الخلفية الاقتصادية والاجتماعية للثورة السورية (جهاد يازجي)

 

جهاد يازجي*


ثمة إجماع عام على أن الانتفاضة التي تجتاح سوريا منذ آذار 2011 هي جزء من حركة إقليمية أعم وأشمل، انطلقت للمطالبة بحكم أفضل وحريات أوسع، ولكن النقاش لم يتناول مسألة إلى أي مدى ساهمت الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة في البلاد في الانتفاضة.
إن السؤال حول ما إذا كان السوريون قد انتفضوا  فقط بسبب تعطشهم إلى الحرية والعدالة والكرامة، أم أن المظالم الاجتماعية قد لعبت هي أيضا دورا ذا مغزى في ذلك، يبقى سؤالا مهما على أية حال، إذا ما اراد المرء أن يفهم دينامية الانتفاضة وينتج رؤية اقتصادية قابلة للاستمرار على المدى الطويل.
مع مطلع العام 2011 كانت سوريا قد شهدت على مدى سنوات عدة متعاقبة نموا في الناتج الإجمالي المحلي ما بين 4 و 5 في المئة، وعجزا محدودا في موازين المدفوعات والتجاري والمالي، وسعر صرف مستقرا للعملات الأجنبية، وارتفاعا في حجم الاستثمارات، وتقلصا في حجم التضخم. ولكن هذه الأرقام الماكرو-اقتصادية كانت تخفي، على أية حال، اختلالات عديدة، ولم تكن تعطي صورة واضحة عن الاتجاهات الاقتصاية الأخرى البعيدة المدى التي لا بد من أخذها في الحسبان كي نتمكن من فهم افضل لدينامية الثورة.
إن مستوى نمو الناتج الإجمالي المحلي على سبيل المثال يمكن أن يعتبر عاليا بالمقاييس الغربية ولكنه غير كاف على الإطلاق بالمقاييس السورية. في الحقيقة، بالنسبة لمعظم المحللين فإن سوريا بحاجة إلى معدل نمو بنسبة 8 في المئة من أجل خلق فرص عمل للقادمين الجدد إلى سوق العمل. ولكن مستوى نمو الناتج الإجمالي المحلي كان عاجزا، على امتداد أكثر من ثلاثة عقود، عن الوصول إلى هذه النسبة، وهو ما كان يعني زيادة مطّردة في البطالة على مدى ثلاثين عاما متصلة.
أما بالنسبة لعجز الميزانية المحدود فقد جاء بصورة رئيسية بسبب تقلص الاستثمارات الحكومية مما أدى إلى القصور المستمر في تطوير البنية التحتية السورية. أما بالنسبة للميزان التجاري فإن من الثابت أنه كان دائما معتمدا على صادرات النفط، والتي شكلت في العام 2010 نسبة 46 في المئة من إجمالي الصادرات السورية. بيد أن النقص السريع في مخزون النفط السوري يشكل مصدرا حقيقيا للقلق في المستقبل. هذا بينما كانت استثمارات القطاع الخاص تتركز في القطاع العقاري وقطاع الخدمات، وتنأى بنفسها عن الصناعات البعيدة المدى والتي تستخدم أعدادا كبيرة من العمالة، كصناعة النسيج التي شهدت إغلاق أعداد كبيرة من مصانعها في العقد الأخير. وفي النهاية، ومع أن الاستثمارات الأجنبية التي جذبتها سوريا كانت في حالة صعود، إلا أنها بقيت أقل من الاستثمارات التي يجتذبها بلد مثل الأردن، الذي لا يتجاوز عدد سكانه خُمسَ سكان سوريا، ولا يمتلك أيا من مواردها الطبيعية.

