وجهة نظر من الداخل السوري: سورية والمعارك الدموية لتبادل السلطة!
لا يمكن فصل آليات وأعراض الصراع السياسي في المرحلة الراهنة في سورية عن المراحل السابقة لها، مع أن كثيرين يعتقدون أن الحياة السياسية في المراحل الديمقراطية التي مرت منذ الاستقلال شهدت أشكالا مميزة يمكن البناء عليها في مسائل تبادل السلطة والتمثيل السياسي في الحياة العامة، وهذه مسألة تحتاج إلى تدقيق، وإلى استيعاب دروسها ..
انشغل السياسيون السوريون منذ اللحظة الأولى لاستقلالهم بالتنازع غير الهادئ على السلطة، إلى الدرجة التي وقع فيها أول انقلاب عسكري في المنطقة بعد الاستقلال بفترة قصيرة، وتمكن حسني الزعيم من الإطاحة بالحكم الديمقراطي، عبر انقلاب عسكري قام به في آذار 1949 ففتح الباب على مصراعيه أمام انقلابات عسكرية أثارت طموح الضباط الصغار والكبار للوصول إلى الزعامة عبر الوسائل غير الديمقراطية، وكان هو أول الضحايا حيث أطيح به في انقلاب سامي الحناوي بعد عدة أشهر من توليه السلطة!
في تلك المحطة البارزة في الحياة السياسية الوطنية بعد الاستقلال، ظهر نوعان من أنواع البنى السياسية حددتها طبيعة المجتمع السوري نفسه ، الأول : بنية تقليدية تعودت تبادل السلطة وفق منظومة سلمية ديموقراطية، وصلت في مرحلة ما إلى تنازل شكري القوتلي رئيس الجمهورية عن منصبه للرئيس الراحل جمال عبد الناصر عند قيام وحدة 1958 بين مصر وسورية. والثاني ، بنية عسكرية سياسية طامحة للزعامة كان تبادل السلطة فيها يتم من خلال ((مكاسرة انقلابية)) غالبا ماكانت تؤدي لسيلان الدم في البلاد، وتفتح على دوامة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني.
في النوع الأول الذي اشتهر بأنه ((ديمقراطي)) بنيت آليات العمل السياسي والحزبي في الكتلتين الرئيسيتين فيه، أي : الكتلة الوطنية وحزب الشعب، على مجموعة معطيات معروفة استخدمها السياسيون دون تردد، وهي :
الاتكاء على السمعة الوطنية في مسألة مناهضة الاستعمار والموقف من القضية الفلسطينية لترويج الزعامة السياسية، وكان عدد مهم من رجالات السياسة قد عرفوا بوقوفهم ضد المستعمر الفرنسي رغم تعرضهم لمخاطر السجن والموت ؟
الاعتماد على الولاءات الديمغرافية والدينية والطائفية والعشائرية حتى أن النشاط الانتخابي كان يعتمد على الطائفة والحي الذي يعيش فيه السياسي الذي ينتمي إلى هذا النوع، وخاصة أن التخلف كان يسيطر على شرائح واسعة من الأحياء الشعبية .
غياب الآليات الصحية للعمل الحزبي في كلا الكتلتين.
لقد أدى ذلك إلى تمثيل برلماني مشوه، كما يرى بعض الدارسين، وكان النائب حبيب كحالة قد أشار إليه عند وصفه لنواب البرلمان بأنهم رجال لايوجد بينهم شيء ولايشتركون في أية مبادئ ولايربطهم تنظيم حزبي.. وظلت السمة العامة للنوع الأول هي الانتماء إلى شرائح طبقية برجوازية متنورة اتسمت بالوطنية والتضحية من أجل الاستقلال وظلت تفضل طريق الديمقراطية في مسألة تبادل السلطة إلى أن أقصيت عن السلطة نهائيا، رغم محاولات لبعض أقطابها بالعودة بعد وقوع انفصال مصر عن سورية عام 1961.
في النوع الثاني، وهو العسكري، خضع هذا النوع لمجموعة عوامل أهمها تأثر بعض الأسماء فيه بالعامل الخارجي، وتوجه بعض الشخصيات العسكرية إلى الزعامات السياسية بالولاء، وقد استفادت إحدى الشخصيات السياسية السورية القوية ((أكرم الحوراني)) من ذلك ، وخاصة بعد اندماج حزبه ((الاشتراكي العربي)) مع حزب ((البعث العربي)) ليتشكل ((حزب البعث العربي الاشتراكي))، بأقطابه المعروفين : الحوراني إضافة إلى ميشيل عفلق وصلاح البيطار.. على أرضية تنامي التوجهات القومية في الجيش ظهرت تيارات متناقضة لعب فيها الحوراني دورا مهما استمر إلى قيام الوحدة عام 1958، وقد خاضت هذه التيارات في وحول الحياة السياسية والصراعات التي قامت على أرضية ولاءات أبعد من القطرية في معناها الوطني. فإذا نحن أمام مجموعات ترتبط بمشاريع خارجية، ومجموعات ترتبط بعمق عربي قومي، ومجموعات تسعى إلى زعامة فردية، وكانت هذه الوحول كافية لإغراق الجميع رغم محاولة مجموعتان منها الخروج من الوحول عبر التحالف والتمسك بطوق نجاة اسمه ((الثورة)) فتولت السلطة في 8 آذار 1963، فإذا بأطماع السلطة تحرق أسس التحالف .
بين آذار 1963 وتشرين الثاني 1970 ، وقعت صراعات دموية كثيرة بين حلفاء((الثورة))، فإذا بالمرحلة ((الانتقالية)) تمتد لسنوات ليحسم مسارها لصالح تيار الفريق حافظ الأسد البعثي الذي كان طيارا في مصر أيام الوحدة، ثم تدرج في الجيش فأصبح وزيرا للدفاع في 23 شباط 1966..
كان حزب البعث قد تمكن من استبعاد الناصريين إثر حركة 18 تموز 1963 التي قادها جاسم علون في معركة دموية معروفة وقعت في ساحة الأمويين، ومن ثم تم استبعاد الشخصيات والتيارات التقليدية تباعا في البعث ((ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وأمين الحافظ وغيرهم)) انتهى في حركة 23 شباط 1966 التي هوجم فيها بيت الفريق أمين الحافظ رئيس مجلس قيادة الثورة، وفي الطريق إلى عام 1970 سقطت تيارات عدة أرادت فرض مواقع سلطوية قوية لها، من بينها تيار الرائد سليم حاطوم الذي أعدم في دمشق بعد مسيرة صراع خاصة به مع بقية الأجنحة في البعث، كما وقعت هزيمة حزيران 1976 ، ثم حسم الصراع بين تياري البعث المتبقيين (( صلاح جديد، حافظ الأسد)) ، عام 1970 ..
استقرت حال البلاد بعد 16 تشرين الثاني 1970، لكن مفهموم ((تبادل السلطة))، أخذ شكلا آخر في الحياة السياسية، حيث راح الصراع يتحول في البلاد تناقضات من نوع آخر وإلى أشكال دموية مدمرة امتدت بدرجات متفاوتة بين عامي 1977 و1983 مع تنظيم الاخوان المسلمين والمجموعات الخارجة عنها ومن بينها الطليعة المقاتلة ، ولم تتمكن سنوات الصراع تلك من إسقاط النظام القائم، لكنها تركت آثارا جسيمة على البنية الاجتماعية ..
تناقضات هذا المسار المكثف للصراع على السلطة في سورية، ظلت آثاره تحت الرماد إلى عام 2011 عندما اندلعت موجات ((الزلزال الهائل)) في المجتمعات العربية التي أعقبت احتجاج محمد البوعزيزي بحرق نفسه، والتي أطلق عليها الربيع العربي، فوقعت الأزمة في سورية بعد تونس ومصر وليبيا واليمن ، وكان واضحا أن مسألة تبادل السلطة هي أهم عناوين الأزمة المطروحة، ولم يكن أحد يتوقع أن هذه المسألة ستتسبب في أطول حرب يعيشها السوريون بعد حرب الاستقلال، وتداخلت فيها عوامل خطرة زادت في اشتعالها من بينها الصراعات الاقليمية والدولية، وتنامي النشاط الارهابي واستفحاله ..
من الطبيعي أن يسأل السوريون عن معطيات الحل الوطني السوري، في ضوء تاريخية الصراع على السلطة، وهنا لابد من التأكيد سريعا على النتائج التالية :
أولها : أدى انقلاب حسني الزعيم عام 1949 ، وظهور الكاريزما القومية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد العدوان الثلاثي على مصر، أدى ذلك إلى غياب أي أثر لمفهوم تبادل السلطة، وظهور رغبات فردية تريد محاكاة تجربة عبد الناصر، وهذا يعني: ظاهرة الاكتفاء باستمرارية الزعامة الفردية على أرضية الشعارات الوطنية والقومية ..
وثانيها : توسع نفوذ الجيش الوطني في المجتمع نتيجة القداسة التي يتمتع بها في قضية الصراع مع إسرائيل والتي لم تحسم حتى الآن، ومع توسع نفوذ الجيش لم يعد من السهل ظهور انقلابات بين عشية وضحاها، وهذا ماسمي بعد 16 تشرين 1970 بالاستقرار وسقوط مرحلة الانقلابات .
وثالثها : انتشار الفساد في أعلى مواقع السلطة وأخطرها، نتيجة الترهل في بنى المجتمع والالتفات إلى أولوية تحصين قوة النظام السياسي القائم بغض النظر عن تلبية احتياجات التطور الاجتماعي والاقتصادي وحاجته الماسة إلى مفهوم جديد للنظام السياسي للدولة أقله أن يفسح في المجال لأي شكل من أشكال تبادل السلطة .
أما الأثر الرابع، وكان هو الأخطر، فكان يتعلق بظهور أخلاقيات مرضية في بعض البنى الاجتماعية الطفيلية تنافق لتحقيق مصالحها الآنية، وتنخرط في بنية النظام السياسي، وكانت توهم المجتمع بأن الاستقرار قائم، وأن ثمة اجماع على الآليات المتبعة في النظام السياسي، فيما كان المجتمع يتحول ببطء إلى بيدر مليئ بالقش اليابس، يمكن لأي كان إشعاله إذا لم يتم تدارك الأمر !
إذن، كانت مسألة تبادل السلطة بمثابة ((كعب آخيل)) في القوة الاقليمية لسورية، فكيف يتم سحب السهم من هذا الكعب لتعود سورية قوية وتؤسس لزمانها القادم على انقاض الدمار والكراهية والموت ؟!
بالتأكيد يتم ذلك في صياغة مشتركة لمبدأ تبادل السلطة يعيد الثقة للجميع في العيش وفق منطق دستوري ديمقراطي/ وذلك هو في صالح الجميع، وعلى الجميع أن يكونوا على أقصى درجات التضحية لتحقيقه، وسوف لن يتم تحقيق ذلك باستمرار الحرب، بل سيكون السوريون أمام احتمالين أحدهما هو التقسيم والمزيد من انتشار الإرهاب والثاني هو حرب الآخرين على الأرض السورية، و حرب السوريين على السوريين!