ياسر محمد ابراهيم: “ضحكة القمر” للكاتب الروائي محمد جمال الدين.. عندما يكون التاريخ خلفية لقصة حب
فاجأ الكاتب الروائي المصري محمد جمال الدين جمهوره بعمل إبداعي” ضحكة القمر” ينحو باتجاه الرواية التاريخية وهو عمله الإبداعي الأول في هذا الاتجاه وقد سبقه بمجموعة كبيرة من الروايات منها ” “قبل أن يرحل الملاك” و” أجنحة تتوهم الصعود” و” أحلام تستعد للغروب” وحدائق الذاكرة” و” الفردوس الأخير” وعدد من المجموعات القصصية التي من أهمها “رائحة عجوز” و” الحياة في أماكن الموتى”، وسوف نتناول في هذه المقالة رواية” ضحكة القمر” والتي قبل الولوج في تفاصيلها لابد من الاتفاق على أن الرواية مثلها مثل التاريخ تقوم على بنية زمنية تاريخية يتم تشخيصها في فضاء مكاني يستمد مادته من الماضي ويستمر حتى لحظة الكتابة التي قد يتخطاها أحيانًا نحو المستقبل.
وقد اتخذ محمد جمال الدين في “ضحكة القمر” التاريخ فضاءً مكانياً زمانيًا لروايته، حيث تدور أحداثها في الفترة التي عاشتها مصر المحروسة إبان السنوات الأولي لحكم محمد على والصراع مع بقايا المماليك حتى أستتب الأمر لمحمد على، وينطلق الكاتب من هذا الفضاء الزماني والمكاني في سرد روائي لقصة حب بين بك مصري وفتاة مصرية، ومن خلال القراءة يمكننا القول أننا أمام رواية استخدم فيها التاريخ كخلفية لتلك الحالة العاطفية، حيث أنه بالرغم من الإتكاء على أحداث تاريخية داخل بنية العمل الذي تقوم عليه الرواية، إلا أننا نجد السرد لا يصف تلك الأحداث التاريخية وصفًا خارجيًا بقدر أنه مهتم بشكل كبير بما يعتمل داخل مشاعر الشخصيات وتأثير تلك الأحداث وانعكاس أثرها عليها.
لأن الكاتب يعي أنه يكتب رواية تتخذ من التاريخ فضاءً زمانيًا ومكانيًا، حاول أن يقدم شخصية المؤرخ حتى يضفي على عمله بعدًا تاريخيًا حقيقًا ليس متخيلاً فنجد شخصية المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي تظهر على استحياء حيث جاءت في إطار الكتابة عن مؤرخ أخر متخيل هو حسن المتين ذلك الحوذي المصري الذي بحث عن الجبرتي في الأسكندرية حتى وجده ” لم يكن بحثه عن عبد الرحمن الجبرتي لمجرد الجلوس بين يدي كاتب للتاريخ وراصد للأحداث فحسب بل كان مع كثير من أهل مصريتناقلون أخبار بلادهم وموقفهم من المحتلين والعملاء” ، ولإضفاء مزيد من الايهام بواقعية هذه الشخصية يقول الكاتب” لقد أجله الجبرتي كثيرًا، وهو يجد منه بعض المعلومات التي أفادته شخصيًا، لاسيما في صراعات الجنوب ووقوف شيخ العرب همام في وجه على بك المملوكي”، ” كان يعانقه عندما يراه ويفرد ذراعيه على اتساعهما ليستقبله ويسأله عن أخبار القاهرة والصعيد”
وتصفه زوجته فتقول” أبو علي يقرأ ويكتب ويحكي لي عن المحروسة وعن الأجداد وعن المحتلين والمخلصين، الحجرة في الخلف بها كتب كثيرة أبوعلى قرأها كلها ، مايكسبه نأكل ونلبس بنصفه، والبيت ملكنا، والنصف الثاني من مكسبه لشراء الكتب والأوراق والأحبار”
هنا نلاحظ أن محمد جمال يريد أن يرتفع بروايته تجاه الرواية التي تريد إيصال رسائل أيديولوجية لكن برؤية فنية، ويتجه نحو ما يريد بقدرته على حشد الحادثة التاريخية وقوتها بسرد يلبي ما يطمح في إيصاله دون أن يكون هناك تطابق بالضرورةً مع حدث واقعي، وفي سبيل ذلك انتخب محمد جمال لقطات محددة بدقة وعناية شديدة وزاويا مناسبة مكنته من رؤيته السردية للحدث.
” وسط صراع آخر يخوضه المماليك مع محمد على باشا بتحريضهم الأهالي والأعيان على عدم دفع الضرائب المقررة، لقد كانت مذبحة المماليك الثانية التي خاضها إبراهيم باشا على أطراف النوبة عظيمة ولا تقل عنفًاعن تلك المذبحة التي خاضها أبوه في قلعة الجبل، حيث استأصل ما تبقى منهم فكانت إنذارًا قويا لأحفاد شيخ العرب همام، حسن وحسين ومحمد ، بالانصياع السريع ليد إبراهيم باشا شديدة البأس عانى سكان الصعيد من ويلات الحروب ما بين مدافع وتجريدات على بك الكبير وضربات إبراهيم باشا لإخضاع كل الأقاليم لسلطان الوالي””
لايخلو هذا العمل الروائي “ضحكة القمر” من الكثير من المعطيات والإشارات التي سربها محمد جمال الدين بذكاء شديد داخل نصه المتخيل، والتي تحمل في جانبها الأكبر الكثير من أفكاره ومعتقداته، وقد عشقها بأسلوبية رائعة، وصاغ نسيجه المتخيل السردي الذي بدت فيه تلك الأفكار كأنها الصبغة أو الخضب التي منحت هذا النص لونه المميز فهو يتسامح مع كل شيء وأي شيء طالما كانت النتيجة في صالح مصر ” كان معجبًا بمحمد على باشا، ويكره كل أساليبه، ثم يلتمس له العذر فلابديل لصعود مصر إلا بهذه الطريقة، ولاسبيل لأطماع الباب العالي إلا بما يجمع من ضرائب أنهكت الشعب، لكن لابأس طالما ستنهض مصر”
” تمددت حروب إبراهيم باشا، وكما توقع حسن المتين تمامًا هي الأن ضد العثمانيين ، لقد علم وسط مشاكله أن الجيش المصري يكتسح كالسيل كل من يقف في طريقه وأنه في طريقه لغزو عاصمة العثمانيين، وكم كان سعيدًأ جدًا وحسن يخبره بذلك وتكشف”ضحكة القمر” عن مقاطع سردية عديدة العمق الفكري للكاتب وخبرته الإبداعية ورغبته في أن يسرب بعضًا من أفكاره حول فترة زمنية تخيل أحداثًا تلائمها واستلهم مادته الحكائية منها.
يختزن التاريخ العديد من التجارب والشخصيات والحكايات التي لايمكن للروائي أن يهملها، وذلك حين يريد كتابة رواية تستلهم حدثًا تاريخيًا أو إحدى الحقب الزمنية حتى يحظى عمله الروائي على رضا القارئ وإحساسه بالصدق السردي الجمالي للكاتب، وقد نجح محمد جمال الدين في “ضحكة القمر” في أن يبني عالمه السردي الذي يتكئ على حوادث تاريخية أو إن شئنا الدقة فترة تاريخية، دون أن يقع في فخ التورط التاريخي على حساب القيمة الجمالية والفنية لسرده المتخيل بالأساس، لذلك جاء التاريخي في الرواية كما قلنا مسبقًا كديكور أو خلفية لقصة حب بين البطل السيد أحمد والبطلة صفية، لكن هذه الحوادث التاريخية تترك تأثير في المحيط المكاني والزماني الذي بالضرورة يظهر تأثيره على شخصيات العمل، وقد استطاع الكاتب ببراعة أن يستعير بعض الحوادث التاريخية ويوظفها توظيفًا فنيًا وينقلها في فضاء نصه المتخيل الذي يستمد قوته من قدرة محمد جمال الدين على السرد ومرجله الذي أذاب فيه فواعل حوادثه التاريخية التي اعتمد عليها في نصه السردي لاسيما تلك التي تشكل وعيه بالتاريخ ، لدرجة أن محمد جمال الدين كان وفيًا لتعريف جورج لوكاتش للرواية التاريخية بأنها “عمل فني يتخذ من التاريخ مادة له، ولكنها لا تنقل التاريخ بحرفيته، بقدر ما تصور رؤية الفنان له”.
من الثابت تاريخيًا أن الأقباط عاشوا حياة أفضل تحت الحكم العثماني مقارنة بحياتهم السابقة في فترة حكم المماليك، وولتهم الإدارة العثمانية الأمور المالية لخبرتهم. لكن على الرغم من محدودية الحرية التي أعطيت لهم كحق العبادة، إلا أنهم كانوا يتعرضون إلي مضايقات مثل رفض شهادتهم أمام المحاكم أو حتى ركوب الخيل، لكن خلال حقبة محمد علي باشا تحسنت أوضاعهم وقرب إليه المسيحيين كما المسلمين، واستعان بهم في حكمه وأدخلهم في حاشيته.
” ضحك الوالي بشدة وقال : ـ انعمنا عليك بلقب بك، وكل ماكان يعانيه المسيحيون لم يعد قائمًا، سيخرجون وقت مايريدون، وسيلبسون ألوانًا أخرى غير التي فرضت عليهم، وهم مواطنون مصريوم لهم كل الحقوق، يخرجون، ويحتفلون ويسافرون”
ويظهر الوجود الروائي للشخصيات القبطية بعد مساحة من ظهور أبطال النص الفاعلين، وقد قدم محمد جمال الدين الشخصيات القبطية كشخصيات نامية ساهمت بفاعلية في تطور أحداث الرواية وسيرورتها، وبدأ بشخصية الريس غالي شكرالله الخبير بمنطقة الصعيد ” يعلم الكثير عن مستقبل المنطقة وكان كثير الأسفار للمحروسة لمعرفة الأخبار، والاقتراب بصداقات قوية من رجال قريبين من الحكم”
ولثقة السيد أحمد بطل النص في الريس غالي” ترك له مكتوبًاموثقًا بالتصرف في تلك الأراضي المفتتة، والتي تساوي مبلغًا كبيرًا قد يتجاوز الثلاثمائة جنيهًا ذهبًا، وحاول بعض أقاربه أن يراجعونه ويوجهون له اللوم قائلين : ـ تترك أرضك وتمنح ثقتك لرجل ليس على دينك .
فصاح فيهم قائلاً ـ الريس غالي رجل أمين وهو مصري مثلكم وأصيل الجذور أما دينه فهو حر فيما يراه مناسبًا له”.
ويعد ظهور شخصية الريس غالي ذلك الوطني الذي ُقتل دفاعًا عن رفضه فرض ضرائب متساوية على كل النخيل، ظهورًا تمهيديًا لبروز المكون المصري القطبي كفاعل في سيرورة الأحداث، حيث يظهر ابنه باسليوس وأسرته وأعمامه حنا وفلتاؤوس، وهدى منير زوجة فوزي غبريال، وليلى نجيب زوجة باسليوس غالي.
ويتجلى دور الشخصيات القبطية في نمو أحداث الرواية وسيرورتها عندما يطلب من باسليوس ابن الريس غالي الذهاب إلي دير العذراء للسؤال عن دواء لصفية، ودور الراهب ماكسيموس وكذلك الراهب الشيخ الذي فسر رؤيا صفية.
قبل أن نغادر”ضحكة القمر” ذلك العمل الممتع أود أن نعرج بصورة سريعة على ملمحين هامين في الرواية وهما السرد واللغة.
خلت” ضحكة القمر” من التقنيات السردية التي باتت تكنيكات مستهلكة ولم تعد قادرة على جذب القارئ، ومن تلك التقنيات التي ابتعد عنها محمد جمال الدين تقنيتي “رواية الرسائل” و ” رواية المخطوط”، لكنه تمكن من خلال خبرته الإبداعية في أن يعرض للمعلومة التاريخية عن طريق انعكاسها على التصرفات والممارسات السلوكية لشخصيات “ضحكة القمر” فظهور المعلومة التاريخية يتم تأطيره بحالة الفرح أو الحزن التي تظهر على شخصيات العمل دون تدخل سارد يوقف الحديث، كما يغلب على “ضحكة القمر” تصاعد أحداثها ، وقد نجح محمد جمال الدين في أن يجعل المتلقي في حاجة دائمة إلي نهاية تحسم الموقف.
يضاف إلي ذلك أن الكاتب نجح ببراعة في ترتيب أوضاع شخصيات العمل ومنظوراتهم السردية، وذلك وفق خطة سردية محكمة فنراه يقدم شخوص العمل والأحداث المهمة في حياتها حتى يكون المتلقي قريبًا منها ولديه معرفة مسبقة بما شكل وعيها، فضلاً عن ما يتيحه هذا التقديم في تحديد مسار الشخصية، كما يعلق الكاتب على كلام الشخصيات وداول الخطاب فيما بينهم ببراعة فنية وجمالية، ويكشف الحوار الذي دار بين شخصيات “ضحكة القمر” عن الملامح المميزة لشخصيات العمل، وهي تقنية يعتمدها كتاب الرواية لتقريب الشخصية الروائية من المتلقي وللاندماج في عالمها، ونجح محمد جمال الدين في ذلك إضافة إلي نجاحه في تطابق سلوك الشخصيات مع نوعية الحوار الذي يدور فيما بينهم
تميل لغة “ضحكة القمر” إلي الوصفية الشعرية والتي ظهرت منذ شعرية العنوان، ولأن الكاتب يدرك أن روايته في الأساس عن علاقة حب بين البطل والبطلة وأن الأحداث التاريخية في ثنايا العمل ليست سوى خلفية، جاءت لغة “ضحكة القمر” في أماكن كثيرة أقرب للشاعرية في رواية لم تجعل التاريخ هاجسها الأول، حيث استخدمه ببراعة لحكي فني مرتبط بشخصيات العمل ومكانه وزمانه، وهو ما أنتج فضاءًا روائيًا نجح الكاتب في أن يحقق من خلاله شعرية عالية تجلت في العديد من المقاطع السردية والمشاهد الوصفية، والتصويرية والرمزية في بعض الأحيان، فضلاً عن توظيفه للمجاز والإستعارة.
“اجعلني دائما خلفك، أخبئ حلمي داخلك حتى هدأة الليل فلعل الحلم يستيقظ على أطراف مدائن روحك، فينبت ورودًا أو أشواكًا أو ريحًا تذهب بي حيث شاءت، أو ابعثه شفقًا غاربًا كابنسامة خجلى في ثغر سماوات عشقك لأعود في ليل جديد وأجلس بانتظار الحلم كي تتعانق روحانا رغمًا عنهم”
” لقد اخترتك أنت ولم أفكرفي حياتي بإمرأة أخرى ولو في أحلامي، ضعي قلبك دائما في حدائق قلبي ستجدين ياسمينًا وقرنفلاً وزنبقات فاتنة وفلاً أبيض وشمسًا لا تغيب، وإن غابت حلت بدلاً منها أقمار ونجمات خالدة تحمل النور نحو وجهك”
ولا غرابة في ذلك فالكاتب بدأ مسيرته الإبداعية بكتابة الشعر، لذا يمكننا أن نستخلص أن موهبته الشعرية هي التي تكمن وراء هذه الشعرية التي نلمحها في متنه الروائي.
صحيفة رأي اليوم الالكترونية