نِصف الإسرائيليين انتِقامًا لاغتِيال بهاء أبو العطا، قائِدها الميداني، قبل عامين، ودفعت نِتنياهو للهُروب إلى المَلاجِئ، وكان يُمكِن أن يرتفع العدد إلى الضّعفين، لولا الوِساطة المِصريّة، فكيف سيكون الرّد لو اقتَحم المُستَوطنون المسجد الأقصى وأرادوا احتِلاله؟
أُسطورة القُبب الحديديّة تآكلت، والأيّام القادمة قد تكون حُبلَى بالمُفاجآت، فالمارد الفِلسطيني بدأ يتململ ويستعد للخُروج من القُمْقُم، ويُعيد تصحيح كُل المُعادلات وقواعد الاشتِباك واضِعًا حدًّا للعشريّة العربيّة السّوداء.. واللُه أعلم.