 الفورات والانتكاسات الاقتصادية

إن نظرة إلى الاتجاهات الاقتصادية البعيدة المدى تساعدنا في وضع الأمور في سياقها. في العام 1946، كانت سوريا عضوا مؤسسا في الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة (GATT)، وهي السلف الصالح لمنظمة التجارة العالمية – من بين ثلاثة وعشرين بلدا فقط في العالم كله. وفي العام 1950، عندما كانت الجزائر لا تزال تحت الحكم الفرنسي وكانت غالبية دول "العالم الثالث" تكافح من أجل استقلالها، كانت سوريا تتمتع باقتصاد مزدهر وحياة سياسية نابضة بالنشاط. ومن ثم جاءت ثلاثة عقود متوالية من استثمار الدولة في البنية التحتية وفي قطاعي الصحة والتعليم، ما أدى إلى ارتفاع مؤشرات التنمية للبلد. وفي السبعينات، كان مؤشر التنمية البشرية – وهو مؤشر وضعته الأمم المتحدة مركب على قياس العمر المتوقع للإنسان ومستوى التعليم ومستوى الدخل في بلد ما – يرتفع في سوريا بنسبة هي من بين أعلى المعدلات في العالم. وفي عام 1983، كان مستوى الدخل الإجمالي القومي للفرد الواحد 1901 دولار، أي أعلى من نظيره التركي الذي كان 1753 دولارا، ويكاد يلامس الدخل القومي للفرد في كوريا الجنوبية الذي كان في حدود 2187 دولارا للفرد. ولم يكن ذلك موغلا في الزمن – ثلاثون سنة فقط.
إن البحث في الفترة التالية خلال ثمانينات القرن الفائت هو أمر في غاية الأهمية من أجل تقفي الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها سوريا اليوم. ففي بداية عقد الثمانينات، تقلص الاقتصاد السوري بحدة، وكان ذلك يعود جزئيا إلى الانخفاض الحاد في أسعار النفط دوليا، كما يعود إلى تقلص التحويلات والمساعدات من دول الخليج. وجفت الاحتياطات النقدية من العملة الأجنبية، ما أدى إلى تدهور سريع في قيمة الليرة السورية  بدأ في عام 1986، العام الذي شهد بداية تدهور الطبقة الوسطى السورية. وقد ترافق ذلك مع تقلص سريع في الإنفاق الحكومي الذي كان يشكل العمود الفقري للاقتصاد السوري. ومنذ ذلك الوقت، لم يتعافَ البلد ابدا.
وفي القسم الأخير من عقد الثمانينات لاحت بارقة أمل عندما بدأت سوريا باستخراج النفط من حقول جديدة في المنطقة الشمالية الشرقية بالقرب من مدينة دير الزور. وقد تلا ذلك فورة قصيرة، ما أزكى الأمل في أن تقوم الدولة بقيادة مرحلة التعافي من خلال الاستثمار مجددا في البنية التحتية والانفتاح الاقتصادي. ولكن العكس هو ما جرى: فقد أعطت العائدات الجديدة من النفط هامشا ماليا جديا للسلطة لكي تناور، ومصدرا جديدا لكسب العملة الأجنبية، وهو ما أدى في النهاية إلى تقلص الضغط على السلطة لكي تنفتح جديا. وهكذا ضاع عقد التسعينات.
صادف العقد الأول من القرن الجديد مع وصول بشار الأسد لخلافة أبيه في الرئاسة. وقد شهد هذا العقد انخفاضا جديدا في صادرات النفط، ما هدد الوضع المالي للحكومة، فبدأت إصلاحات اقتصادية جدية. وقد اهتم التحرير التدريجي للاقتصاد الذي كان موجها نحو قطاع الخدمات بتحديث الإطار التشريعي للاستثمار، وخفض الضرائب على الشركات الخاصة، وأزال عوائق عديدة كانت موجودة أمام التجارة، وشجع استثمارات القطاع الخاص في الصناعات الحديثة.
وقد شجعت هذه التطورات على قيام قطاعات مصرفية وتأمينية حديثة، وذلك مع دخول ما يزيد على الثلاثين مصرفا ومؤسسة مالية إقليمية إلى السوق في سوريا. وقد جاء بناء الأسواق المغلقة (المولات) ودخول شركات إدارة الفنادق العالمية دليلا إضافيا على توسع  قطاعي التجارة والسياحة. وأكثر من ذلك، فقد أُعطيت امتيازات إلى شركات دولية خاصة لإدارة مرفأي طرطوس واللاذقية. وقد نتج عن ذلك كله فورة عامة في قطاع الخدمات. بيد أن سياسة التحرر الاقتصادي هذه قد ترافقت مع أخطاء نموذجية لمسيرات مشابهة حدثت في أماكن أخرى من الدول النامية.

سلبيات الانفتاح

تم تطبيق اتفاقات التجارة مع تركيا وبعض الدول العربية، على سبيل المثال، من دون ما يكفي من الضمانات لحماية أو تطوير الصناعات السورية. وأدى خفض التعرفة الجمركية إلى غزو الأسواق السورية بمنتجات أجنبية، ما أدى إلى إخراج أعداد لا حصر لها من المصانع والورشات من سوق العمل، بينما لم توضع آليات صحيحة كافية لتشجيع وتطوير الصادرات وتحسين شروط المنافسة.
وأهم من ذلك وأسوأ انسحاب الدولة من دعم القطاع الزراعي. فبينما كان هذا القطاع وعلى مر عقود من الزمن مساهما رئيسيا في الناتج الاقتصادي وفي سوق العمل، كان عليه في العقد الأخير أن يواجه انحدارا في الدعم في أحلك الظروف – وسط الجفاف الخطير الذي تعرضت له سوريا.
في العام 2008، وبعد ثلاث سنوات من الجفاف المتواصل، أعلنت الحكومة زيادة أسعار المازوت ثلاثة اضعاف – وهو الوقود الذي يسخدمه المزارعون في مجمل نشاطهم. وبعدها بسنة، في العام 2009، أعلنت الحكومة زيادة أسعار السماد بنسبة تراوح من 50 إلى 350 في المئة. وكان من شأن اندماج تأثير هذين العاملين – الجفاف وسوء اتخاذ القرارات – ان يؤدي الى تدهور نسبة مساهمة القطاع الزراعي في الناتج العام المحلي من 25 في المئة عام 2003 إلى 16 في المئة عام 2010، أي بنسبة ثلث مساهمته في الناتج الاقتصادي للبلاد في ما يقارب سبع سنوات فقط. وفي وقت من الأوقات تدهور انتاج القمح إلى النصف وهو الذي يعد الغذاء الرئيسي للسكان.
إن أزمة القطاع الزراعي تلك أدت، في ما أدت إليه، إلى هجرة مئات الآلاف من المناطق الشرقية إلى ضواحي الطبقة العاملة في المدن غرب سوريا، بما في ذلك دمشق ودرعا وحمص.
لقد تقاطعت هاتان الأزمتان التوأمان في قطاعي الزراعة والصناعة – أو أزمة "العالم العامِل" كما يسميها أحد المثقفين السوريين –  في العديد من المناطق الريفية وضواحي المدن السورية. ولقد عكست جغرافيا الانتفاضة السورية إلى حد بعيد تأثير هاتين الأزمتين. فقد بدأت الاحتجاجات في مدينة درعا، الواقعة في قلب منطقة زراعية واسعة، كانت أعداد كبيرة من النازحين قد لجأوا إليها قادمين من مناطق الجفاف في شمال شرق سوريا. وسرعان ما سرت النقمة في ريف إدلب وحلب سريان النار في الهشيم، حيث تعتمد الحياة اعتمادا كبيرا على الزراعة، وفي ضواحي الطبقة العاملة في حمص وريف دمشق، وهي موطن العديد من الحرفيين الذين فقدوا مصدر رزقهم بسبب عملية تحرير التجارة.
لا شك في أن نضال السوريين من أجل حياة أفضل كان مدفوعا بتعطّشهم للكرامة والعدالة والحرية. ولكن لكي لا نرتكب أي خطأ ينبغي التنبه إلى أن القمع وانعدام العدل الذي تشعر به فئات واسعة من السوريين لا يمكن فهمه ما لم نأخذ في الحسبان ظلاله الاقتصادية. إن الفقر والنزوح الإجباري وفقدان الممتلكات والتدهور التدريجي لشروط العيش الكريم هي جميعا عوامل مساهمة في الإحساس بفقدان العدل وانعدام الكرامة، ومن هنا في اندلاع الثورة السورية.

*باحث اقتصادي سوري

صحيفة النهار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى