هل سيرسم الجنرالات ملامح سياسة ترامب؟
يستمر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في إثارة الانتباه مع كل إعلان عن مرشح جديد لتسنم أحد المناصب في الإدارة الأميركية المقبلة. لم ينتهِ ترامب بعد من تسمية جميع المرشحين للمناصب المختلفة، ولا تزال ترشيحاته بحاجة للحصول على موافقة مجلس الشيوخ. ولكن المرجح أن مرشحي أهم المناصب سيحصلون بالفعل على قبول مجلس الشيوخ؛ يمكن أن تظهر مقاومة لتسمية بعض المرشحين كجيم سيشنز، المرشح لمنصب النائب العام، ستيفن مانوشين، المرشح لمنصب وزير الخزانة، أندرو بوتسدر، المرشح لمنصب وزير العمل، وآخرين ممن يوجد في سيرتهم المهنية أو الشخصية ما يثير حفيظة بعض أعضاء مجلس الشيوخ من «جمهوريين» و «ديموقراطيين» على حد سواء. الجنرال مايكل فلين، المدير السابق لوكالة مخابرات الدفاع، والمرشح الحالي لمنصب مستشار الأمن القومي، يمكن أن يواجه أيضاً تصويتاً صعباً في مجلس الشيوخ، وسيحتاج غالباً للحصول على دعم الرئيس المنتخب الذي يملك علاقةً وثيقةً بفلين. وبرغم أن ريكس تيلرسون، مدير عملاق النفط «إكسون موبيل»، المرشح لتولي وزارة الخارجية، يتعرض بدوره للكثير من التشكيك حالياً بسبب مواقفه الودية تجاه روسيا، التي كانت قد منحته ميدالية الصداقة في العام 2013، إلا أنه قد حظي بتزكية بعض الأصوات المهمة مثل وزيري الخارجية السابقين كوندوليزا رايس وجيمس بيكر، وكذلك وزير الدفاع السابق روبرت غيتس. صحيح أن شهادة هؤلاء الثلاث يشوبها أن أصحابها لهم علاقة حالية بشركة «إكسون موبيل» ويستفيدون، بطريقة أو بأخرى، من وصول تيلرسون إلى منصبه، ولكن الانتقادات الأهم لتيلرسون تتعلق بموقفه من روسيا أكثر من كونه قادماً من صناعة النفط.
ولكن برغم أهمية منصب وزير الخارجية، واشتهار تيلرسون بذكائه ومعرفته الجيدة جداً بالكثير من بلدان العالم، إلا أن تيلرسون لا يُعرف بامتلاكه تصوراً عقائدياً معيناً لما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية للولايات المتحدة، كما لم يعبر في السابق عن أي رأي فيه موافقة أو انتقاد للسياسة الخارجية الأميركية في عهود الرؤساء الأميركيين السابقين. والأهم مما سبق هو أن تيلرسون لا خبرة له بالعمل الحكومي ولا يُعرف عنه امتلاك تصور حول الأخطار التي تحيط بمصالح الولايات المتحدة. يمكن القول إن الخصائص الفردية لتيلرسون تؤهله ليكون «مُنفِّذ» سياسة خارجية بارعا ومتمكنا أكثر منه «صانعاً» أو «راسماً» للسياسة الخارجية. فصناعة السياسة الخارجية تمر بتقدير المخاطر والمصالح وصياغة استراتيجية للتعامل معها. وعادةً ما يتصدى لهذه المهمة الرئيس الأميركي ووزير خارجيته ومستشار الأمن القومي، بمساعدة مستشاريهم. افتقار الرئيس للخبرة يتيح المجال لبروز تأثير مساعديه، كما حصل، على سبيل المثال، مع كل من الرئيسين جورج بوش الابن ورونالد ريغان. من بين الرجال الذين يحيطون بترامب حالياً، يتوقع أن تكون كتلة الجنرالات هي الأكثر تأثيراً، ولا يعود ذلك فحسب لخبرتهم الطويلة بالعمل الحكومي، لا سيما في المناصب القيادية، ولكن أيضاً لكونهم يمتلكون تصوراتٍ واضحةً للمخاطر التي تحيق بالولايات المتحدة وقد صاغوا تصوراتٍ معينة للتعامل معها، وطالما طرحوا تصوراتهم هذه على منابر البحث والنقاش وأثروا بالرأي العام، بمقدارٍ ما. كما يرجح أن تمنحهم نزعتهم القيادية والصدامية نفوذاً مهماً وقدرةً على التأثير في قرارات الرئيس ترامب ومنافسة أفراد الإدارة الآخرين بمن فيهم وزير الخارجية.
الجنرالات
الاهتمام بدور الجنرالات المحيطين بترامب يكتسب أهميةً كبيرةً لأسباب متعددة. بدايةً، لا يزال ماثلاً في الأذهان الخلاف الذي تفجر بين البنتاغون ووزارة الخارجية الأميركية نهاية الصيف الماضي في ما يخص التوصل إلى اتفاق مع روسيا لتطوير اتفاق وقف الأعمال القتالية إلى وقف شامل لإطلاق النار ومن ثم التعاون في محاربة تنظيم «داعش»، وكيف ساهم البنتاغون في تقويض الهدنة من خلال الغارة التي نفذتها طائرات التحالف على مواقع الجيش السوري في محيط مطار دير الزور، والتي أودت بحوالي 160 جندياً. لم يكن ذلك الخلاف بين البنتاغون وإدارة أوباما الأول من نوعه، فلطالما اعتبر الجنرالات أن إدارة أوباما تناصبهم العداء وتعمد إلى التدخل في التفاصيل الدقيقة لعملهم. لهذا لم يكن هناك مفاجأة حقيقية عندما خرج ترامب في شهر أيلول الماضي ليتهم أوباما بأنه «قد حول الجنرالات إلى حطام» وأن سياسات أوباما وهيلاري كلينتون التي حجّمت الجنرالات هي ما حال دون تطوير خطة فعالة للقضاء على تنظيم «داعش»، لم يترك ترامب من حاجة للتكهن بأنه سيمنح الجنرالات هامشاً أكبر للتحرك. تأثرت آراء ترامب بشكل واضح بآراء بعض الجنرالات السابقين الذين أحاط نفسه بهم، والأغلب أنهم هم من تمكن من الوصول إليه. أبرز هؤلاء الجنرال ديفيد بترايوس، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، الجنرال ستان ماكريستال، قائد القوات الأميركية في أفغانستان حتى العام 2010، الجنرال جون ألن، القائد السابق للتحالف المضاد لتنظيم «داعش»، الجنرال مايكل فلين، المدير السابق لمخابرات الدفاع الأميركية، والجنرال جون كيلي، القائد السابق للمنطقة العسكرية الجنوبية، والجنرال جيمس ماتيس، القائد السابق للقيادة المركزية. يمكن أن يضاف إلى هؤلاء أيضاً، عضو الكونغرس مايك بومبيو الذي وإن لم يكن يمتلك سجل خدمة عسكرية طويلة، إلا أنه قد تخرج من أكاديمية «ويست بوينت» العسكرية العريقة.
رشح ترامب رسمياً كلا من الجنرال ماتيس لتولي وزارة الدفاع، والجنرال فلين لتولي منصب مستشار الأمن القومي، والجنرال كيلي لتولي وزارة الأمن الداخلي، ومايك بومبيو لتولي إدارة وكالة المخابرات المركزية الأميركية. إلى جانب هؤلاء يُرجح أن يحتفظ الجنرال جوزيف دنفورد، رئيس هيئة الأركان المشتركة، بمنصبه خلال ولاية ترامب. فدنفورد لم يُمضِ سوى أقل من عام في منصبه الذي عادةً ما يحتفظ به صاحبه لثلاثة أعوام أو أكثر، حتى لو امتدت هذه الفترة بين إدارتين رئاسيتين مختلفتين، كما حصل مع الجنرال مايكل مولين (2007-2011) والجنرال كولين باول (1989-1993). فضلاً عن أن ترشيح رئيس هيئة الأركان المشتركة يصدر عن وزير الدفاع، ولا توجد أي معلومات حول أي خلافات بين الجنرال دنفورد والجنرال ماتيس. بل يمكن أن نقول العكس تماماً. فالجنرالات الثلاثة ماتيس، دنفورد، وكيلي لا يشتركون بأنهم قد قدموا من سلاح مشاة البحرية فحسب، بل إنهم قد عملوا سويةً، وترقوا، في صفوف الفرقة نفسها، الفرقة الأولى، وقاتلوا سويةً في معارك الكويت والناصرية وبغداد خلال عملية غزو العراق. وبينما يبدو الجنرال فلين معزولاً بسبب آرائه التي تعرضه للكثير من الانتقاد، يتشارك هؤلاء الجنرالات الثلاثة، ومعهم مايك بومبيو، الكثير من الآراء المتشابهة حول المخاطر التي تحيق بالولايات المتحدة.
سيناريو أربعة زائدا واحدا
يتشارك هؤلاء الجنرالات بتبني ما يصفه الجنرال دنفورد بسيناريو أربعة زائدا واحدا وهو سيناريو مجموع الأخطار التي يعمل الجيش الأميركي على الاستعداد لمواجهتها وهي روسيا، الصين، إيران، كوريا الشمالية، والتطرف العنيف. فلين بالمقابل يدعو بشكلٍ واضح للتعاون مع روسيا، ولكنه مهووس بفكرة العداء لإيران ويروى أنه في أعقاب الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، أصر فلين لأسابيع على أن إيران هي من يقف خلف الهجوم مطالباً مرؤوسيه بالبحث عن دليل يثبت هذه النظرية. ولكن هل سيستطيع فلين أن يفرض توجهاته الغريبة على منافسيه الكبار؟ يبدو هذا صعباً لا سيما أن فلين، لا منافسيه، هو من يتعرض للانتقادات الأشد اليوم.
الترجمة الفعلية الأولى المتوقعة لتوجهات الجنرالات الثلاثة ماتيس، كيلي، دنفورد، ستكون في زيادة ميزانية وحجم الجيش الأميركي. وبعدما كان أوباما قد عمل لسنوات لتخفيض ميزانية البنتاغون من 693 ملياراً في العام 2009 إلى 597 ملياراً في العام 2016، والعمل على تخفيض حجم كامل القوات الأميركية بحوالي 60 ألف مقاتل، ظهر أول ملامح عهد ترامب في الميزانية الدفاعية للعام 2017 التي أقرها الكونغرس منذ أيام والتي بلغت 618 ملياراً علماً أن أوباما كان قد أحال إلى الكونغرس في ربيع العام 2016 اقتراحاً بأن تشهد ميزانية العام 2017 المزيد من التخفيضات لتصل إلى 582 ملياراً.
إلا أن جنرالات ترامب يطالبون بالمزيد ومن بين ما يطالبون به زيادة تعداد القوات الأميركية المختلفة من الأفراد وكذلك زيادة الانفاق على برامج اقتناء الأسلحة الحديثة. هناك تفاصيل كثيرة يمكن سردها هنا ولكن يمكن الاكتفاء بالقول إن الجنرالات يطالبون بزيادة حجم القدرة العسكرية الأميركية بنسبة تزيد في بعض المجالات على عشرة في المئة، وبالتالي يمكن القول إن الجيش الأميركي في عهد ترامب سيسير في مسار مختلفٍ تماماً عما كان عليه في عهد أوباما. وسيناريو أربعة زائدا واحدا الذي يتحدث عنه الجنرالات يمكن أن يحدد لنا المناطق التي ستشهد حضوراً عسكرياً أميركياً متصاعداً، وهي مناطق المواجهة مع هذه الأخطار: شرق أوروبا، وبحر البلطيق، البحر المتوسط والشرق الأوسط، وجنوب شرق آسيا. إذا ما نجح الجنرالات في فرض سطوتهم، فمن الواجب مراجعة التصورات السابقة بأن إدارة ترامب ستكون إدارةً انعزاليةً تلجأ للنأي بالنفس عن مشاكل العالم.
صحيفة السفير اللبنانية