واشنطن و أنقرة .. بوادر صفقة كبرى تُطيح بالخلافات الاستراتيجية
ملفات خلافية كثيرة تراكمت مؤخراً بين الولايات المتحدة الأميركية و تركيا لجهة العديد من القضايا الإقليمية، إضافة إلى التوجهات العسكرية التركية التي تضع منظومات S-400 و S-500 الروسية في أولوية اهتماماتها، لا سيما أن السياسة الأميركية الجديدة تُجاه الشرق الأوسط، و التي وضعت الكرد على قائمة الأدوات التي سيُبنى على التعاون معهم في شرق سوريا، بيد أن ملفات أخرى كالعقوبات على إيران و الشروع الفعلي بتنفيذ صفقة القرن، لا يبدو أنها تُشكل شرخاً بين واشنطن وأنقرة، فالتصريحات التركية شيء، و البناء السياسي عليها شيء آخر.
إذ أن جوهر السياسية التركية يذهب بعيداً في هواجسه نحو الكرد، و بالتالي جنحت تركيا نحو روسيا على اعتبار القواسم المشتركة في السياسة و الاقتصاد بين البلدين، قد تؤسّس لعلاقة جيو استراتيجية، وعليه و انطلاقاً من القراءات التي أفردت لها مراكز الأبحاث الأميركية مساحات واسعة، رأت في تصوّراتها أن تركيا الحليف الأطلسي لابد من احتوائه و تبديد هواجسه، خاصة أن دونالد ترامب لم يستجب بشكل إيجابي لتطلّعات أردوغان، بل أبحر بعيداً في تجاهل تركيا، متناسياً حجم الآثار السلبية التي ستؤطّر السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، لجهة دفع تركيا باتجاه روسيا و الاعتماد عليها إقليمياً و دولياً، هذا الأمر من شأنه أن يزيد نفوذ روسيا بطريقة لا تتناسب و التوجّهات العامة لحلف شمال الأطلسي، و بالتالي و بناء على الإطار العام للسياسة التركية بشقيها الإقليمي و الدولي، بات من الضروري أميركياً البحث عن فواعل جديدة تُعيد أنقرة إلى الحضن الأطلسي، و لا ضير من بقاء التعاون مع روسيا لكن برعاية و إشراف مباشرين من واشنطن.
الواضح أن تركيا تعيش سلسلة من التحديات على الأصعدة المحلية و الإقليمية والدولية، هذه التحديات تفرض نمطاً من الاختلافات مع الدول الكبرى و مشاريعها التي تسعى لتنفيذها في الشرق الأوسط، و بالتالي فإن الأسباب الكامنة وراء التذبذب المستمر في العلاقة بين واشنطن و أنقرة قد لا يوصلها إلى طريق مسدود، لأن الطرفين يُتقنان الحفاظ على جُملة المصالح المشتركة، و اللعب على حبال المتغيّرات التي تؤسّس لها المسارات السياسية و العسكرية في سوريا و الإقليم، صحيح أن أزمات الثقة المتعدّدة التي عصفت في طبيعة العلاقات بين البلدين، قد بدأت تُصيب العلاقة الاستراتيجية بينهما بالنخر، إلا أن الحرفية السياسة لدى ترامب و أردوغان، و مبدأ المناورات لجذب المكاسب، قد حافظ شكلياً على أسس العلاقة بين واشنطن و أنقرة، الأمر الذي من شأنه ترطيب الأجواء بينهما و الشروع الفعلي بإعادة صوغ معادلة جديدة تُحقق غايات و أهداف الطرفين.
متلازمة الكرد التي تؤرِق تركيا شكلت منعطفاً حاداً في العلاقة بين البلدين، و لا شك بأن الكرد باتوا بمثابة العصا السحرية بيد واشنطن التي لا يقوى أردوغان على مقاومتها و الانجرار نحوها، على الرغم من كل محاولات تركيا أردوغان الإفلات من تأثير الكرد و تهديداتهم للأمن القومي التركي، إلا أن واشنطن لا تزال تتخذ من الكرد ورقة رابحة تُحقق التوازن المطلوب أميركياً في المثلث السوري العراقي التركي، لذلك باتت السياسة الأميركية تعتمد مبدأ شد الحبل مع تركيا، من دون السماح بانقطاعه لمنع التدهور الكلي في العلاقات بين البلدين، فالقضايا الخلافية قد تُحل لضمان الحفاظ على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، خاصة أن ” مدير الاستخبارات القومية الأميركية دان كوتس 2011 – 2017 ” اعتبر أن السلطات التركية تسعى إلى تحدّي أميركا في المنطقة، مشدداً على أن العلاقات بين البلدين تزداد صعوبة، وقال كوتس في وقت سابق خلال جلسة استماع في لجنة الاستخبارات لمجلس الشيوخ التابع للكونغرس الأمريكي: “تمرّ تركيا، وفق تقديراتنا، بتحوّل في هويتها السياسية والقومية، الأمر الذي سيعقّد إدارة العلاقات بين واشنطن وأنقرة خلال السنوات الـ5 المقبلة”، وأوضح كوتس: “الطموحات الإقليمية لتركيا وعدم ثقتها بأميركا بالإضافة إلى ارتفاع مستوى تسلّط زعمائها تزيد من صعوبة العلاقات الثنائية وتعزّز استعداد أنقرة لتحدّي أهداف سياسات واشنطن في المنطقة”، و بالتالي بات من الضروري تصفير الخلافات بين واشنطن و أنقرة، فالتهديدات الأميركية بسلاح العقوبات الاقتصادية كالتهديد بوقف صفقة مقاتلات F-35، والتهديد بفرض عقوبات اقتصادية في حال استمرت أنقرة باستيراد النفط الإيراني، قد لا يُحقق غايته، و بالتأكيد ستنجم عن هذه الضغوط ردّة فعل عكسية تدفع تركيا إلى التصلّب في مواقفها، كما سيدفعها ذلك إلى تعميق العلاقة المتعدّدة الجوانب مع روسيا و إيران، الأمر الذي سيؤدّي إلى توفير خيارات استراتيجية كثيرة بيد أردوغان، تُحقق له ما يصبو إليه بعيداً عن واشنطن، و عليه فإنه من المفيد عقد صفقات بين الجانبين من شأنها تسوية الملفات الخلافية، حول مواضيع محدّدة، فملف منبج وشرق سوريا لا يزال معلقاً، على الرغم من التوصل إلى اتفاق بشأنه قبل حوالى العام، كما أن ملف باتريوت لا يزال معلقاً، إضافة إلى أن ملف مقاتلات F-35 بانتظار البتّ ريثما يُنظر في مصير صفقة S-400، وكذلك الأمر في ما يتعلق بواردات إيران النفطية التي تقول تركيا إنه سيكون من الصعب جداً تعويضها خلال فترة قصيرة من الزمن.
الانطباع بأن تركيا قد لا تُعير اهتماماً للتهديدات الأميركية لا يبدو دقيقاً، فالقرارات الصادمة لدونالد ترامب أفقدت أردوغان وعيه السياسي مرات كثيرة، فحين يُعلن أردوغان أن صفقة الصواريخ الروسية قرار سيادي لا يجدر بأي طرف الاعتراض عليه، و أنه بذات التوقيت لا تريد تركيا التصعيد مع أية قوى دوليه و تبحث عن حلول وسط في كل الملفات العالقة إقليمياً و دولياً، فهذا بالتأكيد جانب من مناورة سياسية يُتقن أروغان لعبها، كما أنها رسالة سياسية لواشنطن تتضمّن تطمينات مقابل الحصول على ضمانات في ملفات محدّدة كملف الكرد، و على ما يبدو بأن هذا الملف الذي يُشكل هاجساً لأردوغان، قد تم الاتفاق عليه برعاية أميركية، فالصفقة الجديدة التي عقدها أردوغان و قوات سوريا الديمقراطية تتضمن إعادة هيكلة المسألة الكردية في كامل الإقليم، و هذا الأمر يندرج حُكماً في نهج واشنطن القائم على إدارة الصراع بين الحليفين التركي و الكردي، و الواضح أيضاً أن التفصيلات الجوهرية في هذا الاتفاق تعتمد على نقيضين تُعاديهما تركيا، ألا و هما دمشق و الكرد، و بالتالي فإن اللعب التركي على حبال المتناقضات، قد أثمر جفاءً بين دمشق و كردها، و تقارباً مع واشنطن و بيادقها، و بالتالي هذا الأمر ستكون له تداعيات عديدة تتعلق بالمنطقة الآمنة و جزئياتها شرق سوريا، كما سيمتد تأثير هذه الصفقة على ملفي إدلب و منبج، و بالتالي باتت بوادر الصفقة الكبرى بين الولايات المتحدة و تركيا تلوح في أفق التطوّرات الإقليمية القادمة، في انتظار حدوث مفاجآت تتضمّن سيناريوهات سورية روسية إيرانية صادمة، ستقلب الطاولة على صفقة واشنطن أنقرة.
الميادين نت