99 في المئة| برتولد برشت في مواجهة آليات القمع الفاشي

 

أي زمن هذا!

 

إن الحديث عن الأشجار

 

يوشك أن يكون جريمة

 

لأنه يتضمن الصمت

 

عن أهوال لا تُحصى”.

 

بهذا الجزء المقتطف من قصيدة تعتبر بين أشهر قصائد برتولت برشت (1898 – 1956)، كتب الشاعر وصيته “إلى الأجيال القادمة” التي يعتذر فيها عن إخفاق جيله في مواجهة الزمن الفاشي الأسود. افتتح المترجم سمير جريس ترجمته مع المترجمة ريم نجمي لمسرحية برتولت برشت “99 في المئة.. الخوف والبؤس في الرايخ الثالث”، الصادرة عن الهيئة العربية للمسرح، واستكمل بقول برشت:

 

“كنت أتمنى أن أكون حكيماً.

 

عن الحكمة نقرأُ

 

في الكتب القديمة:

 

أن تتجنب الخصام في العالم،

 

وأن تعيش وقتك القصير بلا خوف

 

وأن تحيا بلا عنف. (…)

 

كل هذا لا أقدر عليه

 

قواي تخور.

 

والهدف بعيد جداً.

 

هكذا يمضي الوقت

 

الممنوح لي على هذه الأرض”.

 

وأضاف جريس في مقدمته التي أحاط فيها بجوانب مهمة من حياة برشت والأجواء التي كتب فيها مسرحيته “حقاً، عاش برشت في زمن حالك السواد”، ومضى “الوقت الممنوح له على الأرض” وهو يفر من وجه النازيين، “يغير بلدا ببلد/أكثر مما يغير حذاء بحذاء”، مثلما قال في إحدى قصائده. وقد لاحق النازيون برشت منذ عام 1930. وعندما اقتحمت الشرطة أحد عروضه في عام 1933، واتهمت منظم العرض بالخيانة العظمى، أدرك أن عليه الرحيل. وفي 28 فبراير 1933 -أي بعد مرور شهر على انتخاب هتلر وتولي النازيين السلطة، وبعد يوم واحد من حريق الرايخستاغ (البرلمان الألماني)ـ قرر مغادرة وطنه.

أخذه قطار المنفى في البداية إلى براغ وفيينا، ثم إلى زيورخ، ومنها إلى الدانمرك حيث عاش عدة سنوات. ولأنه كان يخشى أن يحتل الجيش الألماني الدانمرك (وهو ما حدث فعلا) واصل الرحيل إلى السويد في ربيع 1939، ثم إلى فنلندا. وفي عام 1941 حصل على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، فرحل إلى هناك حيث اشترى بيتا واستقر في سانتا مونيكا بالقرب من هوليوود. ولكن حقبة المكارثية والتحقيقات التي أجريت معه بتهمة الشيوعية وضعت حدا لهذا الاستقرار، فهاجر من جديد إلى سويسرا، ثم حاول السفر إلى برلين الغربية، إلا أن سلطات الاحتلال الأميركية منعته، فدخل برلين الشرقية في أكتوبر 1948. وسرعان ما احتضنته قيادة الدولة الجديدة في الشطر الشرقي من ألمانيا المقسمة، وعهدت إليه بإدارة مسرح “برلينر إنسامبل” الذي أصبح اسمه “مسرح برشت”.

ورأى جريس أن برشت الكاتب الشاب آنذاك، كان ذا نظرة ثاقبة، وتحليل دقيق للظروف المجتمعية التي أدت إلى مولد النازية. في عام 1935 ألقى برشت كلمة في المؤتمر الدولي للكتاب المنعقد في باريس، هاجم فيها زملاءه “البورجوازيين” الذين اعتبروا النازية مرضا عابرا أصاب الجسد الألماني، أو “عطلا” مفاجئا في ماكينة الدولة. لم ينضم برشت إلى جوقة الذين شيطنوا هتلر، أو نظروا إلى أتباعه باعتبارهم “حثالة” الألمان، إذ أنها بذلك كانت تنزع المسؤولية عن نفسها، فهتلر وأتباعه -في نظر ذلك الفريق- لا يمثلون ألمانيا أو الألمان.

رأى برشت أن الأمر أكثر تعقيدا من ذلك؛ فالنازية في ألمانيا، والفاشية في أوروبا، هما نتيجة مباشرة للنظام الرأسمالي المتوحش الذي يدافع عن مصالحه “بالأنياب والأظافر”، مستغلا الطبقة العاملة أبشع استغلال. كان هتلر قد تحالف في ألمانيا تحالفا قذرا مع رجال أعمال مرموقين مثل أصحاب شركات كروب وتيسين وسيمنس ود. أوتيكر وفولكسفاغن وباير، ودويتشه بنك، لذلك قال برشت إن الذي يهاجم الفاشية دون مهاجمة أسبابها أو محاولة اجتثاث جذورها، أي دون مهاجمة النظام الرأسمالي الظالم، ودون “تغيير علاقات الملكية”، هو كمن يرفض ذبح العجل، لكنه يستمتع بأكل قطعة من “الأستيك”؛ أو بكلمات برشت “هؤلاء يريدون نصيبهم من العجل، لكنهم لا يريدون ذبحه؛ يريدون أكل لحم العجل، لكنهم لا يريدون رؤية الدماء. وهم يشعرون بالرضى عندما يغسل الجزار يديه قبل أن يقدم لهم اللحم”.

وأوضح أن برشت لم يكن يريد أن يكتب أعمالا يضعها في درج مكتبه انتظاراً لزمن أفضل، بل كان يريد المساهمة في مكافحة الفاشية. وهكذا بدأ في منفاه الدانمركي يجمع مادة عن الرايخ الثالث، مستخدما برامج إذاعية وتقارير صحفية وشهادات شهود عيان، واستنادا عليها كتب في الفترة من 1935 حتى 1938 خمسة وثلاثين مشهدا تصور الحياة اليومية في ألمانيا النازية. من بين تلك المشاهد تم اختيار 24 مشهدا عندما طُبعت المسرحية لأول مرة في ألمانيا عام 1948، وهي المشاهد المُترجمة هنا.

وقال “أطلق برشت على عمله في البداية عنوان ‘ألمانيا حكاية وحشية’، وهو عنوان يحيل بالطبع إلى قصيدة هاينريش هاينه ‘ألمانيا حكاية شتوية’. وفي 21 مايو 1938 شهدت باريس العرض الأول (بالألمانية) لثمانية مشاهد من المسرحية تحت عنوان “99 في المئة-صور من الرايخ الثالث”، وقامت بدور البطولة هيلينه فايغل، زوجة برشت. ويسخر العنوان مما روجته الدعاية النازية عن الانتخابات البرلمانية التي أجريت في العاشر من أبريل 1938 (أي عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية)، حيث أشاعت أن نسبة الألمان الذين انتخبوا هتلر بلغت 99 في المئة. أما العنوان الذي اختير بعد ذلك في طبعة الأعمال الكاملة لبرشت فهو الخوف والبؤس في الرايخ الثالث”.

وقد فضلنا في هذه الترجمة عنوان العرض الباريسي الأول “99 في المئة”، لأننا نرى أن المسرحية لا تتحدث عن الرايخ الثالث أو عن ألمانيا فحسب. إنها تعرض ببراعة آليات القمع الفاشي وإمكانية استخدام الديمقراطية والانتخابات سواء كانت نزيهة أم مزورة لإقامة نظام يزرع الخوف في نفوس الناس، وينشر البؤس الأخلاقي بينهم. ولا يخفى عن القارئ أن نسبة 99 في المئة ظلت سُنة متبعة في بعض الانتخابات العربية.. وبعد باريس عُرضت المسرحية في سان فرانسيسكو بحضور الكاتب في 7 يونيو 1945، أي في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان العرض جزءا من الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة تأسيس الأمم المتحدة وتوقيع ميثاقها. وفي 30 يناير 1948، أي في ذكرى مرور 15 عاما على تولي هتلر السلطة، عُرضت المسرحية لأول مرة في ألمانيا.

وكشف جريس أن المسارح الألمانية بدأت تعيد اكتشاف هذا النص في الآونة الأخيرة، لا سيما بعد تنامي تيارات اليمين المتطرف في أعقاب مجيء أعداد كبيرة من اللاجئين إلى ألمانيا؛ فنجد مسرحيْن مرموقيْن ـ مسرح برلينر إنسامبل “مسرح برشت سابقا”، ومسرح دورتموندـ قد اختارا بعض المشاهد من المسرحية لتقديمها على الخشبة في 2016.

وأشار أن برشت صدّر مسرحيته بقصيدة نثرية كتبها عام 1938 وأعطاها عنوان “استعراض الجيش الألماني”، أشار فيها إلى هدفه من المسرحية، وهي أن يرى المشاهد الحالة النفسية للشعب الألماني الذي يطيع قائده طاعة عمياء في الطريق إلى “حربه العظيمة”، دون أن يتجرأ أحد على الشكوى أو التذمر أو طرح أسئلة.

وتعقب القصيدة مشاهد تبدو منفصلة، إلا أنها تكوّن عبر تقنية “المونتاج” لوحة مفزعة عن الحياة في دولة فاشية؛ حياة يسودها خوف يدفع الغالبية إلى نشدان السلامة ومماشاة النظام أو الصمت. القاضي في المسرحية يخشى أن يبحث عن الحقيقة، لأنه لا يريد أن يغضب سادته فينقلونه إلى قرية نائية. يقول القاضي في مشهد “العثور على الحقيقة”: “أستطيع إصدار حكم على هذا النحو، أو ذاك، حسب المطلوب منّي، ولكن لا بد أن أعرف ما هو المطلوب مني!”، جملة شبيهة يقولها المعلم في مشهد “المخبر”: “أنا مستعد لتدريس كل ما يريدون، ولكن ما الذي يريدون تدريسه؟ ليتني أعرف!”، هكذا أيضا يخاف العلماء من مجرد النطق باسم أينشتاين لأنه عالم يهودي؛ ويتجنب الأطباء ذكر سبب الأمراض لأنهم يعرفون أن مرضاهم تعرضوا لتعذيب قاس؛ ويتجاهل القس الأسئلة التي تعذب الرجل المحتضر، ويكتفي بعبارات التعزية المطاطة من الكتاب المقدس.

الخوف يلجم الألسنة لدرجة أن المحتضر يسأل القس: هل تعتقد أن المرء بإمكانه هناك، في السماء، أن يفتح فمه مرة أخرى؟ هكذا نجح النظام النازي في زرع الخوف والشك في نفوس الناس، وترسيخ نظام الوشاية. كل شخص يتلفت يمينا ويسارا قبل أن ينطق بأي شيء مهما كان تافها “التلفّت” من الكلمات التي تتكرر كثيرا في المسرحية.

وقال جريس “في أحد المشاهد الدالة في المسرحية يتبادل نازيان الحديث، ويسأل أحدهما الآخر: كيف تجعل الناس يَقبلون بلا تذمر ما كانوا يرفضونه بالأمس؟ عندئذ يشير الأول إلى قطة تتشمس قائلا: لنفترض أنك تريد أن تطعمها ملعقة كبيرة من المسطردة، كرهت القطة أم أحبت، ماذا تفعل؟ يأخذ الآخر المسطردة ويدخلها إلى فم الحيوان قسرا، غير أن القطة تقوم بالطبع ببصق المسطردة على الفور في وجهه، دون أن تبلع نقطة، ولا ينوب الشخص إلا خربشات لا تعد ولا تحصى. عندئذ يقول الأول: أنظر إليّ! ثم يتناول المسطردة بسرعة ماهرة، وفي لمح البصر يلصقها بمؤخرة القطة البائسة التي تحاول على الفور وهي مأخوذة مخدرة -فالألم فظيع- أن تلعق المسطردة كلها. هل ترى يا عزيزي، يضيف الأول بلهجة منتصرة: الآن تلتهم المسطردة! وبكامل إرادتها! مشهد “صليب الطباشير”.

كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم نظاما كهذا؟

كيف يقاوم عامل ـمثلاـ لا يجد عملا إلا في مصنع ينتج سلاحا لهتلر؟

ولفت إلى أن برشت لا يتورط في الإدانة المتعالية وهو الذي نجا بنفسه عبر المنفى، ولذلك يعرض أزمة المقاومين ويتعاطف معهم، وهم لدى برشت من طبقة العمال والبسطاء على وجه الخصوص: الأم التي ترفض أن تتماهى ابنتها مع شبيبة هتلر؛ أو المحتضر الذي يظل حتى آخر أنفاسه يهاجم ابنه، معتنق الأيديولوجية النازية، ويسخر من القس الذي يتهرب من اتخاذ موقف صريح، مستخدما عبارات فضفاضة مثل “إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله”؛ أو المرأة التي ترتدي السواد وتبكي وتنتحب حزنا على مصرع أخيها الطيار، متحديةً بذلك أوامر النازيين، بل وتصفهم بأنهم “عتاة المجرمين”، غير عابئة بعواقب كلامها.

ورغم كل شيء يرى برشت بصيصا من الأمل. وهو ينهي مسرحيته برسالة أحد المقاومين المحكوم عليهم بالإعدام، يؤكد فيها لابنه أن نضاله لم يكن عبثا، وأن حياته اكتسبت قيمتها عبر مقاومة القامعين، لأنه إذا لم يفعل “غرقت البشرية كلها في أوحال الهمجية”. ويختتم برشت المسرحية بكلمة واحدة، أو صرخة وحيدة، هي: لا!

وتطرق جريس إلى برشت وأثره عربياً حيث قال “لا يزال برشت يتمتع بالراهنية في المنطقة الألمانية، وما زالت مسرحياته تُمثل، وأشعاره تُقرأ، كما أن رائد المسرح الملحمي يعتبر من أشهر الكتاب الألمان في المنطقة العربية. وقد تُرجمت معظم مسرحيات برشت إلى العربية في ستينات القرن العشرين، ومُثلت في عديد من المسارح العربية. وربما يقترن اسم برشت عربيا باسم د. عبدالغفار مكاوي الذي نقل إلى العربية عددا كبيرا من قصائده وكان أول من عرّف القراء العرب بمسرحه، فترجم “الاستثناء والقاعدة” وتلتها ترجمات أخرى عديدة، مثل “بعل” و”السيد بونتيلا وتابعه ماتي” و”قائل نعم وقائل لا” و”أوبرا صعود وسقوط مدينة مهاجوني”. كما اهتم د. نبيل الحفار بمسرح برشت، فكتب عنه وترجم له عددا من الأعمال، وترجم عبدالرحمن بدوي “دائرة الطباشير القوقازية”، وأصدر أحمد حسان مختارات شعرية شاملة له.

وأكد أن تأثير برشت في المسرح العربي كان هائلاً. ومن الكتاب الذين اقتبسوا أعماله أو استلهموها ألفريد فرج في مسرحيته “علي جناح التبريزي وتابعه قفه” المقتبسة عن “السيد بونتيلا وتابعه ماتي”، ونجيب سرور في “ملك الشحاتين” المقتبسة عن “أوبرا القروش الثلاثة”. ويقول مكاوي إن أسماء الكتاب “الذين تأثروا بصور متفاوتة بمسرح برشت الملحمي ونظرياته الجمالية والفكرية -مهما أنكر بعضهم هذا التأثر خوفا على أصالتهم!ـ فاقت في كثرتها كل توقعاتي”. ويذكر مكاوي قائمة طويلة من الكتّاب، منهم -إضافة إلى فرج وسرورـ سعدالله ونوس وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عب الصبور ويوسف إدريس.

مجلة الجديد اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى