ما الذي ينبغي علينا نقله اليَوم من خلال أنظمتنا التعليميّة؟
ما هي القضايا الكبرى في مجال التربية اليوم؟ سؤال جوهريّ طرحته مجلّة “العلوم الإنسانيّة” الفرنسيّة، في عددها الخاصّ رقم 307 الصادر في تشرين الأوّل (أكتوبر) الفائت، على أربعة مفكّرين فرنسيّين كِبار هُم: إدغار موران Edgar Morin، ومارسيل غوشيهMarcel Gauchet ، وفيليب ميريوPhilippe Meirieu، وجاك رانسيير Jacques Rancière، من خلال تحقيقٍ أجراه كلٌّ من هوغو ألباندياHugo Albandea، وإيلوييز ليريتيه Héloïse Lhérété.
إدغار موران و” تعليم الوعي ونفاذ البَصيرة“
“إذا ما أخذنا جدّياً في الاعتبار مهمّة كلّ تربية، وهي التعليم على كيفيّة مُمارَسة العَيش أو كيف نعيش؟، يبدو لي أنّ هناك نقصاً جوهريّاً في البَرامج المدرسيّة. ينقص، بشكل خاصّ، تعليمٌ حول ماهيّة المعرفة، وآليّاتها ومعوّقاتها وصعوباتها. ليست المعرفة صورة موضوعيّة للواقع، جاهزة للاستعمال؛ إنّها آليّة ترجمة وإعادة بناء، حيث نكاد نكون مُعرَّضين دائماً لأن نُخطئ. كلُّ تواصُلٍ يتضمَّن خطر الوقوع في الخطأ، وهو ما أَظهره عالِم الرياضيّات كلود شانّون Claude Shannon. وفي هذه الحالة تحديداً، فإنّ إحدى الحاجات الأوّليّة للعيش، وفي مَراحل الحياة المُختلفة، هي معرفة المَصادر المُمكنة لأخطائنا وأوهامِنا. الوعي ونفاذ البصيرة هو نِضالٌ ينبغي من أجله تسليح النفوس. إنّ ارتكاب خطأ في المدرسة ليس بالأمر الجسيم؛ في حين يُمكننا أن نُخطئ، وأن تَتبع هذا الخطأ نتائج أكثر دراماتيكيّة، في خَيار المهنة، أو خيار الصداقة، أو خيار الحبّ، أو الخيار السياسي. خطر الوقوع في الخطأ وفي الوَهْم هو خطرٌ دائم بالنسبة إلى الإنسانيّة جمعاء.
ثمّة موضوع آخر يبدو لي من الضروري إدراجه: إنّه يخصّ فَهْم الآخر. وهو ذو بُعدٍ كَونيّ. نحن في احتكاكٍ مستمرّ مع ثقافات بلدان العالَم المُختلفة، وينبغي علينا فهمها. ففي داخل كلّ أسرة، وكلّ منظّمة، تتكاثر ظواهر عدم الفَهْم.
هاتان هُما إذاً الثغرتان الرّاهنتان: المعرفةُ والتفهّمُ الإنسانيّ؛ وتحاشي أخطاء يُمكنها أن تكون أحياناً قاتِلة، وفهْم الآخر من دون احتقاره، ومَعرفة أنّ الآخر هو في الآن نفسه شبيهٌ لنا ومختلفٌ عنّا”.
مارسيل غوشيه: ” عدم الخضوع لمصيرٍ مجتمعيّ“
” حول ما يجب نقله من خلال أنظمة التعليم، ثمّة إجماع نوجزه بالآتي: يجب نقل كلّ شيء وللجميع، بدءاً من الأساسيّات ( القراءة، والكتابة، والحِساب) وصولاً إلى المفاهيم الأوليّة للطبّ، مروراً باللّغات، والرياضة، والترميز المعلوماتي. إنّها غاية نبيلة جدّاً، يتمّ العمل بها على نِطاقٍ واسع في فرنسا منذ زمن طويل.
تبدأ الصعوبات حين ندنو من مسألة “الكَيف”. نظامُنا المدرسيّ في الواقع يخرج باهِتاً أو زائغاً على أثر تغيّرٍ عميقٍ طاوَله. حتّى أواخر الستّينيات من القرن الفائت، كان نقْل المعرفة يُعادِل أو يعني فَرضها فَرضاً. قليلاً ما كنّا نطرح الأسئلة: قسم كان يتعلّم وقسم آخر كان يجهل، وذلك من دون أن يُثير فينا الأمر أيّ قلق يُذكَر. السنوات 1970-1980 كانت مسرحاً لاضطرابٍ كبير. تمّ حثّ الطلّاب على بِناء مَعارفهم الذاتيّة بأنفسهم. هذا الهدف النبيل حول الحرّية الشخصيّة لم يعطِ، لسوء الحظّ، النتائج المُتوقَّعة. والمُفارَقة تكمن في أنّ التلاميذ، الذين واكَبوا نظاماً كانت المعرفة فيه مفروضة فَرضَاً، هُم أنفسهم اليوم، الذين يعرفون بناء مَعارفهم الخاصّة. وبالعكس، فإنّ الثائرين على طريقة فَرْض المَعارِف فَرْضاً، يصلون بشكلٍ سيّئ إلى بِناء مَعارِفهم.
نحن الآن في تراجعٍ تاريخيّ. بعد الحماسة الطوباويّة، ثمّ الكآبة المُعمَّمة، ندخل مرحلة الحساب وإعادة البناء. نكتشف أنّنا لا نُحسن اعتماد الطريقة المناسِبة لنُعلِّم الجميع. لكنّنا سنتقدَّم. ففي هذه اللّحظة بالذّات، المُوازية لتطوّر علوم الأعصاب، يجري اجتراح أُسس تعليميّة تُراعي إلى أبعد الحدود المُمكنة الأوضاع والحالات الفرديّة للمتعلِّمين.
إنّها ورشة بناء ضخمة؛ وهي في صدد الانطلاق، حيث الرّهان هو تحقيق المثال المساواتيّ: السماح لكلّ فرد ببلوغ مستوىً من المعرفة يسمح له بأن يُحسِن جيّداً التوجّه في دائرة وجوده، أي الحؤول دون خضوعه لأهواءِ المصير المُجتمعيّ”.
فيليب ميريو: “جمْع المَعارَف والقيَم“
“يردّنا سؤال ماذا على أنظمتنا التربويّة أن تَنقُل إلى إشكاليّتَيْن مُختلفتَيْن، إشكاليّة المضامين الثقافيّة وإشكاليّة القيَم التي يتعيَّن نقلها. من جهة، ثمّة الذين يصرّون على أهمّية اكتساب اللّغات، وإتقان المَعارِف، واكتشاف الأعمال أو النِتاجات. من جهة ثانية، ثمّة مَن يشير إلى أنّ الأساس هو في تملُّك القيَم وتنمية الاستقلاليّة. والحال أنّ هذَيْن البُعدَيْن هُما غير منفصلَيْن. فكلّ نَقْلٍ للمَعارِف، يحمل في الحقيقة، من خلال عمليّة اختيار المَعارِف، ومن خلال الطريقة المُعتمَدة لنقْلها- والتي هي غير مُحايِدة أبداً-، قيَماً بيِّنة أو صريحة وأخرى كامِنة أو ضمنيّة. وكذلك الأمر، ليس هناك من قيَم في حالة انعدام توازن ثقافي قابلة للنقل من غير وساطة المَعارِف ومن دون تجسّدها في تاريخٍ ما.
ما يغدو أساسيّاً في التربية إذن، هو الرابِط الذي يجمع بين المَعارف والقيَم. رفْع شِعار الجمهوريّة- حرّية، مساواة، إخاء- من دون تكوين الطفل وإعداده على حرّية التعبير والفكر، ومن دون النضال ضدّ اللّاعدالة والمُنافَسة الشَّرسة، يعني فقدان أيّ صدقيّة نتحلّى بها في عَيْنَيه. تعليم الحساب أو الفيزياء من دون تعزيز تطبيق الصرامة من خلال مُمارَسة النهج العِلمي والنقاش القائم على الحِجج، يعني إفراغ هذه التخصّصات من محتواها، والاستسلام لمُشاهدة أبنائنا مَفتونين بالنظريّات الخادِعة.
العمل على إظهار الإبداعات التي وضعها البشر على مرّ تاريخهم، ومُمارسة تقييمٍ يكتفي بالسطحيّ وبمُجازاته بعلامة سيّئة، يعني خيانة أولئك الذين ندّعي الانتماء إليهم.
القضيّة الأساسيّة في تربيتنا- بالنسبة إلى الأهل، وإلى المدرسة، والنسيج الترابطي أو وسائل الإعلام- هي إذن الانسجام والتناغُم. انسجامٌ وتناغُمٌ بين مبادئنا وأفعالِنا. انسجامٌ وتناغُمٌ بين المَعارف التي ننقلها والطريقة التي ننقلُها بها. انسجامٌ وتناغُمٌ بين ما نمنحه لأولادنا ليكون محطّ إعجابهم وما نقوم به معهم يوميّاً”.
جاك رانسيير: ” نَقْل الأشياء؟ هذا مجرّد وَهْم!”
“ماذا يجدر بنا أن ننقل للأجيال؟ الناس الأكثر تواضعاً يكتفون بنقل المَعارف. الأذكياء يتبجّحون مدّعين أنّهم يقومون بما هو أفضل من ذلك: أي أنّهم يعلّمون على التعلّم، وينقلون الفكر النقديّ وقيَم التفكير. لكنّ نموذج نقل المَعارف أو نمطه لا يعدو أن يكون واحداً: ثمّة شيء يجب نقله، سلعة روحيّة نعمل على إدخالها من دِماغٍ إلى آخر مثلما يتمّ انتقال سلعة مادّية من يدٍ إلى أخرى. نحن نشهد إذن، وبكلّ سرور، التراث الفكريّ والمعنويّ لمجموعةٍ ما وهو ينتقل إلى مجتمع العقول الطفوليّة في الوقت نفسه الذي يتمّ فيه نقل مبادئ تصريف الأفعال. هذا التخييل ضروريّ لاشتغال المؤسّسة التربويّة. وهو ضروري أيضاً لاشتغال نظامٍ اجتماعي يُماهي بين السلطة التي يتمتّع بها أصحابُ المُمتلكات وتلك التي يتمتّع بها أصحاب الكفاءات. يبقى أنّ كلمة ” نقل الشيء” لا تعدو كونها في الحقيقة خديعة. لقد سبق لأفلاطون أن سَخر من ذاك المُستمع الذي كان يلتصق بسقراط لئلّا يفوته شيء من تعليم المعلِّم: لا شيء يمرّ من دِماغٍ إلى آخر. ففي ما نسمّيه ” نقل الشيء”، ثمّة علاقة بين تمرينَيْن، أو، لكي نستعيد عبارات جوزيف جاكوتو، ثمّة علاقة بين تجربتَيْن أو مغامرتَين فكريّتَيْن. تتحدَّد التجربة الفكريّة للّذي أو للّتي تشغل وظيفة معلّم في حثّ الذين أو اللّواتي يواجهونه على الإجابة والتجاوب معه، وعلى البدء بطريقتهم الخاصّة للتعلّم. هذا التأثير حاسِم بالنسبة إلى الأفراد: فعلى هامش دَرْسٍ تلقّوه، أو تمرينٍ مُقترَح، يُمكن أن يُحالفهم الحظّ للانطلاق من بداياتٍ جديدة ومن مسارات غير مسبوقة في ميدان المَعرفة أو مَلعبها. يُمكنهم أن يُصبحوا أفراداً أحراراً يقرّرون إعمال هذه القدرة التي يَملكها الجميع، والتي يستكشفونها لدى الجميع”.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)